كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كان الرئيس السادات مهمومًا ببدء الحرب ضد إسرائيل لتحرير سيناء، وقد قبل السادات في بادئ الأمر مبادرة روجرز -وزير الخارجية الأمريكية- لوقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل لمدة 90 يومًا، ودخول مصر وإسرائيل خلال تلك المدة في مفاوضات غير مباشرة يتولاها مبعوث الأمم المتحدة (يارنج) بشأن تنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 242.
كان بدء تطبيق المبادرة في أغسطس عام 1970، ولكن المبادرة لم تسفر عن جديد، فمع استجابة الطرفان لوقف إطلاق النار، فإن إسرائيل لم تفِ بالشرط الثاني، ولم تمارس أمريكا أي ضغط على إسرائيل للاستجابة للمفاوضات طبقًا لمبادرة روجرز، فما كان من السادات بعد انتهاء مدة المبادرة -الشهور الثلاثة-؛ إلا أن رفض مد وقف إطلاق النار أكثر من تلك المدة رفضًا لسياسة فرض الواقع؛ هذا رغم أن السادات لم تكن لديه حلول نهائية، فالجيش غير مستعد لشن حرب تحرير شاملة يحرر بها أرض سيناء بالكامل، مع صعوبة العودة لمواصلة حرب الاستنزاف مرة أخرى، فهي وإن كانت مكلفة ومرهقة لإسرائيل فهي أيضًا مكلفة لمصر، وبقاء الوضع على اللا حرب واللا سلم كما تريده أمريكا وإسرائيل كذلك أمر مرفوض. ورغم عدم وضوح الرؤية كانت توجيهات السادات لوزير الحربية وقتها الفريق محمد صادق بالإعداد للحرب.
أما أحمد إسماعيل فإنه كان أيضًا مهمومًا بهذا الأمر خلال فترة إحالته للتقاعد، والتي بدأت من 12 سبتمبر 1969 واستمرت قرابة عام ونصف عام، فرغم إحساسه بالظلم والحزن لقرار إبعاده عن الجيش فقد استغل هذا الوقت في المزيد من القراءة في العلوم العسكرية الحديثة، وفي النظر والتأمل في أمر النزاع مع إسرائيل، ودراسة الأوضاع العالمية وأوضاع الجيش. وقد كون لنفسه رؤية وقناعة لحل النزاع مبنية على:
- إنه لا سلام مع إسرائيل بعد هزيمة يونيو 1967 إلا بعد حرب جديدة يغسل فيها الجندي المصري عار الهزيمة.
- إن الانتظار لتحقيق التفوق العسكري على إسرائيل قبل دخول هذه المعركة أمر غير وارد، فهذا يحتاج لوقت طويل، وهذا الانتظار الطويل ليس في صالح مصر، فيجب أن نحارب بما لدينا من سلاح مع الاستفادة من عناصر القوة الموجودة لدينا، ومن عناصر الضعف الموجودة لدى العدو بعد دراسة وعلم.
- في ظل التفوق الإسرائيلي عسكريًّا ومعطيات الموقف السياسي يجب أن يكون تحرير سيناء على مراحل، لا من خلال حرب شاملة؛ تبدأ المرحلة الأولى بما لدينا من سلاح وإمكانيات حالية، وتتضمن عبور القناة وإقامة رؤوس كباري وتدمير الساتر الترابي، واقتحام خط بارليف والاستيلاء على مواقعه الحصينة، ثم التشبث بالأرض والمحافظة على الجيش المصري لاستكمال عملية تحرير سيناء بالكامل على مراحل.
كانت الأفكار تتوارد على خاطره وتؤرقه:
- فتفوق العدو الجوي وضرباته الجوية شبه اليومية والتي قد تستمر لفترات طويلة دون التمكن من الرد عليها بنفس القوة وتكبيد العدو الخسائر المناسبة، ستؤثر على معنويات القوات المسلحة والشعب تدريجيًّا.
- لذا لا بد من التحرك المحسوب بما يتناسب مع إمكانياتنا وقدراتنا للرد على العدو، ومن ذلك: استخدام أسلحتنا التي تتفوق على العدو على نطاق واسع، وهي المدفعية والقوات الخاصة.
