كتبه/ علاء الدين عبد الهادي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا يخفى على أحد ما تعيشه أمتنا الحبيبة من حال تفرق وضعف، في الوقت الذي يأمرنا فيه ربنا بعكس ذلك حيث يقول -سبحانه-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103).
وكم فينا ممن يصر بجهل وعناد على التشرذم والتنازع، بينما يحذرنا ربنا من مغبة ذلك من فشل وخسران: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ) (آل عمران:152)؟!
ويأبى أكثرنا إلا أن نكون أممًا شتى متناحرة متنافسة، والله -سبحانه- نبَّهنا على كوننا أمة واحدة إذ يقول: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أمة وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92)، ولئن كان هذا هو وصف حال الأمة -وهو مؤلم بلا شك- إلا أن هذا الألم يزداد حدة حينما يتعلق الأمر بالصحوة الإسلامية المباركة؛ إذ أبناؤها هم أمل الأمة وعمادها وذخرها في مواجهة أعدائها، والصف المحارب فيها؛ فكيف يقعون في هذه المهاوي؟!
إن أبناء الصحوة يتحملون مسئولية عظيمة تجاه أمتهم، وعليهم أن يكونوا هم المثل والقدوة والسباقين في أبواب الخير كلها وكل ما ينفع أمتهم ويرقيها، ولكن القلب يكاد أن ينفطر وقد شاهد هذا التفرق والنزاع وقد أصاب الأمة في أبناء صحوتها حتى أصبحوا وقد شغلوا -ولا حول ولا قوة إلا بالله- بأنفسهم، وبالكثير من الحروب المستنزِفة لطاقتهم والتي تهدد الصف الإسلامي من الداخل، وإن لم تهدمه فإنها تفشله وتعطله عن بلوغ غايات المجد، فكم كثرت الفرق والأهواء والمذاهب والأفكار، ووجدنا أنفسنا ونحن ننسى كل شيء إلا معاركنا وتصفية حساباتنا مع أبناء جلدتنا وبني صحوتنا، حتى صارت لدينا القدرة العجيبة لتحويل بعض المسائل الدقيقة إلى حجر أساس تبنى عليه دعوة جديدة تشق الصف، ومنهج يتمايز به أصحابه ويزعم أنه الحق الذي لا مرية فيه، وأن كل من عداه فهو على باطل وضلال، وإن أتى صاحبه بكل خير وفضيلة؛ حيث لم يتسم باسمنا، ولم ير رأينا، ولم يكن في صفنا حربًا على غيرنا!
ولعل المخرج من هذا المأزق يتمثل في إخلاص النية لله في طلب الحق مجردًا عن حظوظ النفس، والالتفاف حول العلماء الربانيين، مع النصح الخالص للمخالف، ومحاورته ومجادلته بالتي هي أحسن؛ حتى لا ينزغ الشيطان بين أبناء الأمة الواقفين على ثغورها.
وهذه الأخيرة -الحوار الحكيم- هي موضوع هذا المقال ومبتغاه؛ حيث نعرض فيه لبعض المزالق التي تعتري ما يحدث بين أبناء الأمة من محاورات ومجادلات، فهو يجمع أخطاءً شائعة تمثل آفات حقيقية تحُول دون التواصل الجيد بين أبناء الدين الواحد واللغة الواحدة والهم الواحد، هذا التواصل المنشود هو خطوة على طريق طويل يمثل توحد الأمة خلف إمامها المبين -القرآن والسنة- بالفَهم الذي أراده الله وارتضاه لنا -سبحانه-، وتوحد الأمة مطلب شرعي، والحوار وسيلته، ولكنه لن يحدث بالصورة المرجوة إلا إن تخلينا عن هذه المزالق المذكورة لاحقـًا وغيرها.
ونحن نعرض هنا هذه الآفات ناصحين لأنفسنا أولاً، ولإخواننا ثانيًا مهما اختلفت مشاربهم وأفكارهم ومعتقداتهم؛ علها تَلقى لدى الجميع القبول فيحذرون من الوقوع فيها هم أنفسهم، ويحذرون منها إخوانهم؛ فنصبح ونحن أقرب إلى الله، وأحب إلى عباد الله، وأرقى في حوارنا، وأقرب إلى مقصودنا.
