كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فهل هذا حقاً هو عصر السلفية؟
كان يمكن أن نختار جانب السلامة ونقول: "لا"، من باب تطمين أعداء الإسلام عموماً والسلفية خصوصاً، الذين ما يَفْتَئُونَ يحرضون كل من يستطيعون ضد السلفية، وفي المقابل كان يمكن أن نختار جانب البشرى بقول: "نعم" من باب تطمين الأتباع والمحبين، ولكننا بفضل الله -تعالى- لا نرضى أياً من المسلكين، ولكن نحاول جاهدين أن نصف الواقع على ما هو عليه، وما وجدنا فيه من خير حمدنا الله عليه، وما وجدنا فيه من غيره استعنا بالله على العمل على تغييره.
ومن ثمَّ فالإجابة على هذا السؤال تحتاج منا إلى شيء من الرجوع إلى الوراء قليلاً لنرصد التغيرات التي طرأت على الواقع السلفي خلال ثلاثة عقود أو أكثر من الزمان، ومحور حديثنا منصب على الواقع المصري بصفة خاصة، وإن كانت التجربة قد تتشابه في كثير من البلدان.
تميزت الدعوة السلفية في الواقع المصري المعاصر في أول نشأتها بعدة خصائص كان من أهمها:
- الخاصية الأولى: أنها دعوة نخبوية
حيث مثل الجامعيون قوامها الرئيس قادة وأتباعاً، بالإضافة إلى أنهم اختاروا منهجاً دراسياً متعمقاً يفوق في عمقه الدراسات التي تدرس في المعاهد الدينية بكثير، وزاد من صعوبة هذا المنهج أن معظم كتبه كتبت في عصور سابقة، وبلغة تعتبر بالنسبة إلى أهل هذا الزمان صعبة حتى كانت تعد كتب ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله- على ما فيهما من صعوبة على المبتدئ هما القوام الأساسي للمنهج العقدي والفكري للاتجاه السلفي، ولم تكن المطابع قد أخرجت لنا كل هذا الكم من الدراسات الإسلامية المعاصرة لسبب واضح، وهو أن هذه المطابع لم تطبع إلا بعد ما وجد القراء، ولم يوجد القراء إلا كنتيجة لوجود جيل درس العلم بلغة العلماء السابقين. هذا فيما يتعلق الخاصية الأولى وهي النخبوية.
- الخاصية الثانية: الوحدة المنهجية
التي كانت في غاية الظهور والوضوح إلى الدرجة التي ظن معها المخالفون وعدد لا بأس به من الأتباع أنه لا مجال للاختلاف مطلقاً في صفوف السلفيين، وسماهم مخالفوهم بمدرسة الرأي الواحد، وعلى الرغم من أن الدراسات الفكرية والأصولية التي كانت متداولة بين أيدي السلفيين في ذلك الوقت كانت تبين أن هناك مساحة مقبولة من الاختلاف إلا أن المعارك التي خاضها السلفيون مع العقلانيين والعلمانيين والقبوريين ودعاة البدع -وكل هذه من القضايا التي لا تقبل الخلاف بحال عند السلفيين- أعطت الانطباع بأنهم لا يقبلون الخلاف في أي مسألة، كما أن محدودية دائرة الانتشار أوجدت قدراً كبيراً من التوافق حتى في القضايا التي اختلف فيها سلف الأمة مما أعطى انطباعاً بأن السلفية هي مدرسة الرأي الواحد.
وأما الخاصية الثالثة: فكانت رفض السلفيين للمشاركة في أي من الأنظمة الاجتماعية أو السياسية المؤسسة على خلاف الشرع
حيث رأى السلفيون أن الأفراد والهيئات كلها يجب أن توجه لها الدعوة، ولكن لا يجوز الانضواء تحت لواء أي هيئة طالما كانت هيئة مخالفة للشرع.
وهذه الخصائص مجتمعة فرضت على السلفية درجة من درجات العزلة، فلغة خطابها فيها قدر كبير من الصعوبة، والنموذج التي تطالب الناس بتطبيقه فيه درجة بُعْد كبيرة عن النموذج المطبق في دنيا الناس بالفعل، فضلاً عن النموذج الذي تدعوا إليه اتجاهات إسلامية أخرى، كما أن رفض السلفيين الدخول لِلُّعبة السياسية جعلهم بعيدين عن حالة الاستقطاب التي كانت تمارسها بعض الاتجاهات القومية، بل والعلمانية مع بعض الاتجاهات الإسلامية كالإخوان، فبقيت الدعوة السلفية لا تغازل أحداً ولا يغازلها أحد، بل بدا الأمر في بعض الأحيان على أنه لا يهابها أحد على نفسه اللهم إلا تيارات الغلو سواء في التكفير أو مفهوم الجهاد، والذين شعروا دائماً في مواجهتهم أمام السلفيين بالتأخر الكيفي والكمي.
بيد أنه -شأن كل الحركات الاجتماعية- حصل أنواع من التطور بعضه نابع من داخل التيار السلفي أصالة، والبعض الآخر نابع من داخله كرد فعل لتطور خارجي، والبعض الثالث فرضته أحوال أخرى.