- الحاجة إلى دفع النطاق الدفاعي لقواتنا إلى شرق القناة، بعد عملية عبور وإنشاء رؤوس كباري والتشبث بها؛ خاصة وأن العدو قد سحب قواته الرئيسية في سيناء للخلف مما جعلها خارج نطاق نيران المدفعية وأسلحة الضرب المباشر؛ بالإضافة إلى وجود قناة السويس التي تعد عقبة في حرية العمل ضد العدو، فوجود قواتنا في مواجهة مباشرة مع قوات العدو تمكننا من الاستفادة من أسلحتنا التي تتفوق على العدو بكفاءة وتأثير متمثلة في المدفعية والقوات الخاصة، وفي وجودنا في مواجهة مباشرة مع العدو وتحسين مواقعنا تدريجيًّا شرق القناة بعمليات متتابعة يجبر العدو على حشد أعداد كبيرة من قواته في سيناء في مواجهة قواتنا مما يرهق العدو عسكريًّا واقتصاديًّا.
- الحاجة إلى فترة تدريب تتراوح بين 3 إلى 4 شهور يتم فيها تدريب القوات كلٌّ على واجبه فقط، مع التركيز على أعمال الاستطلاع للحصول على معلومات دقيقة حول أوضاع دفاعات العدو، على أن يتم حشد القوات وأدوات العبور والمدافع تدريجيًّا بشكل لا يلفت النظر؛ لتبدو كما لو كانت تحسين لمستوى الدفاع.
- ضرورة دفع الدول الكبرى لوضع حل عادل للموقف بصورة جدية، ونكون به في وضع مشرف لنا سياسيًّا وعسكريًّا (راجع في ذلك: مشير النصر: مذكرات أحمد إسماعيل وزير الحربية في معركة أكتوبر 1973، إعداد مجدي الجلاد: 10، ص 82 - 87).
وفي صباح يوم 14 مايو 1971 قرر السادات خلال صراعه مع مراكز القوى عودة أحمد إسماعيل للعمل من جديد، وتعيينه رئيسًا للمخابرات العامة، وكانت تربط الرجلين صداقة قديمة بدأت عام 1938 عقب التخرج من الكلية الحربية، والعمل معًا في الكتيبة الرابعة مشاة، فكانا ينامان في حجرة واحدة في أحد ثكنات الكتيبة، وكان السادات يقدر تمامًا كفاءة الرجل وخبراته العسكرية.
قال أحمد إسماعيل عن فترة العمل في المخابرات: (الواقع إن مسئولية إدارة جهاز المخابرات المصرية جعلتني غير بعيد، بل ربما قربتني جدًّا من القوات المسلحة ورفاق السلاح والعمر، لكنني رغم تلك المشاركة والاقتراب المباشر من القوات المسلحة لم أتوقع أن يجيء اليوم الذي أعود فيه إلى القوات المسلحة مرة ثانية، وإلى صفوف الجيش) (المصدر السابق، ص 121).
وأضاف في موضع آخر: (كثيرًا ما ألمح إلي مراقبون سياسيون أن اختيار السادات لي لرئاسة المخابرات العامة ما هو إلا تمهيد لتولي أمور القوات المسلحة، لكن بعد أن تتهيأ الأمور، وكان هذا صحيحًا فيما بعد، وعلمت أن السادات كان ينوي أن يعهد إليَّ بمهمة قيادة القوات المسلحة من البداية، ولكن لحكمته لم يفعل ذلك مباشرة، وجعل من محطة المخابرات الخطة الأولى لهدفه. وكنت لذلك الرجل العسكري الوحيد الذي رافق الدكتور عزيز صدقي رئيس الوزراء المصري إلى موسكو بينما بقي وزير الحربية في القاهرة) (المصدر السابق).
كان أحمد إسماعيل بحكم عمله رئيسًا للمخابرات العامة يقابل السادات بشكل مستمر، وكان السادات يتناقش معه في أمر الحرب مع إسرائيل من وقت لآخر؛ خاصة وأن السادات كان قد أعلن أن هذه السنة هي سنة الحسم، وخلال تلك المقابلات أدرك أحمد إسماعيل أن السادات لديه نية قوية لإعلان الحرب على إسرائيل، فانتهز الفرصة وعرض عليه رؤيته وخطته للحرب وتحرير سيناء على مراحل، تبدأ بالحصول على الضفة الشرقية للقناة أو جزء منها.