حوار أم شجار؟
المتابع للإسلاميين بصفة عامة وعلى الإنترنت بصفة خاصة يجد لهم -بفضل الله- تواجدًا ملحوظـًا، وتأثيرًا لا ينكر، وأينما حللت وارتحلت في العالم الحقيقي أو العالم الافتراضي وجدتهم وقد ملئوا السهل والوادي بما تجود به قرائحهم: بكلمة مكتوبة أو مسموعة أو مرئية، لا سيما المجالات التفاعلية: كساحات الحوار مثلاً.
والمتقصي لحال ساحات الحوار هذه -خاصة المنتديات "الساخنة" منها والتي تكاد تنحصر بين أبناء الصحوة- قد يذهل من كم التوجهات المتضاربة، والردود المتتابعة المتداخلة، والموافقات والمخالفات والتشعبات، والسباب المقذع، والمديح المتهور، وطرح رؤى من أقصى اليمين تارة وأقصى اليسار تارة أخرى، ولعل هذا المتابع لهذا الخط الحواري بين المتحاورين يخلص إلى نتيجة واحدة في كل مرة، مفادها: "نحن لا نجيد التواصل".
لا نجيد الحوار.. فقط نجيد الشجار.. إلا من رحم الله.
النصر المظفر
العجيب في كل هذه المعارك خروج كافة الأطراف غارقين في دمائهم أثخنتهم الجراح، يظن كل طرف أنه المنتصر، وحتى النصر فليست له معايير واضحة، وغالبًا فالمنتصر في عرف الناس هو من يعلو صوته أكثر، ويجد من المؤيدين عددًا أكبر، لا تخطئ عيناك ولا أذناك هذه الظاهرة حتى في مجالس الناس ومجتمعاتهم؛ فيبدو أن هذا الخلل قد تسرب إلى أبناء الصحوة من الطريقة التي تربينا بها عمومًا في مجتمعاتنا العربية؛ حيث يقل التواصل الحكيم.
أقد فرغت يا أبا الوليد؟
وأول ما نحتاجه -أيها الأفاضل- هو أن نجيد الاستماع؛ فإن من يجيد السماع يُحسن المقال، استمع وفكر وتأمل قبل أن تعمِل قلمك في الجواب، أو لسانك بالنطق، فكم مرة رأيت مَن يتحاورون في قضية ما وهم لا يسمع بعضهم بعضًا، بل لعلهم في الأساس واقفون على نفس الجانب من المسألة، ويحملون نفس الفكرة! ولكن اختلفت ألفاظهم وتعبيراتهم؛ فظنوا أنْ قد اختلفت مواقفهم، ولو أجادوا الاستماع ابتداء ووعى كل منهما ما يريد صاحبه؛ لما أضاعوا أوقاتهم واستنفدوا طاقتهم، وربما حاك في الصدر شيء من الطرف الآخر؛ فإن الجدال المذموم يميت القلوب، ويثير الشقاق، ويفرق الصف، فكن على تؤدة وروية، وأرعِ سمعك، واعقل عن محاورك مقصوده، وانتظره حتى يفرغ ما في جعبته.
هذا ومن معاني الاستماع أيضًا ومن حسن المحاورة: تحديد هدف النقاش وإيضاح موضوعه وعدم الحيدة عنه؛ فكم يقع في كلامنا كثير من التشعب وتوليد المسائل الفرعية التي تغري المتحاورين وتجذبهم وتشتت أذهانهم، وبذلك تتعدد محاور النقاش، ثم تصير المحاور الفرعية هي أيضًا غرضًا جديدًا، وموضوعًا للنقاش، وهكذا دواليك، حتى يخيل للقارئ والسامع الذي يراقب المشهد من الخارج أن هؤلاء قومٌ لا يحسنون سماعًا ولا جوابًا، وأنى لهؤلاء أن يلتقوا؟!
سارت مشرقة وسرت مغربًا شتان بين مشرق ومغرب
الأصول أولاً
إن معرفتك لمحاورك ومنهجه تمكنك من معرفة المصادر التي ترجعان إليها سويًّا، وتستقيان منها موقفكما، وكما يحتج القانوني على القانوني بالقانون، واللغوي على اللغوي بكلام العرب؛ فاعرف أنت محدثك ومراجعكما التي تأويان إليها ويُرد إليها الخلاف، ولا شك أن أي مسلم مرجعه إلى الكتاب والسنة -أو هكذا ينبغي أن يكون- كما فهمها أهل القرون الخيرية من الصحابة الذين قال لهم ربنا: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) (البقرة:137)، والقرون الخيرية التي قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (متفق عليه)، ولكن في ظل حالة التيه التي نعيشها قد تكون محتاجًا إلى تأصيل هذا المعنى حتى تحدد دائرة الخلاف، ثم تتناقش فيها بعد ذلك، لا أن تندفع إلى محاورة لا مرجعية فيها ولا أساس، وفي كثير من الأحيان لا تنتهي النقاشات إلى شيء واضح؛ لأن كل طرف له مرجعيته الخاصة، والتي تختلف عن مرجعية محاوره.
