كتبه/ وائل رمضان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالأخوة الإيمانية الصادقة منحة ربانية، تغمر القلب بمشاعر الحُبّ والودّ والرحمة، والترابط والتآلف والإيثار، والمواساة وسلامة الصدر، وطهارة القلب؛ إنها إشراقة ربَّانية ونِعمة إلهيَّة يغدقها الله -عز وجل- على قلوب المخلصين من عباده، والأتقياء من خلقه الذين علم منهم صدق إيمانهم وعميق إخلاصهم.
الأخوة الإيمانية تفُوق إخوة النسب، فالله أمر بالمؤاخاة بين المؤمنين والمسلمين، ولو اختلفت أنسابهم وتباعدت أوطانهم، فقال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي، الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي) (رواه مسلم).
الأخوة الإيمانية هي القاعدة العظيمة التي بنى عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- المجتمع الإسلامي الأول، وسعى لتأصيلها وتثبيت أركانها في واقع المسلمين، وبيَّن فضلها ومكانتهـا عند الله -عز وجل-.
وللأخوة الإيمانية ركائز صلبة، ومقومات تقوم عليها، تمدها بالثبات والاستقرار والاستمرار، ولو ذهبنا نعدد تلك المقومات لن نحصيها كثرة، ولكن سنوجزها فيما يلي:
الأخوة صدقٌ وإخلاصٌ:
الصدق والإخلاص أصل كل حال، وقد أمر الله -تعالى- أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين) (التوبة:119)، والمحبة الصادقة طريق إلى حلاوة الإيمان؛ لما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَجِدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ فَلْيُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لله) (رواه أحمد والحاكم، وحسنه الألباني)، وبهذه المحبة الصادقة يكون المرء في ظل الرحمن يوم القيامة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ، يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: ... ) وذكر منهم: (وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه: اجتَمَعا عَلَيهِ، وتَفَرَّقَا عَلَيهِ) (متفق عليه)، وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "عليك بإخوان الصدق، تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء، وعُدَّة في البلاء".
الأخوة عفوٌ وصفحٌ:
العفو من أهم ركائز الأخوة الإيمانية ومقوماتها، فهو يزيل العداوة والكره، ويذهب البغضاء والشحناء، قال -تعالى-: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر:85)، وقال -تعالى-: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134)، والعفو يوجب على المؤمن أن يصبر محتسبًا لما يجده من إخوانه من جفاء وغلظة، ويتحمل كل ما يلقاه منهم مِن إساءة وأذى قولي أو فعلي، حفاظًا على الأخوة، وحرصًا على بقائها واستمرارها.
الأخوة بذلٌ وعطاءٌ:
البذل برهان صدق المحبَّة، ودليل متانة عقد الأخوة، وترجمة سلوكية لحقيقتها، فالأخوة تظل شعارًا فقط، إن لم يتبعها بذل وعطاء وإيثار، فالأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه، قال الله -تعالى-: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر:9)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَحَبُّ النَّاسِ إلى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، يَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ يَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ يَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِي مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ- شَهْرًا) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) (متفق عليه).
الأخوة نصحٌ وتناصح:
مِن مقتضيات الأخوة الإيمانية: النصيحة والتناصح؛ فلا خير فيمَن لا يقولها، ولا خير فيمن لا يسمعها، فالأخوة الصادقة لا تستقيم ولا تقوم لها قائمة إن لم تقم على التناصح، فالتناصح شرط وجود وصحة، وثبوت ودوام، لا تصح أخوة إلا به، ولا تستقيم العلاقة إن قامت على أساس غيره، قال -عليه الصلاة والسلام-: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ) قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ: (إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ) (رواه مسلم).
أثمن منحة ربانية:
إن مفهوم الأخوة الإيمانية مفهوم عميق في الرؤية الإسلامية، فهو يتعدَّى مفاهيم الصداقة والمعرفة، والزمالة والصحبة، وغيرها من التعريفات الاجتماعية؛ لذلك جعله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أثمن منحة ربانية للعبد بعد نعمة الإسلام، فقال: "ما أعطي عبدٌ بعد الإسلام خيرًا من أخٍ صالحٍ، فإذا رأى أحدكم ودًّا من أخيه فليتمسك به"، فأعظِمْ بها مِن نعمة.