كتبه/ علاء الدين عبد الهادي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ففي ظل حالة اختلاط المفاهيم التي يعاني منها مجتمعنا، ومع تعمد الخلط والتشويش من كثير من نجوم الإعلام الفاسد ممن يسمون أنفسهم كُتـَّابًا ومفكرين وباحثين؛ فضلاً عن كثير من الإعلاميين المضللين أنفسهم، ومع كثرة الاتهامات الظالمة الموجهة للسلفية عن جهل أحيانًا وعن سوء قصد أحيانًا أكثر؛ في ظل هذا كله نبيِّن مواقف السلفيين في قضية غاية في الأهمية، وكثيرًا ما تَرد في نقاشات الناس إذا ما جاء ذكر السلفية والسلفيين، ألا وهي: "قضية الحكم والحاكمية وولاية أمر المسلمين", وهي مِن ضمن القضايا التي اختلطت فيها الأوراق بشكل كبير.
والمتابع للمسائل التي نذكرها هنا يجدها مرتبطة بالعقيدة الإسلامية الصافية كما ينادي السلفيون بها دائمًا، وكما دونوها في كتبهم ومحاضراتهم المعلنة المبثوثة، وها هنا هذه المسائل وأقوال السلفيين وفتاواهم منقولة عن مواقعهم وكتبهم ومحاوراتهم، وقد اقتصرت على فترة ما قبل الثورة ردًا على المشككين في الدعوة السلفية والمتهمين لها بالتلون حتى نرد عليهم ظلمهم وعدوانهم، كما اقتصرت على بعض المنشور بموقع "صوت السلف"، وأغلبه من فتاوى الشيخ "ياسر برهامي" -حفظه الله-؛ لأنه الموقع الأكثر جمعًا والأكثر استيعابًا في مثل هذه القضايا، وما فيه من قضايا المنهج السلفي إنما يعبر في حقيقته عن موقف السلفيين عامة، وليس د/ "ياسر" -حفظه الله- خاصة.
وعلى سبيل الاختصار نذكر هذه المسائل مجمعة، ثم نفصل كل واحدة منها:
1- السلفيون يعتقدون وجوب طاعة ولاة الأمور الشرعيين الذين يقودون الناس بكتاب الله -إن وُجدوا-، ولا يرون جواز الخروج عليهم ما داموا قائمين بالحق والعدل ما لم يفسدوا ويزد فسادهم وجورهم على مفسدة الخروج عليهم.
2- السلفيون يفرقون بين الحاكم مدنيًا كان أو عسكريًا من جهة، وبين ولي الأمر الشرعي -نسبة للشرع- من جهة أخرى، وهم يتعاونون مع الجميع فيما فيه مصلحة راجحة للبلاد والعباد، وفي حدود الجائز شرعًا.
3- السلفيون يعتقدون أن الحكم بغير ما أنزل الله من الكفر كما نص القرآن على ذلك، وهو يشمل: الكفر الأكبر والأصغر.
4- السلفيون لا يحكمون بالكفر على من حكم بالقوانين الوضعية بأعيانهم إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع.
5- الخروج على الحاكم الظالم مرتبط عند السلفيين بالمصالح والمفاسد، والقدرة والعجز.
6- السلفيون يرون "المظاهرات السلمية" وسيلة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليست بدعة مطلقًا، وليست جائزة مطلقًا، بل فيها تفصيل، مبناها على مراعاة المصالح والمفاسد، حسب ظروف كل مكان وزمان.
والآن مع التفاصيل:
1- السلفيون يعتقدون وجوب طاعة ولاة الأمور الشرعيين الذين يقودون الناس بكتاب الله -إن وجدوا-، ولا يرون جواز الخروج عليهم ما داموا قائمين بالحق والعدل ما لم يفسدوا ويزد فسادهم وجورهم على مفسدة الخروج عليهم:
قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:58-59).
قال العلماء: "نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم، وغير ذلك إلا أن يأمروا بمعصية الله فإن أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، و(إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ) (متفق عليه).
فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإن لم تفعل ولاة الأمر ذلك أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله؛ لأن ذلك من طاعة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- كما أمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2).
وأما من لم يتحلَ بهذه الصفة -إقامة كتاب الله- من الحكام المتغلبين فغاية ما هنالك الإجابة إلى الحق إن دعا إليه، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) (رواه البخاري).
وعند السلفيين لا تكون المعارضة للحاكم مقصودة بذاتها، بل المعارضة السياسية ينبغي أن تكون نوعًا من الحسبة، وتصحيح مسار الحاكم في حال انحرافه عن الشرع الحكيم وعن الحق والعدل.
