كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كان المشير أحمد إسماعيل يشغل منصب وزير الحربية والقائد العام للقوات المصرية خلال حرب أكتوبر 1973، حيث قام بقيادة معركة العبور خلال تلك الأيام العصيبة من تاريخ مصر، وحقق مع قادة وضباط وجنود الجيش الانتصار العظيم.
ورغم هذا المنصب وهذا الدور الكبير، فهناك الكثيرون مِن شبابنا مَن لا يعرف الرجل ودوره؛ خاصة وقد توفي المشير أحمد إسماعيل في العام التالي للحرب، في أواخر عام 1974، مما يستدعي إلقاء بعض الأضواء على حياة الرجل العسكرية ودوره في الحرب؛ خاصة وأنه قد ترك لنا مذكراته التي كتبها بنفسه قبل رحيله، والتي نُشِرت في الذكرى الأربعين لحرب أكتوبر في عام 2013، أي: بعد وفاة الرجل بتسعة وثلاثين عامًا.
وُلِد المشير أحمد إسماعيل في 14 أكتوبر 1917، في حي شبرا بالقاهرة. كان والده ضابط شرطة خدم في العديد من محافظات مصر حتى ترقَّى لرتبة مأمور في عام 1914، حيث استقر به المقام في القاهرة. وكانت والدته ربة بيت لا تختلف صورتها عن صورة الأم المصرية المحبة لزوجها وأولادها. كان ترتيب أحمد إسماعيل السابع بين أخواته؛ إذ سبقه ستة كلهن إناث. وقد توفيت والدته وهو في الثانية عشرة من عمره، ليتولى والده مهمة تربيته، حيث عهد لشقيقته الكبرى مسئولية متابعته في الدراسة، فنمَّت فيه حب القراءة، فكان حتى حصوله على شهادة الثانوية العامة يقرأ كل ما تقع عليه عيناه من كتب؛ خاصة تلك التي تروي قصص وحياة القادة العسكريين وتاريخ الحروب؛ لذا سعى للالتحاق بالكلية لحربية، ولكنه رُفِض قبوله في الكلية لكونه من عامة الشعب، فالتحق بكلية التجارة، وعندما أصدر الملك فؤاد الأول في عام 1936 قرارًا بقبول الطلاب من عامة الشعب في الكلية الحربية، تقدَّم مع غيره بأوراقه إليها وتم قبول أوراقه فيها.
تخرج أحمد إسماعيل من الكلية الحربية برتبة ملازم ثان حيث التحق كضابط استطلاع وقائد فصيلة في الكتيبة الرابعة مشاة في (منقباد)، حيث شاركه العمل في تلك الفترة زميله محمد أنور السادات، فنشأت ونمت بينهما أواصر الصداقة.
بعد ترقيته لرتبة ملازم أول بأشهر أسندت إليه مهمة قيادة سرية بلواء (الأساس)، ثم عمل بعدها مدرسًا بمدرسة الأسلحة والذخيرة، ومنح في سبتمبر 1942 رتبة (يوزباشي). واختير عام 1947 مدرسًا بمدرسة المشاة، ثم رقي لرتبة (صاغ) في يوليو 1948.
تزوج أحمد إسماعيل من صديقة لشقيقته الكبرى رشحتها له، وقد رزق منها بأبنائه الخمسة، وقد تولت هي تربيتهم وإدارة شئون البيت؛ نظرًا لانشغاله الشديد في العمل الذي يتطلب منه التغيب كثيرًا عن البيت.
شارك أحمد إسماعيل في حرب 1948، حيث كان متواجدًا بالقرب من الحدود المصرية الفلسطينية، فأقام خطًّا دفاعيًّا حصينًا في منطقة رفح.
وبعد انتهاء الحرب التحق بكلية أركان الحرب، وتخرج منها عام 1950، وكان ترتيبه الأول بين طلبة الماجستير في العلوم العسكرية. وفي فبراير 1951 حصل على رتبة (البكباشي)، وعمل مدرسًا بكلية أركان الحرب.
