الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتتقدَّم "الدعوة السلفية بمصر" بأسمى معاني التهنئة للشعب المصري الكريم وللأمة الإسلامية بعيد الأضحى المبارك، تقبَّل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وأعاده علينا وعليكم بالخير والبركات.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
فالله أكبر: من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجلُّ من كل شيء؛ في أسمائه وصفاته وذاته؛ قال -تعالى-: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر: 67).
ولا إله إلا الله: أي: لا معبودَ بحقٍّ إلا الله؛ فهو وحده المستحقُّ أن تُصرفَ له جميعُ العباداتِ، وتكونَ خالصةً له دون سواه؛ قال -تعالى-: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 163).
والإيمان بالله -سبحانه وتعالى-: أن نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؛ فنؤمن بالله ربًّا، وأنه وحده الخالق الرازق المدبر، مالك الملك، وليس له شريك في ملكه من خلقه، وضلَّ قوم يدَّعون أن للكون أقطابًا أو أبدالًا يتحكمون في الكون من دون الله، فلا أحد يملك النفع والضر إلا الله -سبحانه وتعالى-.
فحتى أفضل الخلق -صلى الله عليه وسلم- لا يملك لأحد ضرًّا ولا نفعًا: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أنزل الله عز وجل: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214)، قال: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا) (متفق عليه).
وضلَّ قوم صرفوا العبادة لغير الله -سبحانه وتعالى-، فطلبوا المدد من غيره، وزادوا ضلالًا حين طلبوا المدد من الأموات؛ فأين عقول القوم؟!
والصحابة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا يتوجهون إلى الله بالدعاء، وبعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتوجه الصحابة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدعاء؛ فقد عَلِم الصحابة أن حقيقة التوحيد هي صرف العبادة لله وحده لا شريك له؛ فلا ذبح ولا نذر، ولا استغاثة بغير الله -سبحانه وتعالى-، فإنَّ صرف العبادة لله توحيد، وصرف العبادة لغير الله شرك، قال -تعالى-: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) (الأحقاف: 5).
ولله الحمد: قال الطبري -رحمه الله-: "ومعنى (الْحَمْدُ لِلَّهِ): الشكر خالصًا لله -جل ثناؤه- دون سائر ما يُعبد من دونه، ودون كلِّ ما بَرَأَ من خلقه، بما أنعم على عباده من النِّعم التي لا يُحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحدٌ، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلَّفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وَغَذَّاهم به من نعيم العيش، من غير استحقاق منهم لذلك عليه، ومع ما نبَّههم عليه ودعاهم إليه، من الأسباب المؤدِّية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم. فلربِّنا الحمدُ على ذلك كله أولًا وآخرًا" (تفسير الطبري).
وله الحمد -سبحانه وتعالى- على جلاله وجماله وكمال أسمائه وصفاته.
التسليم لله مِن سمات الأنبياء ومَن تبعهم بإحسان:
لقد كان التسليم لله وطاعة أمره هي سمة أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-، وأهل بيته وأسرته الكريمة، فإنَّ الإسلام هو الاستسلام لله، والخضوع له بفعل أوامره، وترك نواهيه، وقد كانت الأسرة الإبراهيمية مَثَلًا يُحتذى به؛ لذلك يأمره ربه بأن يسكن أسرته بوادٍ غير ذي زرع فيستجيب وتستجيب أسرته، ويأمره ربه أن يذبح ابنه الذي جاء بعد انتظارٍ وصبرٍ فيستجيب وتستجيب أسرته، ويأمره الله -سبحانه وتعالى- ببناء البيت فيستجيب وتستجيب أسرته، وعلى مثل هذه الأُسَر المسلمة المستسلمة لأمر الله -سبحانه وتعالى- تقوم المجتمعات الصالحة، وتقوم الدول المسلمة التي يجعلها الله -سبحانه وتعالى- سببًا لنشر الخير ومعاني التوحيد، وتعبيد الناس لرب العالمين، ويقمع الله بها أيضًا أهل الزيغ والضلال، وينصر الله بها المظلوم، ويأخذ على يد الظالم.