تولي وزارة الحربية:
قال المشير في مذكراته: (كان اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 24 أكتوبر 1972 الذي انعقد في مكتب الرئيس بالجيزة في الساعة التاسعة من المساء، واستمر ثلاث ساعات وربع الساعة يعتبر أخطر اجتماع تاريخي إذا أردنا أن نقيم الوثائق العسكرية لحرب أكتوبر. لقد حدَّد الرئيس السادات في هذا الاجتماع الموقف الحاسم دون أن يسمح بأي تراجع أو تشكيك؛ الموقف هو الحرب، وتحريك القضية عسكريًّا. وأعلن للقادة في هذا الاجتماع أنه ليس الرجل الذي يناور لكي يحتفظ بكرسي الرئاسة، وأعلن أنه لن يستسلم، وأن الموت في سبيل الأرض أشرف من هذه الحياة المهينة. وقال لأعضاء المجلس الأعلى: إنه يستدعيهم ليبلغهم هذا القرار المصيري، لا مناقشة في قرار الحرب، ولكن يجب الاستعداد بالتخطيط والدراسة، والاعتماد على ما نملك من تسليح... وعلينا أن نعوض التفوق الإسرائيلي بروح العسكرية المصرية، بروح المقاتل المصري، بشجاعة الإنسان المصري. وفي هذا الاجتماع اتضح أن بعض القادة لا يريدون الحرب، وقد كونوا تفكيرهم على أن إسرائيل ستنتصر وتضرب في الأعماق، وستكون النتيجة خرابًا... وذلك بسبب موقف الاتحاد السوفيتي من ناحية التسليح).
وذلك لأن الاتحاد السوفيتي كان يتعنت في إمداد مصر بما تحتاجه وتطلبه من السلاح؛ خاصة بعد طرد السادات للخبراء السوفييت من مصر، بل كان يرفض على الدوام مد مصر بأسلحة هجومية مقتصرًا على مدها بالأسلحة الدفاعية وفي حدود (وغضب أنور السادات في هذا الاجتماع، وأصر على قرار الحرب، وأعلن أنه مؤمن بالعسكرية المصرية، وإذا كانت إسرائيل متفوقة في الجو... فلن تتفوق أبدًا على الأرض، وأنه علينا أن نواجه قدرنا ومصيرنا بشجاعة... إن الاتحاد السوفيتي لن يحارب من أجلنا، ونحن نرفض أن يحارب أحد من أجلنا، هذه معركتنا، إما أن نكون أو لا نكون، هذا قدرنا التاريخي، ويجب أن نواجهه.
كانت جلسة عاصفة، ولكن غالبية أعضاء المجلس الأعلى أعلنوا أنهم مصرون على المعركة ومستعدون للتضحية، وبعد هذه الجلسة صدرت قرارات الرئيس بإعفاء الفريق صادق وزير الحربية، واللواء عبد القادر مساعد وزير الحربية) (المصدر السابق، ص 127 - 128 بتصرفٍ).
وفي 26 أكتوبر 1972 م الموافق 19 رمضان 1392 هـ، عين الرئيس السادات أحمد إسماعيل وزيرًا للحربية وقائدًا عامًّا للقوات المصرية، وكلفه بإعداد القوات المسلحة للقتال بخطة مصرية خالصة.
كانت أول جلسة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة -أي: مع قادة الجيش- تعقد برئاسة أحمد إسماعيل بعد 48 ساعة من توليه الوزارة -أي: في 28 أكتوبر- فكانت توجيهاته:
- أن القضية لن تحل سلميًّا، ومهمتنا تحرير الأرض بالقتال، والسبيل لتحرير الأرض هو القوات المسلحة.
- المهم أولًا التأكد وفورًا من كفاءة الخطة الدفاعية عن الدولة.
- يجب أن تشعر إسرائيل أننا قادرون وبشتى الوسائل على استرداد الأرض وتكبيدها خسائر لا تتحملها.
