كتبه/ مصطفى حلمي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإنَّ دراسةَ تاريخِ بني إسرائيلَ يُشَكِّلُ رُكْنًا مهمًّا في دراسةِ العقيدةِ اليهوديةِ والتطوراتِ التي مَرَّتْ بها، حيثُ حَرَّفُوا الوحيَ الإلهيَّ للتوراةِ الأصليةِ التي أُنْزِلَتْ على موسى -عليه السلام-؛ فقد اصْطَبَغَتِ العقيدةُ اليهوديةُ بصِبْغَةِ الأحداثِ على مراحلَ تاريخِ الإسرائيليينَ، وصَاغَهَا الحاخاماتُ في كُتُبِهِمْ، ومنها (التلمودُ)، و(بروتوكولاتُ صهيونَ) اللذانِ يُعَدُّ مَحْتَوَاهُمَا المفتاحَ الحقيقيَّ لفهمِ شخصيةِ الصهيونيِّ المعاصرِ.
قال الدكتورُ علي عبدُ الواحدِ وافي: "الأسفارُ الخمسةُ بالتوراةِ مكتوبةٌ بأقلامِ اليهودِ، وتتمثلُ فيها عقائدُ وشرائعُ مختلفةٌ تعكسُ الأفكارَ والنُّظُمَ المتعددةَ، التي كانتْ سائدةً لديهم في مختلف أدوار تاريخِهِم الطويل" (الأسفارُ المقدسةُ في الأديانِ السابقةِ للإسلامِ).
كذلك فإنَّ الإحاطةَ بتاريخِهِمْ تُوَضِّحُ الحقائقَ المحيطةَ بقضايا كثيرةٍ، فإنَّ من أبرزِ معالمِ تاريخِهِمْ: صور العداء مع الشعوب المختلفة؛ قال الأستاذ العقاد -رحمه الله- في وصفه لطباعِهِم: "لا يَعْرِفُ التاريخُ لهؤلاءِ القومِ فترةً واحدةً جَمَعَتْهُمْ على أُلْفَةٍ ووِئَامٍ مع جيرانِهِمْ، فدخلوا مصرَ ونَفَرَ منهم المصريونَ، وعادوا إلى كنعانَ ونَفَرَ منهم الكنعانيونَ، وقامتْ لهم دولةٌ في عهدِ النبيِّ داودَ -عليه السلام-؛ فشَغَلَتْهُمُ الإغارةُ على جيرانِهِمْ، واتقاءُ الغارةِ من أولئكَ الجيرانِ، ثم جاءَ سليمانُ الحكيمُ -عليه السلام- فبنى لهم الهيكلَ فثاروا عليه، ثم انقسموا بعده قسمينِ: إلى الشمالِ وإلى الجنوبِ، وحَفِظَتْ كُتُبُهُمْ ما قاله الشماليونَ في الجنوبيينَ، وما قاله الجنوبيونَ في الشماليينَ، ثم سَبَاهُمُ البابليونَ، وحَمَلُوهُمْ إلى أرضِ بابلَ، فلم تَنْعَقِدِ الأُلْفَةُ بينهم وبين جيرانِهِمْ، وسَرَّحَهُمْ (قورشُ) عاهلُ الفرسِ بعد حينٍ"، إلى أنْ قال في ختامِ وصفِهِ لهم: "وجملةُ تاريخِهِمْ بعد العودةِ من السبيِ تكرارٌ لهذا التاريخِ، ولما تَفَرَّقُوا في البلادِ بعد هدمِ الهيكلِ، حَدَثَ لهم في كلِّ بلدٍ ما حَدَثَ في البلدِ الآخرِ" (الصهيونيةُ العالميةُ).
(انتهى كلام العقاد، ونحن نرى أن بني إسرائيل لما كانت تسوسهم أنبياؤهم كانوا أفضل من أعدائهم من الكفار؛ إلا أن هذا لا ينفي أن سوء أخلاق عصاة بني إسرائيل كانت أحد أسباب تسلط أعدائهم عليهم. "جريدة الفتح").
"أما الانقسامُ المذكورُ فالمقصودُ به: إسرائيلُ في الشمالِ، ويهوذا في الجنوبِ، وقامتِ الحروبُ بينهما وظلَّتْ مُشْتَعِلَةَ الأَوَارِ، يَرِثُهَا خَلَفٌ عن سَلَفٍ، حتى لَتَقْرَأَ في ختامِ الحديثِ عن كلِّ مَلِكَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ في يهوذا وإسرائيلَ هذه العبارةَ بنصِّها: (وكان بينهما حَرْبٌ كلَّ الأيامِ). قال -تعالى-: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) (الحشر: 14)" (ينظر كتاب: اليهودُ وكتابُهُمُ المقدسُ للأستاذِ كمالِ أحمدَ عونٍ).