كما أن من معاني الحج العظيمة: التسليم لله -سبحانه وتعالى-، فنطوف بالحجر، ونقبِّل الحجر، ونرمي الحجر بالحجر، ونحن نستحضر قولَ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو يقبِّل الحجر: "إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلتُكَ" (متفق عليه)؛ ذلك التسليم الذي يستجلب رضا الله -سبحانه وتعالى- وتستمطر به الرحمات، ويتنزل به النصر؛ قال -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (الأحزاب: 36)، وقال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96).
إن من معاني الحج: تبصير المسلمين بحقيقة الدنيا وحقيقة ما يحتاجه مِن زاد فيها، فالحاج يلبس أقل الثياب ويأكل على غير عادته، وربما نام على الأرض وهو سعيد، ولا يشعر أن شيئًا ينقصه، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
فمهما كثرت بيوتك لن تنام إلا على سرير واحد، ومهما ادَّخرت من طعام لن تستوعب معدتك إلا ذلك القدر المحدد من الطعام، ولو زِدتَها فوق طاقتها تنغَّصت عليك حياتك، ومهما امتلأت خزانة ملابسك بالثياب فلن تلبس في لحظتك ولن يستوعب بدنك إلا ثوبًا واحدًا؛ فعلامَ تقطع الأرحام ويشتعل التدابر والخصام، وربما تُراق الدماء من أجل متاع الدنيا؟! وربما كان هذا المتاع زائدًا على حاجة الناس!
اجتمع المسلمون من كل بقاع الأرض يؤدون نفس المناسك، متوجهين إلى ذات القبلة، يقصدون إلهًا واحدًا أحدًا، لم تَحُل بين تجمعهم اختلاف الألسن والألوان، ولم تُفصل بينهم تلك الحدود التي رسمها الاحتلال، هذه حقيقة أمة الإسلام، أمة واحدة كالجسد الواحد، يؤلمهم جرح غزة والسودان وبورما وكشمير؛ لأن أوثق عرى الإيمان هو الحب في الله والبغض في الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أوْثَقُ عُرَى الإِيمانِ الموَالاةَ فِي الله والمعاداة فِي الله والحبُّ فِي الله والبُغْضُ فِي الله عَزَّوَجَلَّ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (متفق عليه).
فهل ترقى الدول إلى تلك الوحدة التي يثبتها الحج بين الشعوب؟
هل تتوحد دولنا العربية والإسلامية؛ فتجتمع لها إمكاناتها الهائلة من الثروة البشرية والمالية ومواردها الطبيعية واتساع رقعتها الجغرافية، وتترجمها إلى خطوات لامتلاك أسباب القوة ونصرة المستضعفين من المسلمين في كل مكان؟
وخاصة ذلك الجرح الغائر في "غزة"، والذي يَشْخُب دمًا منذ عامين دون توقف؛ عامين وآلة القتل الهمجية الصهيونية لم تتوقف، ضاربة بكل المواثيق والقوانين الدولية، بل وبديهيات المروءة والإنسانية، عندما تقصف المدارس والمشافي، ومراكز توزيع المساعدات، ليكون عامة القتلى من النساء والأطفال، ثم في خسة معتادة اشتُهِر بها اليهود، يستخدمون سلاح التجويع والإذلال من أجل الحصول على أقل الطعام، ويوظفون الجوع لأغراضهم السياسية والعنصرية البغيضة!
إنَّ نصرة المستضعفين في غزة واجب على دولنا العربية والإسلامية؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (متفق عليه).
العيد والفرحة والنصر مرتبطون بفعل الطاعات واجتناب المعاصي:
يأتي العيد بعد يوم عرفة وأثناء موسم الحج، وبعد أن توجه بضعة ملايين من المسلمين إلى البيت العتيق، وبذلوا من أموالهم وأوقاتهم ومجهودهم، وتأتي الفرحة بعد الطاعة، ويأتي النصر بعد أن ننصر الله -سبحانه وتعالى-؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7).