وفي هذا المعنى نتذكر الخطبة الشهيرة لأبي بكر -رضي الله عنه- أول خليفة وإمام للدولة الإسلامية بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما قال كلمته المضيئة: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا سمع ولا طاعة".
إذن فلا ادعاء للعصمة لولي الأمر ولا تقديس له، بل الحاكم والمحكوم في الإسلام تنطبق عليهما القاعدة نفسها، طاعة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ويحاسبان طبقًا للقانون ذاته.
وإن وقع خلاف أو نزاع -وذلك وارد- بين الحاكم والمحكومين في مسائل الحلال والحرام والحق والباطل؛ فالجميع مخاطبون بكتاب الله -تعالى-، وعليهم أن يردوا ذلك النزاع إلى الشرع الحكيم (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).
2- السلفيون يفرقون بين الحاكم مدنيًا كان أو عسكريًا من جهة، وبين ولي الأمر الشرعي -نسبة للشرع- من جهة أخرى، وهم يتعاونون مع الجميع فيما فيه مصلحة راجحة للبلاد والعباد، وفي حدود الجائز شرعًا:
وهذا الموضوع قد يعد حجر الزاوية لهذه المسألة ، إذ قد يأتي بعض المتفيهقين بمثل قوله -تعالى-: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء:59)، ويصور حديث السلفيين عنها وتفسيرهم لها أنها تنطبق على الحكومات المدنية أو العالمانية في العصر الحديث، خاصة وأن ذلك الزعم يتماشى مع خطاب كثير من الشيوخ الرسميين العاملين بالدولة لا سيما المعينين مِن قِبَل الحكومات العميلة.
والمتأمل في الآية الكريمة المذكورة يجد بقدر يسير من التأمل أن الآية ذاتها ترد عليه زعمه الفاسد, وذلك مِن أوجه:
أولها: أن طاعة أولي الأمر معطوفة على طاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومقيدة بها، والمعطوف تابع للمعطوف عليه، فيقيد هذه الطاعة هنا الأمر بطاعة الله ورسوله، كذلك توجد أدلة أخرى توضح ذلك كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ) (متفق عليه)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
ثانيها: أن الأمر بالطاعة تَكرر في طاعة الله والرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتكرر مع أولي الأمر فعلمنا أن تلك الطاعة لأولي الأمر مشروطة بطاعة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ثالثا: قول الله -تعالى-: (وَأُولِي الأَمْرِ) إنما هو مقصود به أمر الدين إذ هو أولى من أمر الطعام والشراب وتفاصيل الحياة، ونحن نقول تبعًا لنبينا -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي) (رواه مسلم)، فلا يكون وليًا لأمرنا -شرعًا- إلا من تولى إقامة عصمة أمرنا الذي هو ديننا، وسياسة الدنيا به.
فاجمع بين (وَأُولِي الأَمْرِ) ههنا وبين وصفهم في قوله -تعالى-: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء:83)، فهم أولو الدين والعلم، والرزانة والحكمة.
إذن فولي الأمر الشرعي ليس كل مَن كان له جيش، وشرطة، ووزارات تنظم للناس أمر الطعام والشراب فحسب، بل هذا مجرد حاكم متغلب على بقعة من الأرض، ولكن ولي الأمر في الشرع هو الذي يقيم لواء الدين ويصلح الدنيا بها.
ومِن العجب أن ترى أناسًا يصرون على تسمية كل حاكم متغلب: "خليفة" و"إماما" و"أميرًا للمؤمنين"! ولو تغنى هذا الحاكم بالعالمانية، وحارب بها الدين وأهله، وأفسد بجانب هذا الدنيا ومصالح العباد! فيا للعجب.. ! ويا ويح "أمير المؤمنين" هذا!
وهذه المسألة -"نفي الولاية الشرعية عن الحكام المتغلبين الذين يحكمون بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية، وعامتهم يصد عن سبيل الله، ويسعى لهدم الدين"- ليست وليدة فكر ثوري أو عرض ناشئ، بل هذه عقيدة نعتقدها ونتعلمها من القرآن والسنة.
وحتى يتضح البيان، إليك هذه الفتوى للشيخ "ياسر برهامي" حفظه الله، والتي هي بعنوان: "كيف تثبت الولاية الشرعية للحاكم"، والمنشورة على موقع صوت السلف بتاريخ: "26 ربيع ثاني 1430هـ - 21 إبريل 2009".