وبعد قيام ثورة يوليو 1952 تم اختياره من رجال الثورة مراقبًا على الصحف، ثم تولى بعدها في أغسطس 1952 أركان حرب فرقة مشاة، ثم عاد للتدريس في كلية أركان حرب. وفي العام التالي 1953 أسندت إليه قيادة الكتيبة السابعة مشاة. ومن خلال هذا الموقع شارك ضمن أعضاء المفاوضات العسكرية مع بريطانيا عام 1954، وشارك في إتمام صفقة الأسلحة التشيكية لمصر عام 1955، وتم اختياره لتدريب الضباط والجنود في الجيش المصري على هذه الأسلحة الجديدة. وتمت ترقيته إلى رتبة عقيد في الأول من يناير 1955، وقد قام في نفس العام بإنشاء نواة للصاعقة المصرية من عددٍ من أبرز الضباط تفوقًا في العلوم العسكرية، والتي نفذت في نفس العام أول عملياتها القتالية بتخطيط من العقيد أحمد إسماعيل.
بدأ العدوان الثلاثي المشترك من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل على مصر في يوم 29 أكتوبر عام 1956 ردًّا على قرار الرئيس عبد الناصر وقتها بتأميم شركة قناة السويس، بعد أن رفضت أمريكا تمويل مشروع بناء السد العالي في أسوان، كما امتنع البنك الدولي أيضًا عن التمويل. وقد شاركت فرنسا في العدوان ردًّا على دعم مصر للثوار الجزائريين في مقاومتهم للاحتلال الفرنسي للجزائر، والذي تجاوز قرنًا وربع قرن من الزمان!
أما إسرائيل فقد أزعجها حصول مصر على أسلحة روسية من الكتلة الشرقية، وبالتالي تغلبها على احتكار بريطانيا لتوريد السلاح للجيش المصري؛ خاصة بعد رفض أمريكا وقتها تزويد مصر بالسلاح، فكان حصول مصر وقتها على السلاح الروسي يعني إيجاد مصدر جديد للحصول على السلاح بعيدًا عن احتكار الغرب؛ لذا كان قرارها بالمشاركة في العدوان.
بدأ العدوان بقصف جوي من طائرات الدول المعتدية على مصر، ثم بدأت محاولة احتلال قناة السويس ومدنها، ومحاصرة الجيش المصري شرق القناة، وكان أحمد إسماعيل وقتها قائدًا للواء الثالث مشاة برتبة عقيد، وكان مقر تواجده شرق قناة السويس - في القنطرة شرق تحديدًا -، فكانت مهمته وقتها الدفاع عن مدينة بورسعيد ومنع قوات الدول المعتدية من القيام بأي عملية إنزال بالمدينة سواء كان جوًّا أو برًّا أو بحرًا فيها، كما كلف بالتعامل مع القوات الإسرائيلية التي تم إنزالها جوا عند ممر (متلا) بسيناء، فكان الاشتباك مع القوات الإسرائيلية في عدة معارك، ثم كانت الأوامر بالانسحاب إلى غرب القناة لإفشال خطط القوات البريطانية في محاصرة الجيش المصري في سيناء، ثم كانت أعمال المقاومة ضد القوات البريطانية بعد احتلالها لمدينة بورسعيد، حتى تم تحرير المدينة، وتم الانسحاب الكامل للقوات البريطانية منها في يوم 23 ديسمبر عام 1956، والذي يحتفل بذكراه سنويًّا في 23 ديسمبر باسم: (عيد النصر). وقد شاركت فرقة الصاعقة التي كان قد أنشأها العقيد أحمد إسماعيل في عمليات التصدي للعدوان الثلاثي.
