الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 02 يونيو 2025 - 6 ذو الحجة 1446هـ

أثر الكلمة

كتبه/ عبد الرحمن العطار

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ -تَعَالَى- مَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ تَعَالَى لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ).

وقال أكثم بن صيفي -رحمه الله-: "رب قول أشد من صَوْلٍ".

فلربما كلمة ينطق بها المرء يَحْقِنُ دَمًا أو يُحِقُّ حَقًّا أو يُبْطِلُ باطلًا، أو يُنْكِرُ مُنْكَرًا، أو يَأْمُرُ بمعروف، أو يَرْفَعُ مَظْلَمَةً؛ فهذه كلمة نطقت بها أمة الله الصالحة آسية بنت مزاحم -رضي الله عنها-، قالت: "لا تقتلوه"؛ فكانت سَبَبًا في حَقْنِ دم إنسان وليس أي إنسان، بل نبي رسول كريم -صلى الله عليه وسلم-، وهو موسى -عليه السلام.

والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُبايِعُ الصحابة على قول كلمة الحق وعدم الخَوْفِ منها، قال عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-: "كُنَّا نُبَايِعُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ"، وكان يقول لهم: "فيما اسْتَطَعْتُمْ"؛ لأن الله لا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلا وُسْعَها.

والمؤمن لا تَلْجُمُهُ هَيْبَةُ الناس عن قَالَةِ الحق، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قام خَطِيبًا، فكان فيما قال: (أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ، إِذَا عَلِمَهُ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

فالكلمة وسيلة البيان، وبها يَصِلُ الإنسان إلى مَقاصِدِهِ في جميع مُعامَلاتِهِ؛ فبها يَنْكِحُ ويُطَلِّقُ، ويَبِيعُ ويَشْتَرِي، ويُضارِبُ ويُؤْجِرُ، ويَتَعَلَّمُ ويُعَلِّمُ ويَدْعُو إلى الخير، ويَنْصَحُ ويَأْمُرُ بالمعروف ويَنْهَى عن المُنْكَرِ، ويَنْشُرُ الفَضِيلَةَ، ويَدْرَأُ الشَّرَّ ويُحارِبُ الرَّذِيلَةَ؛ بها يُوَحِّدُ رَبَّهُ ويَذْكُرُهُ، ويَدْعُوهُ ويُناجِيهِ.

ومن أنواع الجهاد: جهاد الكلمة وإعْلاءَ كَلِمَةِ الحق، وفي الحديث عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

وإثبات الحق والمُنافَحَةُ عنه وتَثْبِيتُ عَقائِدِ المسلمين إنما يكون بالكلمة، كما أن رد الباطل ودَحْضَهُ يكون بالكلمة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لحسان بن ثابت -رضي الله عنه-: (اهْجُ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ مَعَكَ) (متفق عليه).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اهْجُوا قُرَيْشًا؛ فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ)، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ فَقَالَ: اهْجُهُمْ. فَهَجَاهُمْ فَلَمْ يُرْضِ، فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ حَسَّانُ: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تُرْسِلُوا إِلَى هَذَا الْأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ، ثُمَّ أَدْلَعَ لِسَانَهُ فَجَعَلَ يُحَرِّكُهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَفْرِيَنَّهُمْ بِلِسَانِي فَرْيَ الْأَدِيمِ. (صحيح مسلم). 

وأخيرًا: فإن الكلمة لها مفعول السحر؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا) (رواه البخاري).

فالكلمة هي سَيْفُ الداعية وحُجَّتُهُ وسِلاحُهُ؛ يُحارِبُ بها عن حَوْزَةِ الحق، ويَرُدُّ بها عُدْوانَ الباطل، وبها يَسْتَمِيلُ قُلُوبَ المؤمنين ليَتُوبُوا، وبها يُغَلِّظُ للمنافقين فَيَغُورُوا، وبفَضْلِها يَخْنَسُ الرجيم.