- من اليوم حتى بدء القتال يجب أن يستغل الوقت المتيسر وبجدية كاملة في سبيل المعركة، وهذا يتطلب إتقان كل فرد عمله، مع الجدية في التدريب، والمحافظة على السلاح، وتكاتف الجميع كفريق واحد يعمل لهدف واحد هو المعركة.
وفي الاجتماع الثاني في الشهر الثاني من تولي القيادة كانت العجلة على الجبهة تدور بجدية، وأكد أحمد إسماعيل على:
- وجوب الاقتناع الكامل بأنه لا يوجد حل سلمي، وأننا عسكريون لا دخل لنا بالسياسة.
- لا بد من المعركة لحل القضية، وسنقاتل -بإذن الله-.
- إن المعركة ستكون شرسة، فلا بد من الاستعداد لها تمامًا.
- إن المعركة ستكون بإمكانياتنا المتيسرة، وبحسابات دقيقة دون تهور، وفي الوقت نفسه دون تخاذل.
- إننا لسنا وحدنا في المعركة، فبعد الزيارة لسوريا تأكد إمكانية التنسيق معها، وستكون له نتائج حاسمة -بمشيئة الله-.
وبنى أحمد إسماعيل العمل على مراحل ثلاثة:
الأولى: الاطمئنان التام على الخطة الدفاعية الموضوعة ومراجعتها بواسطة القادة على كافة المستويات، واستكمال مسرح العمليات بما يؤمن الخطة الدفاعية ويخدم المعركة الهجومية، وتجهيز الردع، والتدريب المتواصل والشاق ليل نهار لإعداد القوات لمهامها.
الثانية: إعداد الخطة الهجومية، واستكمال تجهيز مسرح العمليات للهجوم.
الثالث: استكمال إعداد القوات للهجوم، وانتظار القرار السياسي لبدء العمليات وبكل جدية، مع التأكيد على الابتكار وعدم النمطية والعناية الكاملة بالأسلحة والمعدات.
التنسيق مع سوريا وتوريد صفقة الأسلحة الروسية:
قال أحمد إسماعيل في مذكراته: (كان الإعداد للحرب يتطلب مني أداء مهمتين: الأولى: التنسيق مع سوريا في سرية تامة للدخول في الحرب، بعد أن طلب الرئيس أنور السادات مني بدء الاستعداد للحرب فعليًّا، وهو ما استدعى سفري إلى سوريا يوم 10 نوفمبر عام 1972. وكان معي اللواء محمد عبد الغني الجمصي رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة، واللواء حسن الجريدلي سكرتير عام وزارة الحربية، وسكرتيري العسكري حمدي الجندي. وقضينا في سوريا 3 أيام، اجتمعت فيها مع الرئيس حافظ الأسد لمدة 3 ساعات منفردين، وطلب حافظ الأسد أن نكون بمفردنا، وأمر الجميع أن يتركوا المكتب، بمَن فيهم وزير الدفاع السوري، وتحدث معي عن الحرب التي كنا نخطط لها.
وبعد هذه المقابلة وافق الأسد على دخول سوريا الحرب مع مصر، وظللنا خلال ثلاث ساعات نتناقش في كيفية التنسيق بين البلدين، وعدم تخلي أي منهما عن الآخر في الحرب، واتفقت معه على ذلك، وهو ما يفسر تطوير مصر للهجوم على إسرائيل أثناء الحرب يوم 14 أكتوبر عام 1973 لتخفيف الضغط على الجبهة السورية التي كانت إسرائيل قاربت السيطرة عليها.
أما المهمة الثانية: فكانت صفقة أسلحة الاتحاد السوفيتي، التي تعتبر من أهم المهام التي قمت بها، رغم أنها شديدة الصعوبة بعد ترحيل الخبراء الروس من مصر عام 1972؛ وقتها كانت العلاقات سيئة بين مصر وروسيا، وعندما سافرت إلى روسيا استطعت إبرام اتفاق معهم بشكل شخصي لتوريد صفقة الأسلحة لمصر تقديرًا من الروس لقدرتي العلمية والعملية ولارتباطهم بي بشكل شخصي، وتعتبر الصفقة من أكبر الصفقات التي قامت بها مصر مع روسيا بشكل مباشر عبر مدير المخابرات الروسي وقتها (أندروا بوف)، وكان صديقًا شخصيًّا لي، وكان لـ(بوف) سلطة قوية في الاتحاد السوفيتي، وعن طريقه استطعت إتمام الصفقة. وكان الاستعداد للحرب يجري على قدم وساق، كنا نسابق الزمن ونقص الإمكانيات، ونعالج كل ما يصادفنا من عوائق) (المصدر السابق، ص 137- 138).