وفي آخر عام 1956 التحق أحمد إسماعيل ببعثة إلى أكاديمية (فرونز) العسكرية في روسيا للتدريب مع ثمانية من ضباط الجيش المصري، فلما عاد عمل بالتدريس في ثلاث مدارس (الأسلحة والذخيرة) و(كلية أركان حرب) و(المشاة)، ثم تولى بالنيابة رئاسة أركان حرب المنطقة العسكرية الشرقية، ومنح في عام 1962 رتبة لواء. وعُيِّن في نفس العام 1962 قائدًا عامًّا للفرقة الثانية مشاة، حيث أعاد تشكيل الفرقة على أحدث الأساليب العسكرية.
هزيمة يونيو 1967 المؤلمة:
شهد أحمد إسماعيل هزيمة حرب يونيو 1967، وقد كتب في مذكراته عن أحداث يوم الخامس من يونيو، فقال: (بالنسبة لي فقد استقبلت يوم 5 يونيو عام 1967 وأنا بصحبة الفريق أول عبد المحسن مرتجي قائد جبهة سيناء، وكنت وقتها رئيس أركانه، كنا نقف في الثامنة والنصف صباحًا في مطار (تمادا) العسكري في انتظار وصول طائرة المشير عبد الحكيم عامر لتفقد أحوال الجبهة. كان قادة التشكيلات العسكرية بسيناء متواجدين في المطار معنا ليكونوا في استقبال المشير عامر الذي لم يأتِ، وبدلًا من هبوط طائرته فوجئنا بالطائرات الإسرائيلية تدك المطار على ارتفاعات منخفضة، بينما مدافع الطائرات المصرية لا تستطيع دفع أي شيء عن المطار حيث إن أوامر كانت قد صدرت لها منذ الصباح الباكر بتقييد نيرانها انتظارًا لطائرة المشير! وهكذا سارع كل القادة المحتشدين بالهرب من نيران الطائرات والقاذفات الإسرائيلية والذهاب إلى مقار قيادتهم، وسارعت أنا بالعودة إلى مقري في جبل (الميثان) بوسط سيناء، وأنا أراجع أحداث الأشهر القليلة السابقة على ذلك اليوم الذي تتابعت نكباته، وأدركت صدق حدسي في السابق من أننا اندفعنا في مغامرة عسكرية وسياسية غير محسوبة وغير متوازنة، وأنها لم تبنَ على معلومات وخطط دقيقة، والأكثر كارثية أنه لم يكن هناك تكامل بين الرؤيتين العسكرية والسياسية!
لقد كان كل منهما يسير في اتجاه رغم الدفع بالحشود العسكرية لسيناء، ولكم أن تتخيلوا حجم الغموض والكارثية حينما أعترف أنني كرئيس أركان لقوات جبهة سيناء لم أكن أعلم على وجه اليقين مهام القوات التي تم حشدها في سيناء! وهل ستقوم بالدفاع أو الهجوم؟! ووجدتُ أننا لم نبدأ الضربة القتالية في ساحة المعركة العسكرية، لكننا كنا البادئين سياسيًّا، وبشكل يوحي لإسرائيل والعالم أننا بصدد المبادرة بتوجيه ضربة عسكرية لها، وذلك باتجاه عدد من القرارات، ومنها قرار جمال عبد الناصر لقوات الطوارئ الدولية بترك المنطقة العازلة بيننا وبين إسرائيل منذ عام 1956 في الوقت الذي لم تحل محلها قوات عسكرية مصرية.
وبين المشهد السياسي المندفع في قراراته وبين المشهد العسكري المرتبك في رؤيته وأهدافه، تعرَّض المقاتل المصري لأسوأ عملية عسكرية، لم تتح له فيها فرصة الدفاع عن نفسه وسمعته القتالية، والدليل ما قامت به القوات العسكرية بالعريش، لم تتوقف عن قتال العدو إلا بعد صدور الأمر السياسي لها من القاهرة بالانسحاب أثناء عملية القتال).