ثم إن هناك قضايا كثيرة تتعلق بمقدمات قبلها؛ لذلك فتأكد أن هذه المقدمات قد اتفقتم عليها قبل أن توغل في الجدل فيما لا طائل فيه من تفريعات ونتائج، فمثلاً قبل أن تتناقش في تطبيقات قاعدة ما تأكد أن محاورك مقر بهذه القاعدة ابتداءً، وإلا فناقشه فيها أولاً، ثم فرِّع عليها ما تشاء، فلا يصح في الأذهان أن تتجشم عناء بناء جدران لم تجعل لها أسسًا واضحة قوية.
ومن ذلك أيضًا أن تكون تعريفاتكم للقضايا محل النقاش متفقة؛ حتى لا تدوروا في دائرة مفرغة؛ فقبل أن تهاجم ديمقراطيته مثلاً وضِّح له أنك تريد بها: "حكم الشعب بالشعب حتى لو لم يكن بشرع الله"، وأنها مختلفة عن مبدإ "الشورى" في الإسلام؛ بدلاً من أن تهاجم شيئًا هو في ذهنه مرادف للعدل وصلاح الحكم.
فاحرص -أيها اللبيب- على الأصول قبل الفروع، والمقدمات قبل النتائج، وإيضاح محل النقاش بجلاء، وقبل كل ذلك احرص على الاتفاق على المراجع التي فيها فصل الخطاب.
التهويل والتهوين
أحيانـًا نقع فريسة أحد شقي تطرف حينما نركز الخلاف ونعمقه حول قضية موغلة في الجزئية، إلا أننا نهول المسألة ونجعلها نقطة فيصلية عليها مدار الأمر كله، أو قد يكون الخلاف نظريًّا أو مِن باب تحصيل الحاصل، إلا أنها عند البعض علامة فارقة على طريق الهدى أو الضلال؛ بينما نهمل واجب الوقت وكل وقت من تصحيح مفاهيم التوحيد، والدعوة إلى الشريعة الغراء، وتعلم العلم، وتعليمه الناس، وتعبيدهم لله -تبارك وتعالى-، والانتباه لما يحيق بالأمة من مخاطر عظام.
وعلى النقيض قد يعمد أحدنا إلى قضية غاية في الخطورة تمس صلب الاعتقاد، ويهون شأن الخلاف فيها، ويتهم المخالف بالسطحية والافتعال وقلب سلم الأولويات؛ فاحذر.
الصور النمطية
من مكامن ضعف التفكير عند بني البشر التأثر بالصور النمطية المرسومة في أذهاننا من وحي كلام الناس عن فئة معينة أو جماعة ما، يحدث ذلك من تراكم الأخبار المكذوبة ونسبة الأقوال بلا دليل، وربما كم النكات والطرائف الساخرة التي تطلق على هذا الطرف الذي يُحاكم غيابيًّا، دون التفكير في نقد هذه الصور أو حتى دراسة أصلها وسببها، مما يؤدي إلى أن يتعامل كل فريق منهم -إن تعامل- مع الآخر بناء على تصورات مغلوطة وأحكام مسبقة، أو على الأقل بنظرة تشكك وارتياب في جدوى الحوار معه، ولا شك أن الاحتكام إلى هذه الصورة الذهنية من قبل أن تستوثق صحتها لهو من أبلغ الظلم وضحالة التفكير الذي ينبغي أن يترفع عنه الإسلاميون، ورضي الله عن الطفيل بن عمرو الدوسي إذ ألقى القطنة وأصغى سمعه، وترك الحكمة تخاطب قلبه وعقله.
ما مقالة بلغتني عنك؟!
إن القاعدة القرآنية تعفينا مِن كثير مما نعيشه من حروب كلامية لا طائل منها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6)، وإنَّ نقل الكلام عن الآخرين والحكم عليهم بلا بينة لهو محض ظلم (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور:15) و(كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ) (رواه مسلم)، والسمع والخوض بالألسنة له خطر عظيم على العاقل التنبه له (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36)، فإن سمعتَ عن أحد شيئًا فتثبت وتبين، وأحسِن الظن أيها الموحد؛ فهو أزكى لك وأطهر.