إنَّ طريق النصر يمر عبر الاستجابة لله ورسوله، وعبر التزام المسلمين بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه -سبحانه وتعالى-؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: 24). وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ) (رواه البخاري). وفي رواية: (إِنَّمَا يَنْصُرُ اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ، وَصَلَاتِهِمْ، وَإِخْلَاصِهِمْ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).
فالإيمان والعمل الصالح هما شرطا الاستخلاف في الأرض لعباد الله الصالحين: قال -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).
وقد تكرَّر في كتاب الله ذِكْر الإيمان مقرونًا بالعمل الصالح:
والعبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، وترك ما يبغضه الله -سبحانه وتعالى- وينهى عنه، وإن التقرب إلى الله يكون بفعل الفرائض أولًا، ثم التحبب إلى الله بفعل المستحبات.
وإن أجل العبادات هي ما بني الإسلام عليه، وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا؛ تلك المباني الأربعة التي إن تركها المسلم كان في خطر عظيم وخطب جليل، ويوشك أن يرد موارد الهلاك، فالمسلم الصادق هو الذي يبادر إلى تلبية النداء بمجرد أن يستمع إليه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جَاءَ أَعْمَى إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الصَّلَاةِ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ. قَالَ لَهُ: (أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟)، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (فَأَجِبْ) (رواه النسائي، وصححه الألباني). فالمسلم الصادق يجيب النداء حيث يُنادى به في بيوت الله، فيحرص أن تكون صلاته في وقتها وفي جماعة وفي المسجد، والمسلم الصادق هو الذي يخشع في صلاته؛ لأنه يعلم قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ، مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا، تُسْعُهَا، ثُمُنُهَا، سُبُعُهَا، سُدُسُهَا، خُمُسُهَا، رُبُعُهَا، ثُلُثُهَا نِصْفُهَا) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، فإذا أتم الفريضة أتى بعدها بالنوافل، فصلى السنن الرواتب، وصلى الضحى، ثم كان له في قيام الليل نصيب.
والمسلم الصالح هو الذي يخرج زكاة ماله ويبادر إلى إخراجها في وقتها إذا حال عليها الحول وبلغت النصاب، ويخرجها في مصارفها التي حدَّدها الله في كتابه، ثم يعمد بعد ذلك إلى التصدق من أمواله، وهو يعلم أن الصدقة تطهر المال وتحافظ عليه، فينفق في سبيل الله سرًّا وعلانية، ولا ينتظر أن يفيض ماله لينفق منه، بل يفعل كما فعل الأنصار -رضي الله عنهم-: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر: 9)، خاصة في أوقات الأزمات.
والمسلم الصالح يصوم رمضان وهو يعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (متفق عليه). ثم يتبعه النوافل، فيصوم الأيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، ويصوم الاثنين والخميس، وهو يعلم أن الصيام يباعد بينه وبين النار، ويعينه على العفاف وحفظ الفرج وغض البصر، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ زَحْزَحَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ سَبْعِينَ خَرِيفًا) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).
والمسلم المستقيم يتابع بين الحج والعمرة، وهو يعلم أنها تنفي عنه الفقر والذنوب، فعن عامر بن ربيعة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ مُتَابَعَةً بَيْنَهُمَا تَنْفِي الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
والمسلم الصالح لسانه دائمًا رطب بذكر الله -سبحانه-، فعن عبد الله بن يسر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: (لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). فيحافظ على أذكار الصباح والمساء والذكر بعد الصلاة، وقبل النوم وعند ركوب الدابة وعند دخول السوق وعند الدخول والخروج من المنزل وغيرها من الأذكار الموظفة، وفي كل أحواله، والأذكار فعل يسير وله ثواب جزيل، فعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ حَسَنَةً) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).