وأضاف: (كان الانسحاب نفسه كارثة أخرى، فقد أصدر المشير عبد الحكيم عامر قرارًا بانسحاب القوات دون توفير حماية جوية تضمن سلامتها أثناء عملية الانسحاب، التي صدر القرار بها في الثانية صباحًا يوم السادس من يونيو. وكان على القوات المصرية السير مسافة 200 كيلو متر بدون أي خطة معدة سلفًا لتنظيم عملية الانسحاب. انسحبت القوات المصرية من صحراء سيناء إلى خط المياه عند الضفة الغربية للقناة دون أي نظام، حيث رفضت كل اقتراحات قادة الجيش التي قدموها للمشير بأن يتم الانسحاب خلال 72 ساعة. فسارت القوات شاردة في كلِّ اتجاه، لا هدف للجميع سوى الوصول للضفة الغربية للقناة للابتعاد عن ضربات العدو الإسرائيلي) (راجع كتاب: مشير النصر، مذكرات أحمد إسماعيل وزير الحربية في معركة أكتوبر 1973، إعداد مجدي الجلاد – ط. دار نهضة مصر – ط. أولى أكتوبر 2013، ص 46 - 47).
بعد هزيمة 1967 تولى أحمد إسماعيل رئاسة هيئة التدريب، حيث أنشأ ما عرف بـ(مدارس المعركة المتحركة) التي تم من خلالها إرسال ضباط وفنيين من إدارة التدريب المركزية إلى الجبهة لتدريب الضباط وضباط الصف في فِرَق تعليمية قصيرة مركزة، وكان لهذه المدارس المتحركة دور كبير في ذلك الوقت؛ لأن الظروف لم تكن تسمح بعودة الضباط وضباط الصف للتدريب في القاهرة وتغيبهم عن مواقعهم، وقام بعمل أول خط دفاعي، وإعادة تنظيم القوات وتسكينها غرب القناة وتدريبها وتسليحها.
وفي الأول من يوليو 1967 تم تعيينه قائدًا للجبهة، فاختار اللواء محمد عبد الغني الجمسي، والعميد حسن الجريدلي ليتحملا معه مسئولية إعادة تنظيم الجبهة؛ قال أحمد إسماعيل في مذكراته: (انشغلتُ في تلك الفترة بإجراء تقدير موقف سريع ووضعت لنفسي أهدافًا محددة، أهمها: إعادة تنظيم القوات وشئونها الإدارية وتدريبها، وإعادة الضبط والربط إليها، وإعادة الثقة في نفوس الأفراد، وبث الروح القتالية، والمحافظة على أمن القوات، ومنع العدو بجميع الوسائل والإمكانات المتيسرة من عبور قناة السويس، والرد بعنف على اشتباكات العدو الخاطفة. وطوال الشهور الثلاثة التالية عملت على رفع الروح المعنوية للقوات من خلال بعض الإجراءات والعمليات، كان أهمها: معركة رأس العش، وتدمير المدمرة إيلات وإغراقها، وتسلم الأسلحة والذخائر والمعدات الجديدة وتكثيف الفرق التعليمية، وإعطاء الثقة للجنود والضباط في أسلحتهم، والمرور على الوحدات يوميًّا (المصدر السابق، ص 52).
وأضاف: (كنا كلنا في الجيش المصري عقب نكسة يونيو 1967 نعلم -قادة وجنودًا- أن يوم الثأر آتٍ لا ريب فيه؛ ولذا كان كلٌّ منا يعلم مهمته ويسارع لأدائها. وضعنا خطة دفاعية عن جبهة القناة، وعملنا تجهيزات دفاعية مماثلة، في حفر الخنادق والمواقع الدفاعية، وزدنا من ساعات التدريب الشرس بما هو موجود بالفعل بين أيدينا. وازدادت مدفعيتنا قوة وثباتًا فأصدرتُ أوامري بإلحاق خسائر بالعدو عبر توجيه ضربات مباشرة له، وكان ذلك في سبتمبر من عام 1968، فدمرنا بطاريات الصواريخ الإسرائيلية أرض / أرض التي كان العدو يقصف بها مدينة الإسماعيلية. ولعل ما قمنا به في تلك الفترة كان الدافع الأساسي للعدو للبدء في إنشاء خط تحصينات قوي يغطي خط المواجهة بأكمله، فكان خط (بارليف) (المصدر السابق، ص 56).