وكان من أبرز مظاهر هذه التطورات :
تطوُّرُ الخطاب السلفي واقترابُه من العامة في سهولة العرض والتناول، وإن بقي الخطاب السلفي محافظاً على رصانته في الجملة، بل بلغ الأمر إلى أن تبنى بعض دعاة التيار السلفي الخطاب باللغة الدارجة، ونتيجة لذلك استطاع المستمع العادي أن يميز بين موضوعات ما زال يراها كثير من المتابعين للدعاة السلفيين صعبة، وموضوعات الوعظ والقصص وغيرها، وإن كان المستمع الجيد الاستماع يستطيع أن يدرك بسهولة أن الوعظ السلفي القائم على الكتاب والسنة أبلغ أثراً، وأنفع حالاً ومآلاً من الوعظ المسجوع المتكلف المفتقر إلى نور الكتاب والسنة.
وتزامن هذا مع وجود شغف عام في المجتمع لمعرفة أمور دينهم، وهذه الظاهرة في حد ذاتها لا يملك المتأمل فيها إلا أن يعترف أنها محض منة من الله -تعالى-، ولعله يكون من أسبابها تنامي روح العداء للإسلام في الغرب، وظهور مصطلح الحرب الصليبية على ألسنة الساسة الغربيين وحملات الطعن في الإسلام وفي محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وعلى الرغم من أن المقبلين على موائد الدعاة تفرقوا، فمن مفضل للدعاة ذوي الميول التوافقية مع الحضارة الغربية جوهراً ومظهراً، ومن مفضل لأصحاب الغرائب في الوعظ والقصص وتفسير الأحلام، إلا أن السواد الأعظم من الجمهور قد أقبل على الدعاة ذوي السمت السلفي، وأصبح الجمهور أكثر اطمئناناً إلى الأخبار والقصص والفتاوى التي يجدها مدعمة بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة المعتبرين.
وصاحب هذا الإقبال الكبير على السماع للدعاة السلفيين وغير السلفيين درجة من درجات الاستجابة في التطبيق العملي، ففشا النقاب في أوساط لم يكن فاشياً فيها، وكذا اللحية، ودور تحفيظ القرآن، وصلاة التراويح، بل وصيام النوافل على مدار العام، حتى ضارعت بعض أيام صيام النافلة أيام رمضان في خلو الطرقات من المارة وقت الإفطار ووجود التمر والعصائر في المساجد في صلاة المغرب، وغير ذلك من المظاهر الرمضانية.
ونتج عن هذا أن وجدت أنماط متعددة لكل مظهر من مظاهر الالتزام، فهذا النقاب الذي كاد أن يكون في الماضي طرازاً واحداً لا يتبدل، صار له عدة أشكال، وطريقة قص تخطت في كثير من الأحيان حدود المباح.
ومن هنا تأتي الإجابة على السؤال: هل هذا حقاً هو زمن السلفية؟
وإليك الإجابة ملخصة في نقاط:
1- هذا هو زمان العودة إلى التدين بصفة عامة.
2- أن النموذج السلفي هو الأكثر قبولاً لدى الرجل المسلم العادي؛ لأنه يطلب منه ألا يكون عبداً إلا لله، وألا يتخذ له متبوعاً سوى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن أسباب النفور من النموذج السلفي بدأت في التلاشي مع تطور أسلوب الخطاب عند الدعاة السلفيين، ومع ثبات من ثبت على الالتزام حتى زالت الوحشة بين الناس وبين مظاهر الالتزام.
وأن النموذج العقلاني يحمل في طياته أسباب سقوطه حيث يهدم كل رمز من رموز العقلانية ما بناه الآخر، بل ربما هدم الشخص الواحد في موضع ما بناه في موضع آخر.
ناهيك أن الصوفية وما هي فيه من خرافة خارج المنافسة أصلاً لاسيما في زمن يعاني الناس فيه من اللوثة المادية. أضف إلى ذلك قدرة التيار السلفي على التصدي لكل حملات التشويه والطعن في دين المسلمين بطريقة تخاطب العقل والقلب معاً، ويجد فيها عوام المسلمين ملاذاً من نيران الشكوك والشبهات التي يثيرها الأعداء.
3- ولكن هذا لا يعني أن عوام الناس صاروا سلفيين، أو أنهم يدركون تفاصيل المنهج السلفي، فكثير من المستمعين الجدد إلى السلفية لا يعرفون تفاصيل قضايا الاعتقاد التي تحتل مكانة كبيرة في المنهج السلفي، فضلاً عن أن طريقة الكثير منهم في التطبيق فيها كثير من النقص والخلل، ربما سبَّب عبئاً على السلفيين أنفسهم، كنقاب الموضة الذي ينسب إلى السلفية وغيرها.
وهذه رسالة إلى المعنيين بشأن انتشار التيار السلفي:
فأما العلمانيون فنقول لهم:
(قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ)(آل عمران:119).