ومن العمل الصالح قيام كل مسلم بمسؤوليته: فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى بَيْتِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (رواه البخاري ومسلم وأحمد واللفظ له).
فالأب المسلم يربي أبناءه على تعظيم شعائر الله وعلى المحافظة على الصلاة، وعلى تقوى الله -سبحانه وتعالى-، ويبصرهم بالغاية التي من أجلها خُلقنا، وهي عبادة الله -سبحانه وتعالى-، فأهم من النفقة على الأهل والأولاد أن يربيهم على معاني الإيمان، وأن يأخذ بأيديهم نحو النجاة في الآخرة.
ومن العمل الصالح: حسن تبعُّل المرأة لزوجها وطاعته في غير معصية، وأن تدرك أن زوجها هو جنتها ونارها، وأنه أولى واجبات يومها بعد ربها، فلا تتأخر عليه في أمرٍ طلبه منها، بل تسارع إلى مرضاته، وهي تعلم أنها بذلك تسعد زوجها وتسعد نفسها، وقبل ذلك ترضي ربها، وأنها هي مبعث السرور في البيت، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ النساء خير؟ قال: (الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ) (رواه النسائي، وقال الألباني: "حسن صحيح").
ومن الواجبات على المرأة المسلمة: ارتداء الحجاب الشرعي، زيِّ الحرائر، والنساء المصونات المسلمات تحافظ به على نفسها من الأذى، وتحافظ به على المجتمع من أن تنتشر فيه الفواحش والمنكرات؛ فتستر نفسها بالثوب الواسع الذي لا يصف ولا يشف، ولا يلفت النظر.
ومن العمل الصالح: الحفاظ على المجتمعات من التمزق والتفرق والصراعات، ومن أهم الأمور التي نحافظ بها على المجتمعات، الحفاظ على قيم المجتمع وأخلاقه وعقيدته، فننشر العقيدة الصحيحة بين شرائحه ومكارم الأخلاق والآداب الإسلامية، وأن نأخذ على يد كلِّ مَن تسوَّل له نفسه المساس بثوابت الدين أو الاعتداء على التراث أو محاولة نشر شبهات المستشرقين البالية واستغلال بعض المنابر المشبوهة والقنوات التي تمولها دول لا تريد الخير لمجتمعنا، فتنفق الأموال وتشتري ذمم ضعاف النفوس لإفساد المجتمع.
وينبغي الحفاظ على المجتمع من المواقع الإباحية والتطبيقات المشبوهة، والتي صارت تروج للفجور تحت شعار صناعة المحتوى! بل لا بد أن يكون هذا المحتوى يتوافق مع دين المجتمع وقيمه وأخلاقه، ونحافظ كذلك على المجتمع من الفكر الغالي الذي يكفر المسلمين فيستحل دماءهم وأموالهم بتأويل خاطئ للآيات والأحاديث، أو استغلال مآسي الأمة الإسلامية وحالة الإحباط التي تسري بين الشباب لدفعهم إلى الصدام مع مجتمعاتهم، وإشعال الحرائق في بلادهم.
فينبغي على الجميع بذل الجهد في تربية شبابنا على معاني الالتزام والتدين ومكارم الأخلاق، وأن يُدرس لهم العقيدة السليمة، وقد حَسُنَت الدعوات التي تطالب بفتح المساجد والاستغلال الأمثل لها، وأن تكون منبرًا ليس للصلاة فقط، بل للصلاة وللتعلم وللتكافل ولتنمية المجتمع، وحَسُنَت الدعوات التي تطالب بعودة الكتاتيب لتكون كما كانت في الماضي، تساهم في حفظ كتاب الله وتنمية الحصيلة اللغوية للنشء، ليخرج جيل ينهض بأمته كما أخرجت الكتاتيب في سابق العصر رموز الأمة وعلماءها وقياداتها، ثم إفساح الطريق أمام الشباب للمشاركة في تنمية مجتمعهم، فتُفتح أمامهم أبواب العمل التطوعي دون تضييق أو عرقلة، فطاقة الشباب ينبغي فتح المسارات التي تستوعبها، والتي تصب في نهاية الأمر في حمايتهم من التيارات المنحرفة والتي تريد توجيه طاقتهم إلى الصدام مع مجتمعهم، فعلى كل حريص على مجتمعه أن يجعل طاقة الشباب تصب في النهوض بالمجتمع ونصرته بدينهم بفهم سليم واستضاءة بنور الوحي.