سموا لنا رجالكم
دائمًا تسمع: "قالوا كذا..."، و"قيل لي كذا ..."، و"سمعتُ أنه حدث كذا..."، والغريب أن بعض الأفاضل يبني مواقفه ويحارب ويهاجم مخالفيه -الذين هم إخوانه- بناءً على كلام من هذا القبيل، ولو عقل هؤلاء الناقلون والسامعون لهم لعلموا أن ديننا قائم على "حدثني فلان" الثبت الثقة الذي يعرف مواضع الكلم وخطورة الكلمة، ويحفظ ويعي، ويؤدي كما وعى، يحدث بذلك عن مثله إلى منتهاه، و"بئس مطية الرجل زعموا"، ولو عقلوا لعلموا أن الذي ينسج كلامه على: قيل وقالوا ونحوها؛ فقد نسج تصوراته كما تنسج العنكبوت بيتها: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:41).
بين الخبر والتحليل
ويقع آخرون في فخ آخر ألا وهو: "الخلط بين ما سمع وما فهم"؛ فيقول قائلهم -مثلاً-: "إن فلانـًا ينتمي للفكر الفلاني"! ولو تتبعت ما عنده لوجدت أنه سمع فلانـًا هذا يقول قولاً؛ فهداه تفكيره -بأسلوب بما أن..؛ إذن..- أنه بهذا القول قد اعتنق الفكر الفلاني، وكان المنتظر منه أن يقول: إنه قال كذا، وتحليلي أن ذلك شاهد على أنه اعتنق الفكر الفلاني.
أو يقول قائل: "فعلوا كذا لأنهم أرادوا كذا"! والأحرى به أن يقول: إنهم فعلوا كذا وأظن أنهم أرادوا كذا؛ فخلط ما علم المرء وما سمع وشاهد بما فَهِم خطر عظيم يؤدي لكثير من الخطإ.
لا تكن على المسلمين مسعر حرب
يستغل البعض الردود المختلفة لبعض المشايخ والفضلاء في مسألة ما -والخلاف وارد-؛ فيأتي أحد المتصيدين فيقول: فلان يرد على فلان! ويعمد إلى كلام الثاني ويجتزئ منه ما يفهم منه أنه رد على الأول وهجوم عليه، وأن الموضوع حرب بين طائفتين، وقد يكون كلا الطرفين ممن له تلامذة ومستمعون، فتنتقل الحمية إلى هؤلاء وهؤلاء، وتثور الفتنة، ويُنال من الأفاضل بغير جناية جنوها، ولا ذنب ارتكبوه، ولكن بشؤم عصبية جاهلية، وتصرفات غير مسئولة، وتسابق محموم على "السبق الصحفي"، ولبئس ما فعل هؤلاء المتصيِّدون، ووالله لا يدري الإنسان لم يفعلون هذا؟ وبأي نية يجترئون؟ أو لم يكفهم ما أصاب جسد أمتهم الجريح أصلاً حتى يضموا إلى جراحها المزيد؟!
وعلى العاقل التثبت والتبين كما أمر الله –عز وجل-، ومراعاة الأدب مع الأفاضل والقدوات، وعدم التأثر بكل داعٍ للفتنة، بل دأبه دائمًا أن يقول: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10)، وليقل: "أحفظ سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرًا"، وليجتهد في التصدق على المسلمين بتوحيدهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ فإن لم يفعل فليكف أذاه عن إخوانه؛ فإنها صدقة يتصدق بها على نفسه.
نيران صديقة
قد يكون هناك شخص بِصَفـِّك يَرى ما تراه، ولكنه يسيء إلى المخالفين، ولا يحسن محاورتهم لا سؤالاً ولا جوابًا؛ فيسيء إلى منهجه، ويقدم صورة مشوهة للحق الذي يراه، فيصير كمن: "ضره أقرب من نفعه"، وفيه يصدق قول الشاعر:
رام نفعًا فضر من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقا
فيا أخي: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) (متفق عليه).