أما عن القسوةِ والوحشيةِ في الحروبِ، فحدِّثْ ولا حَرَجَ عن بَشَاعَتِهَا مما سَجَّلَتِ التوراةُ نفسُهَا، كما يُقَرِّرُ العلَّامةُ (جوستاف لوبون): "ويَعْرِفُ جميعُ قُرَّاءِ التوراةِ وحشيةَ اليهودِ التي لا أثرَ للرحمةِ فيها، وما على القارئِ ليَقْتَنِعَ بذلك؛ إلا أنْ يَتَصَفَّحَ نصوصَ سفرِ الملوكِ التي تَدُلُّنَا على أنَّ داودَ كان يَأْمُرُ بحرقِ جميعِ المغلوبينَ وسَلْخِ جلودِهِمْ ونَشْرِهِمْ بالمنشارِ، وكان الذبحُ المنظمُ بالجملةِ يَعْقُبُ كلَّ فتحٍ مهما قَلَّ، وكان الأهالي الأصليونَ يُوقَفُونَ فيُحْكَمُ عليهم بالقتلِ دفعةً واحدةً فَيُبَادُونَ باسمِ (يهوه) من غيرِ نَظَرٍ إلى الجنسِ ولا السنِّ، وكان التَّحْرِيقُ والسَّلْبُ يَلَازِمَانِ سَفْكَ الدماءِ" (اليهودُ في تاريخِ الحضاراتِ).
وإنَّنَا نعتقدُ براءةَ داودَ -عليه السلام- مما نُسِبَ إليه، ولعلَّ صاحبَ هذا النصِّ يُحَاوِلُ تبرئةَ قومِهِ من هذه الأفعالِ بنسبتِهَا إلى النبيِّ داودَ -عليه السلام-، وقد أشارَ (لوبون) إلى أنَّ التوراةَ كتابٌ أُلِّفَ في أدوارٍ مختلفةٍ أشدَّ الاختلافِ. (ينظر: المرجعِ السابقِ).
وإذا عَرَفْنَا من هذه اللمحاتِ في تاريخِ بني إسرائيلَ بعضَ الحقائقِ المتعلقةِ بنفسياتِهِمْ وطباعِهِمْ التي لم تَتَغَيَّرْ في واقعِهِمْ المعاصرِ؛ فإنَّنَا نُرِيدُ بعد ذلك الوقوفَ على بعضِ الوقائعِ المهمةِ في تاريخِهِمْ تَوْطِئَةً لاستقراءِ وقائعِهَا وتحليلِ أبعادِهَا، بل إنَّ الديانةَ اليهوديةَ نفسَهَا قد تَأَثَّرَتْ بدياناتٍ ومعتقداتِ بابلَ -بإقرارِ أحدِ مَرَاجِعِهِمْ وهو (قاموسُ التوراةِ) الذي يُقَرِّرُ: (أنْ تُفْهَمَ الديانةُ العبريةُ مستحيلٌ ما لم يُؤْخَذْ بعينِ الاعتبارِ، وبشكلٍ مستمرٍّ، الدياناتُ والثقافاتُ الأخرى، التي نَمَتْ وتَرَعْرَعَتْ في وادي الفراتِ... إنَّ الأصولَ القضائيةَ البابليةَ، وكذلك الطقوسَ المعمولَ بها في المعابدِ البابليةِ، يجبُ أنْ تُؤْخَذَ كعواملَ حاسمةِ التأثيرِ على الشرائعِ العبرانيةِ في الأصولِ القضائيةِ والطقوسِ الدينيةِ) (ينظر: قاموسُ التوراةِ، لنسوارت سكرينبر - نيويورك 1909م. نقلًا عن التوراةُ: تاريخُهَا وغايتُهَا لسهيل ديب).
إنَّ هذا الخليطَ من الدياناتِ والثقافاتِ والطقوسِ أَفْقَدَ التوراةَ وحدةَ الموضوعِ؛ لأنَّهَا تَرْجِعُ إلى مصادرَ متعددةٍ وهو الرأيُ الذي يُجْمِعُ عليه العلماءُ اليومَ سواءٌ كانوا من رجالِ اللاهوتِ أو غيرِهِمْ. (ينظر: التوراة الهيروغليفية).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.