بعد هزيمة 1967 وعودة عبد المنعم رياض من الأردن، وتوليه رئاسة أركان القوات المسلحة ربطتْ بينه وبين أحمد إسماعيل، الذي كان قائدًا للجبهة، صداقة عمل قوية. ولما استشهد عبد المنعم رياض صباح يوم 9 مارس 1969 وهو في المواقع الأمامية للجبهة يشاهد بنفسه نتائج القصف المدفعي للدشم الحصينة للعدو في اليوم التالي تم تعيين أحمد إسماعيل، وكان وقتها على رتبة لواء رئيسًا لأركان القوات المسلحة خلفًا له.
عملية الزعفرانة:
وفي يوم 11 سبتمبر عام 1969 وخلال حرب الاستنزاف وفي إطار عمليات المواجهة بين مصر وإسرائيل، قامت قوات العدو بإنزال سرية من عشر دبابات على الشاطئ الغربي لخليج السويس في منطقة صحراوية خالية من القوات المصرية، حيث اتجهت القوة برًّا في اتجاه الزعفرانة، فقتلت خمسة أفراد كانوا في نقطة لأفراد الحدود، وقامت بتدمير موقع رادار على بعد مائة كيلو متر جنوب السويس، ثم أغارت على الضفة الغربية لخليج السويس تحت حماية كتيبة من السلاح الجوي الإسرائيلي الذي كان يقدم لها المعاونة الجوية، ثم أغارت على الشاطئ الشرقي لخليج السويس.
وكانت هناك مجموعة من الضفادع البشرية الإسرائيلية قد مهدت لتلك العملية بإغراق لنشي طوربيد على الشاطئ الغربي لخليج السويس لتأمين الممر الملاحي للقوة الإسرائيلية أثناء تنفيذ العملية، وقد تقرَّر عقب تلك العملية إجراء تحقيقات لمعرفة سبب عدم اكتشاف القوة المغيرة على الزعفرانة وعدم القيام بإجراء إيجابي لمواجهتها بعد نزولها على الشاطئ ولعدة ساعات، ولكن في اليوم التالي 12 سبتمبر 1969 قام عبد الناصر بإعفاء اللواء أحمد إسماعيل من منصبه وإحالته للتقاعد، وقد رأى أحمد إسماعيل وقتها أن هذا القرار كان بإيعاز من رجال المشير الباقين حول عبد الناصر لإبعاده عن الجيش.
وفي مايو 1971 قام أنور السادات، الذي تولى رئاسة مصر بعد وفاة عبد الناصر، وخلال صراعه مع مراكز القوى والقضاء عليهم، فيما عرف بثورة التصحيح أو ثورة 15 مايو 1971، قام بإعادة أحمد إسماعيل للخدمة من جديد حيث ولَّاه منصب رئاسة المخابرات العامة المصرية في يوم 14 مايو 1971، وكان له سابق معرفة عمل وصداقة بينهما.
شهدت فترة العمل في رئاسة المخابرات على قصرها -والتي استمرت قرابة عام ونصف عام- قضايا مهمة تتعلَّق بمحاولات تجنيد مصريين للتجسس لحساب العدو، مِن أشهرها: القبض على الجاسوسة هبة سليم، والتي كان لها داخل الجيش مصدر مهم للحصول على معلومات على مستوى عالٍ جدًّا من السرية والأهمية تضر البلاد غاية الضرر. ومنها قضية (راندوبولو) الذي كان يقيم في مصر، ويعمل مديرًا لشركة الكروم (جاناكليس) بالإسكندرية، والذي جنَّدته المخابرات الأمريكية للعمل لحسابها من خلال علاقاته العامة الواسعة، حيث كان يمدها بكلِّ أوجه النشاط السوفيتي في القاعدة الجوية السوفيتية التي تتولى الدفاع عن الأسطول السوفيتي في البحر المتوسط وتتولى حماية المواقع المصرية في العمق، حيث حامت حول (راندوبولو) الشبهات، وبدأت عملية مراقبته حتى التقطت له ثلاث رسائل مكتوبة بالحبر السري تتضمن معلومات عن القاعدة الجوية فألقي القبض عليه.