العالم الحقيقي والافتراضي
أصبح الإنترنت اليوم جزءًا يحتل مساحة من حياتنا ونرتبط به بصورة أو بأخرى، وهو عالم كامل بكل ما تحمله المعاني، ولكنه افتراضي أي لا وجود له حقيقة إلا على أجهزة الحاسب والخوادم وشبكات الربط ونحو هذا، ولكنه مع ذلك يعكس أفكار زواره ومبادئهم وسلوكياتهم وثقافاتهم وروابطهم الاجتماعية؛ لذلك فهو يتقاطع أيما تقاطع مع العالم الحقيقي الواقعي في حياتنا اليومية، وكل منهما له تأثير على الآخر، وأصبح ذلك العالم الافتراضي مأوى لكثير من أصحاب العالم الحقيقي، فيه قد يجدون -افتراضيًّا- ما حرموه واقعيًّا، ويلتقون –افتراضيًّا- بمن يعجزون عن الاجتماع به واقعيًّا، وقد يقولون -افتراضيًّا- ما يعجزون عن بعضه واقعيًّا، وقد يصنعون لأنفسهم -افتراضيًّا- أعرافـًا وقوانين تناظر ما يحكمهم واقعيًّا، وقد تكون لهم كذلك هوية -افتراضية- تحجب هويتهم الواقعية .
لذلك فالحوار "الافتراضي" -خاصة في المجالات التفاعلية كالمنتديات- نجده يختلف كثيرًا عن الحوار الحقيقي؛ حيث نجد كثيرًا من القدرة على المواجهة التي قد تتحول إلى مصادمة، وكثيرًا من الشجاعة التي قد تصل إلى الجرأة، والنقد الذي قد يصل إلى السب والشتم؛ ذلك يحدث حينما لا تتلاقى الأعين ولا تتواجه الأبدان، فيسقط حاجز الهيبة، ويقول المرء ما لا يستطيع قوله في الحقيقة، لا سيما وأن كثيرًا من أهل الفضل والعلم -الذين لهم مكانة وهيبة- من شتى التوجهات تضيق أوقاتهم، فيقل وجودهم بأنفسهم وشخوصهم في هذا العالم الافتراضي -غالبًا وليس في كل الأحيان-، وهم أولى بالبحث والرد والمناظرة والتوجيه، بينما يأخذ هذا المكان محبوهم ومناصروهم وأتباعهم ممن هم دونهم ممن تتسع أوقاتهم لهذه المحاورات، ويجيدون أساليب التعامل مع وسائلها الحديثة، ومن هنا نعلم لماذا تكون الإنترنت هي البيئة المناسبة لكثرة هذه النزاعات وتمددها وتعاظم حجمها عما هي عليه في الواقع في بعض الأحيان، ومِن هنا أيضًا نعلم كذلك كيف يتلقف أصحاب العالم الافتراضي بعض الكلمات لبعض المشايخ والدعاة، وربما تُجتزأ من سياقها ثم يبلغونها لبعض أهل الفضل المخالفين مبتورة مقطوعة؛ فيرد هؤلاء على أولئك فيما لم يدعوه، ويعيبون عليهم ما لم يقولوه.
وفي العالم الافتراضي أيضا ينهمك بعض إخواننا -زادهم الله حرصًا- كتابة وبحثـًا وردًّا وتفنيدًا ومحاورة، وكل ذلك لا بأس به طالما أنه في الأطر الشرعية وبالأساليب المرعية، ولكننا نهيب بهم ألا يشغلهم عالمهم الافتراضي عن عالمهم الحقيقي؛ فجهاد الكلمة والسنان له ميادين ما أكثرها، وواحد منها العالم الافتراضي، والداعية الحق هو الذي لا يترك بابًا إلا طرقه قاصدًا تزكية نفسه وإخوانه وتعليم الناس وتوجيههم من كلمة أو محاضرة أو خطبة في المسجد أو نصيحة للإخوان أو تربية للنشء المسلم أو تعليم زوجة أو دلالة جاهل أو تذكير عالم؛ آمرًا بالمعروف المقصرين فيه ناهيًا عن المنكر الواقعين فيه، والداعية أينما وجد فله أثر في البيت والسوق والمسجد ومحال العمل وغيرها من أماكن تواجد البشر، هذه هي الميادين الحقيقة التي ينبغي علينا توجيه الجهود إليها بجانب الميادين الافتراضية التي قد تشغلنا أحيانـًا؛ فاحذر -أخي- أن تجلس أنت وإخوانك في برج عاجيّ افتراضي، تتكلمون وتتناقشون وتتناصرون وتهاجمون وتدافعون، وأنتم عن أمتكم غافلون، وهي أحوج ما تكون إليكم، ولا تظنن أنك إن فعلت ما يحسن افتراضيًّا فأنت في سَعة من فعله واقعيًّا، أو أنك قد أديت ما عليك، وبلغت الدعوة، وأقمت الحجة، ونصحت لله ورسوله وعامة المسلمين وخاصتهم.
وما نيل المطالب بالتمني.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.