وخلال الفترة من تعيين أحمد إسماعيل وزيرًا للحربية في أكتوبر عام 1972 وبدء الحرب في أكتوبر عام 73 زار أحمد إسماعيل سوريا 5 مرات لتنسيق جهود القوات المسلحة في البلدين للقيام بعمل عسكري مشترك في إطار الاتفاق السياسي بين كلٍّ من الرئيس أنور السادات والرئيس حافظ الأسد، كانت الزيارة الأولى بعد التعيين وزيرًا للحربية بنحو أسبوعين، كانت في الفترة من 10 إلى 13 فبراير 1972، وكان هدفها مراجعة الخطة والتخطيط والإعداد لعمليات هجومية مشتركة. وفيها تبادل وجهات النظر في الموقف مع الرئيس الأسد، وتبادل الآراء مع وزير الدفاع السوري اللواء مصطفى الطلاس والقادة العسكريين السوريين، في ضوء الاقتناع الكامل بعدم جدية الحل السلمي، وتوجيه القوات المسلحة السورية لنفس المهام التي صدرت بها الأوامر للقوات المسلحة المصرية. وكانت الزيارة الخامسة والأخيرة في الأسبوع السابق للحرب في يوم الثلاثاء 2 أكتوبر 1973، كان الذهاب وكانت العودة في نفس اليوم، وكانت لتحديد ساعة الصفر والاتفاق النهائي عليها.
دعم الروح المعنوية:
قال المشير: (كان لا بد من دعم الروح المعنوية لدى قوات الجيش المصري، وما أكدت عليه هو أنني لم أغير من هؤلاء الرجال أو أبدلهم تبديلًا، وكل ما فعلته إذا كان لي فضل أني هيأت لهم المناخ الطيب والظروف الجيدة، وهنا تأججت نفوسهم وتوهج تحت النيران جوهرهم الأصيل. كانت مهمتي في سبيل ذلك -وكحلول عاجلة- أن أعيد الثقة للرجال برفع روحهم المعنوية. وإذا كانت الحرب امتدادًا للعمل السياسي، أو هي كما يقولون سياسة بالنار، فليس معنى ذلك خلطًا بين الاثنين، للسياسة رجالها وللقتال رجاله، ومِن ثَمَّ فنحن عسكريون لنا واجب وأمامنا مهمة، ومهارتنا تتمثل في كيف نرفع من درجة استعدادنا وكفاءتنا القتالية، لا أن نتحدث بالسياسة، وعبرة التاريخ أمامنا شاهد يقول: إن السياسة عندما تدخل الجيوش تفسدها) (المصدر السابق، ص 137).
وأضاف المشير: (لقد كنت مقتنعًا طوال فترة خدمتي العسكرية أن الرجل لا السلاح هو الذي ينتصر، فالنصر يكون أولًا في قلوب الرجال ثم يكتسبه الرجال في ساحة القتال، وعلى هذا لا يمكن للمقاتل مهما تكن رتبته أو درجته ومهما تعطه من سلاح أن ينجح أو ينتصر إلا إذا وثق في نفسه أساسًا، ووثق في قادته وسلاحه، وفي عدالة قضيته؛ كل هذا إلى جانب إيمانه أولًا وأخيرًا بالله) (المصدر السابق، ص 166).
ولقد كانت من سمات المشير أحمد إسماعيل التي انفرد بها عمن سبقه في وزارة الحربية وقيادة القوات المسلحة، وساهمت في تحقيق النصر: أنه نأى بنفسه عن الخوض في أمور السياسة والتنافس فيها، فأخلص نيته لحرب التحرير، وركز كل جهوده على الإعداد للمعركة الحتمية المرتقبة، فصنع في خلال عام ما لم يفعله غيره في سنوات.