وفي المقابل كانت هناك محاولات لتجنيد عملاء داخل إسرائيل للعمل لحساب مصر؛ قال أحمد إسماعيل في مذكراته التي كتبها بنفسه: (كان رجال المخابرات يسابقون الزمن لا لكشف عمليات التجسس التي تحاول إسرائيل من خلالها اختراق الجبهة المصرية -سياسيًّا وعسكريًّا- وحسب، ولكن أيضًا كانوا يواصلون الليل بالنهار لجمع أكبر كم من المعلومات عن العدو وتحركاته وعتاده الحربي، والموقف على الجبهة الداخلية له؛ ولذا أنشأنا في جهاز المخابرات إدارة أطلقنا عليها اسم: (إدارة الخداع)، كانت مهمتها تزويد العدو بمعلومات مضللة عن مصر عبر عملائنا المنتشرين على خط المواجهة. وربما لن أكشف سرًّا إن قلتُ: إنه كان لدينا قبل نشوب حرب أكتوبر أكثر من عشرة عملاء نجحنا في تجنيدهم من بين القوات الإسرائيلية المتمركزة في خط (بارليف)، ولم يستطع (الشين بيت) أو إدارة الأمن العام المختصة بمكافحة التجسس داخل إسرائيل اكتشافهم أو معرفة أن من بين جنودها وضباط جيش دفاعها في حصون بارليف مَن يتجسس لصالح مصر.
ولا أخفي سرًّا آخر إن قلتُ: إن نحو 85 % مما حصلتْ عليه إسرائيل من معلومات عسكرية وسياسية عن مصر تم تسريبه لها من جهاز المخابرات العامة. كنا نعلم أنه وبعد نكسة يونيو 1967 قد وقع في يد إسرائيل الكثير من الخرائط والمعلومات والبيانات عن وحدات قواتنا المسلحة، وكان ذلك نتيجة الانسحاب المتسرع غير المخطط له؛ ولذا كان علينا مضاعفة المجهود المخابراتي لجعل تلك المعلومات لا قيمة لها، أو على الأقل تقليل أثرها.
لقد حصلت المخابرات المصرية على معلومات عبر عملائنا على الجانب الإسرائيلي في غاية الخطورة، منها: خرائط حقول الألغام التي زرعتها القوات الإسرائيلية حول مواقع المدافع الثقيلة ومرابض الدبابات، وخرائط أخرى سرية لمولدات الكهرباء في خط بارليف، وأماكن خزانات النابالم، ومواقع فِرَق الضباط والجنود في خط بارليف، ونظام الحراسات الليلية على الجبهة الشرقية للقناة، وأنواع الذخائر وخرائط مخازنها في سيناء، وغيرها من المعلومات التي ساعدت في الإعداد للحرب) (المصدر السابق، ص 120 -121).
وفي 26 أكتوبر 1972 أصدر السادات قراره بتعيين أحمد إسماعيل وزيرًا للحربية وقائدًا عامًّا للقوات المسلحة المصرية، ليتولى قيادة الجيش المصري في مرحلةٍ مِن أدقِّ مراحله ويخوض به حرب التحرير في أكتوبر عام 1973. وقد عينته هيئة (مجلس الدفاع العربي) في 28 يناير 1973 قائدًا عامًّا للجبهات الثلاث: المصرية والسورية والأردنية.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.