وأما السلفيون فنقول لهم:
أ- حقيقة لا تواضعاً، هذه الجموع ليست نتيجة لجهودنا نحن، بل نحن لم نبذل إلا القليل، ولكن هذا فضل الله على الأمة ككل.
ب- وحتى ولو فرضنا جدلاً أن هذه الجموع نتاج دعوتنا، فلا ينبغي أن نتوقف عند ذلك؛ لما في ذلك من تعريض العمل للحبوط وإيغار صدور المدعوين.
ج- هناك الكثيرون ممن لم يسمعوا بعد لا لدعاة السلفية ولا لغيرهم، بل يقال: إن حوالي 40 % من المسلمين في مصر لا يصلون الجمعة وهو أمر يستوجب البكاء بدلاً من الدموع دماً.
د- إنه مع استمرار الرفق واللين والدعوة إلى الله يجب أن ينبه من يرضون ببعض درجات الالتزام إلى أن يسعوا إلى العمل بالدين كله؛ امتثالاً لأمر الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)(البقرة:208).
وأما عوام المسلمين فنقول لهم:
سوف تسمعون من هنا ومن هناك محاولة لإثنائكم عن المزيد من الالتزام بدعوى أنكم بذلك قد اتبعتم المتطرفين، وتركتم نموذج التدين الوسطي الذي تربيتم عليه إلى آخر هذه الدعاوى
فينبغي أن تنتبهوا إلى أنه طالما قد سمعتم آيات الله وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلتم سمعنا وأطعنا فهذا السمع وتلكم الطاعة هي لله ربكم وخالقكم.
ومن أهم مزايا المنهج السلفي أنه لا يعبدكم إلا لربكم، ولا يحكم فيكم عباداً أمثالكم، حيث يمثل توضيح قوله تعالى-: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ)(الأعراف:54)، أحد أهم ثوابته وأن كل منهج سوى المنهج السلفي فلابد وأن يدعوكم إلى اتباع كبراء ورؤوس هذا المنهج، يوجد هذا في أوج صوره في الأديان المبدلة التي قال الله -تعالى- في أصحابها: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)(التوبة:31)، ويوجد قدر كبير منه لدى الاتجاهات البدعية المتأثرة بأهل الكتاب كالشيعة والصوفية كما يوجد قدر منه في الاتجاهات الإسلامية التي تدعوا الناس إلى الالتفاف حول رؤية مؤسسها أو قائدها.
كما نقول لهم: حافظوا على ما رزقكم الله من العلم والعمل به، وأضيفوا إليه غيره، ولا تقعدوا في منتصف الطريق.
ومرة أخرى نقول: مؤشر ثقافة المجتمع يتحرك نحو السلفية، وهذا في حد ذاته نعمة لا ينبغي أن نضيعها بحثاً عن انتماء ضيق لجماعات الدعوة السلفية.
وللحديث بقية حول سائر ما أحاط بالسلفية من تغييرات في الفترة الأخيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتب/ ياسر برهامي.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فلو كان وجود شريحة من المجتمع اقتربت أو تعاطفت أو حتى التزمت بمنهج معين كافيا في أن يطلق على الزمن أنه زمنها كما قالوا: "زمن السلفية"، أو كما يقول أخونا الشيخ/ عبد المنعم: "زمن العودة إلى الدين"، تخفيفا من مصطلحات التخويف والإرعاب والتحذير والتنفير، بل الاستنفار ضد السلفية، لصح بالأولى أن نقول: "هذا زمن المخدرات"؛ فإن في مصر وحدها نحو الثمانية ملايين "مدمن" للمخدرات، غير من يتناولها بلا إدمان وهو رقم بكل المقاييس يزيد على عدد المتدينين من كل الفصائل الإسلامية على اختلافها.
أو نقول: "هذا زمن الربا"، و"زمن الرشوة"، وأظن أن أعداد هؤلاء في مجتمعنا سوف تزيد على من يحافظون على الصلاة ولو في بيوتهم.
أو نقول: "هذا زمن الفساد" بأنواعه كلها، ونسأل الله العافية.
والحقيقة أن مثل هذه المصطلحات التي يستعملها البعض تؤدي إلى غرور الكثير من الملتزمين، بل والدعاة بنتائج دعوتهم مع أنها ما زالت تحبو ولم تغير في المجتمع التغيير المنشود، بل ولا جزءا منه، وتؤدي كذلك إلى استنفار جهود الأعداء لمقاومة "الغول" القادم الذي سيأكل الأخضر واليابس.
فلنعلم إخوة الإسلام أن الطريق لم يزل أمام الدعوة طويلا خصوصا في ظل غياب الشخصية المسلمة المتكاملة -إيمانا وإسلاما وإحسانا- في أكثر القطاعات الملتزمة، ولنعلم أن جهودنا في الإصلاح في داخلنا ومن حولنا لابد أن تتضاعف قبل أن نظن أن ما نراه هو ثمرة للعمل، بل ما زالت زهرة لم تتحول بعد إلى ثمرة فضلا عن أن تكون ناضجة صالحة للتناول، والله المستعان.