صيحة: (الله أكبر):
قال المشير في مذكراته: (وقد ظن الكثيرون أن صيحة (الله أكبر) التي دوت في سماء المعركة منطلقة من قلوب جنود مصر قبل حناجرهم كانت صيحة متفقًا عليها، ولكن حقيقة الأمر لم تكن كذلك. ففي العام 1970 اقترحت الشئون المعنوية جعل صيحة (الله أكبر) هي الهتاف الذي يردده الجنود أثناء التدريب بدلًا من صيحة (ها) المعتادة، ولكن مع زحام الإعداد للحرب والغوص في التفاصيل نسينا الأمر حتى كانت حرب أكتوبر حينما بدأ الجنود العبور للضفة الشرقية، فانطلقت الصيحة مدوية بعفوية تامة ودونما إعداد مسبق. لقد كان ذكر الله -عز وجل- حاضرًا في المعركة في قلوب وأذهان الجنود، كانوا يعلمون أنه معهم وهم يدافعون عن الحق والوطن).
وأضاف: (أتذكر هنا مقولة رددها رئيس الأركان الإسرائيلي (دافيد إليعازر) بعد حرب أكتوبر حينما قال: (كانت أكبر مفاجأة لنا في هذه الحرب كفاءة الجندي المصري وإصراره... واستعداده للتضحية بروحه لتحقيق هدفه) (المصدر السابق، ص 183- 184).
زوجة المشير في لندن للعلاج:
كانت زوجة المشير قد اشتكت من ورم في يدها، واحتاجت إلى السفر إلى لندن لعمل فحص شامل عند طبيب مختص، وكان أحمد إسماعيل رافضًا لفكرة السفر دون أن يبدي سبب الرفض، وهو التحسب لاندلاع الحرب، ومع إصرار الزوجة على السفر، وهي لا تعلم سبب رفض السفر، ولحاجتها للعلاج وافق المشير على سفرها للعلاج شريطة أن تعود في أسرع وقت بمجرد انتهاء العملية الجراحية المنتظرة.
سافرت الزوجة مع ابنتيها إلى لندن وقامت بالفحوصات اللازمة وأجرت العملية المطلوبة، واحتاجت إلى البقاء في المستشفى يومين أو ثلاثة بعد العملية، لكن السادات أرسل إليها في لندن مدير مكتب المشير ليطلب منها سرعة العودة لمصر دون إخبارها شيئًا عن قرار الحرب. واستجابت لطلب العودة وتركت الزوجة المستشفى دون أن تخبر الطبيب المعالج لها، ولكن نتيجة عطل بالطائرة يحتاج لإصلاح تأخر سفر الطائرة إلى اليوم التالي، وفي اليوم التالي كانت المفاجأة أن الحرب بين مصر وإسرائيل قد اندلعت وبالتالي تعذر السفر، وخوفًا على الزوجة وابنتيها من تعرض حياتهن للخطر إذا علمت إسرائيل بوجودهن في لندن كانت الأوامر للسفير المصري في لندن بالتحفظ على الزوجة وابنتيها في أحد الفنادق في لندن تحت الحراسة، حتى يأتي السماح لهن بالسفر، وهو ما حدث، حتى نجحن بعد ذلك في العودة لمصر عن طريق السفر إلى ليبيا، ومنها كانت العودة لمصر عبر الحدود الليبية (راجع في ذلك المصدر السابق، ص 144- 145).
تكريم البطل:
منح السادات رتبة المشير للفريق أول أحمد إسماعيل في فبراير 1974 اعتبارًا من السادس من أكتوبر 1973، ليكون بذلك ثاني ضابط مصري يصل إلى هذه الرتبة بعد المشير عبد الحكيم عامر. كما حصل المشير أيضًا على وسام نجمة سيناء من الطبقة الأولى، وتم تعيينه في 26 أبريل 1974 نائبًا لرئيس الوزراء.
نهاية حياة مليئة بالكفاح:
في 25 ديسمبر عام 1974م الموافق ثاني أيام عيد الأضحى 1494 هـ توفي المشير أحمد إسماعيل في أحد مستشفيات لندن، بعد إصابته بمرض سرطان الغدد الليمفاوية، وذلك عن عمر يناهز 57 عامًا، كان ذلك بعد أيام من اختيار مجلة الجيش الأمريكي له كواحد من ضمن أكثر 50 شخصية عسكرية أضافت للحرب تكتيكًا جديدًا.