إخوة الإسلام: كثرت الزلازل هذه الأيام، وقامت الرياح والعواصف، وهي من آيات الله التي يرسلها الله -سبحانه وتعالى- تذكيرًا لعباده وتحذيرًا من عقابه، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا عَصَفَتِ الريح، قال: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ)، قالت: وإذا تَخَيَّلَتِ السماء، تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مَطَرَتْ سُرِّيَ عنه، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قالت عائشة: فسألته، فقال: (لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) (متفق عليه).
فلنعتبر بتلك الآيات، ولنتُب من قريب، ولنقلع عن المعاصي، ولنقلع عن أكل الربا أضعافًا مضاعفة، ولنقلع عن السباب والبذاءة والفجور في الخصومة، ولنتُب إلى الله -سبحانه وتعالى- من أكل الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، ومن الجرأة على الدماء لأبسط الأسباب، ولنتُب إلى الله من الاختلاط الماجن، ومن الحفلات الماجنة التي يختلط فيها الحابل بالنابل، ويُجاهر فيها بالمعصية، قال -تعالى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (الأنفال: 25). فعن زينب أم المؤمنين -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فزعًا يقول: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ! وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ)، وحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نَعَمْ؛ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ) (رواه البخاري). (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا):
إن مَن شهد العاصفة الأخيرة، عَلِم وشاهد كيف يغير الله من حال إلى حال في لمح البصر، وأنه على كل شيء قدير، فمن بعد جو حار قد شغَّل الناس فيه أجهزة التكييف من الحرارة، إذا في لحظة تمطر السماء ثلجًا لم ترَه البلاد منذ مدة طويلة، وتمطر السماء مطرًا منهمرًا؛ فكذلك قدرة الله على أعدائه، فقد أهلك أعداءه بالغرق، والمسخ، والخسف والصيحة، وهو قادر على أن يهلك أعداءه المتجبرين.
ومن العمل الصالح: ذبح الأضحية اقتداءً بنبي الله إبراهيم -عليه السلام-، ويضحي المسلم وهو يعلم أن الله غني عن العالمين، وأن الله -سبحانه وتعالى- لن ينال من لحومها شيء، بل ينتفع المضحي بأن الأضحية تعينه على تقوى الله -سبحانه وتعالى-، قال -تعالى-: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (الحج: 37).
وعلى المسلم أن يتحرى في أضحيته أن تكون من بهيمة الأنعام، من الإبل أو البقر أو الغنم، وأن تكون الإبل قد أكملت خمس سنوات، والبقر سنتين، والغنم أن تكون سنة، أو ستة أشهر إن كانت جَذَعَة من الضأن ممتلئة اللحم، ثم على المسلم أن يختار السليمة غير المعيبة ولا الهزيلة ولا المريضة ولا العرجاء، ثم إذا ذبح أحسن الذبح، فعن شداد بن أوس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ) (رواه مسلم)، ثم يطعم منها ويتصدق.
إخوة الإسلام: أيام العيد أيام أكل وشرب وذكر لله وتوسعة على الأهل والأولاد حسب الطاقة والمستطاع، فكونوا سببًا لسعادة أهلكم وأقاربكم في هذه الأيام، فعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
فصِلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وتفقدوا الجيران، وأدخلوا عليهم الفرح، وارزقوهم مما رزقكم الله، فما يبقى هو ما أنفقتم في سبيل الله.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
الدعوة السلفية بمصر
الأربعاء 8 ذي الحجة 1446هـ
4 يونيو 2025م