نص السؤال:
إن لم يكن هناك خليفة للمسلمين كما هو الآن فهل تكون الولاية للحاكم؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتثبت الولاية للحاكم المتغلب -وإن لم يكن خليفة- إذا كان يقود الناس بكتاب الله -تعالى-؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَوِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا) (رواه مسلم)، فإن مقصود الإمامة في الإسلام إقامة الدين وسياسة الدنيا بالدين.
أما مَن تولى رئاسة الدولة بالسلطة المدنية دون تطبيق الشرع؛ فهذا أمر واقع لا بد أن يُنظر فيه إلى ما يوافق الشرع فيقر عليه ويعان عليه، وما يخالفه فلا يقر ولا يعان عليه، وينظر إلى المصلحة والمفسدة، والقدرة والعجز في تغيير هذا الواقع.
وعلى أي الأحوال فلا ينبغي إضفاء وصف الولاية الشرعية وما يترتب عليها على مَن كان هذا حاله، لا سيما إذا لم يدع هو لنفسه ذلك، أو كان لا يرضى به ويعتبره منقصة!
والخلط بين الأمر الكوني الواقع وبين الأمر الشرعي الديني خلط مذموم عن جهل أو سوء نية" انتهى النقل.
http://www.salafvoice.com/article.php?a=3246
وفي حوار أجراه موقع "أون إسلام" مع الشيخ "عبد المنعم الشحات"، ونشره موقع "صوت السلف" بتاريخ: 19 ذو الحجة 1431هـ - 25 نوفمبر 2010، يقول الشيخ عبد المنعم الشحات ما نصه:
"ونحن نرى أن بعض الإسلاميين يخلط بين مفهوم "الولاية الشرعية" وبين "السلطات المدنية" الحاكمة الآن، التي يتعاون معها بقدر تحقيق المصالح الشرعية.. إلى أن قال: ومن المعضلات التي أدى إليها هذا التداخل في الفهم بين النظامين أن أفتى أحدهم بحرمة الترشح في الانتخابات أمام الحاكم؛ لكون هذا يعد خروجًا وإن دعا إليه الحاكم؛ بينما يرى وجوب الإدلاء بالصوت ولصالح الحزب الحاكم حتى لا ينزع يدًا من طاعة، فمحاولة تطبيق مفاهيم الولاية الشرعية على نظام حكم ديمقراطي يقر بحق المعارضة في انتزاع السلطة يؤدي إلى أمور لا توافق الإسلام، ولا الديمقراطية!" انتهى النقل.
http://www.salafvoice.com/article.php?a=4941
ومن هذا الخلط الذي انتقده الشيخ عبد المنعم الشحات ما انتشر عن بعض الدعاة المدعين للسلفية وهو "الشيخ محمود لطفي عامر" والذي كان له فتوى شاذة ومشهورة عن أنه لولي الأمر وأمير المؤمنين "حسني مبارك"! إهدار دم "البرادعي"؛ حيث أعرب عن نيته الترشح لرئاسة الجمهورية، بل وإهدار دم الشيخ "القرضاوي" حيث دعا للعصيان المدني، وكان لا بد من الإعلام أن يطير بهذه الفتوى العجيبة وينسبها لعامة السلفيين كما هي العادة دائمًا.
وقد رد الشيخ "ياسر برهامي" على هذا الشذوذ في الرأي في فتوى، هذا نصها:
السؤال:
طالب الشيخ محمود لطفي عامر النظام الحاكم بحصد رقبة كل من يدعو إلى العصيان المدني، ومنهم الدكتور محمد البرادعي والدكتور يوسف القرضاوي، واعتبر أن الدعوة إلي العصيان المدني تعد من أساليب الخوارج ومنازعة السلطان والخروج عليه، وعقوبتها تبدأ من الحبس، ثم الزجر، ثم القتل، ولكن على يد الحكومة، وذلك من باب وأد الفتنة. فهل هذا هو رأي علماء السلف؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذا الرجل ليس سلفيًا، ولا يحسب عليهم، ولا يقول في كلامه ما دل عليه الدليل، وهو يخلط دائمًا بين الخوارج والخروج، وليس بينهما تلازم دائمًا، ثم العصيان المدني -كما يسمونه- ليس خروجًا، بل يجب على الحاكم إزالة المظالم التي يطلبها مَن يخالفه، وأولها: "تركه الحكم بما أنزل الله"؛ فإذا أصر العاصي والمخالف على مخالفته شُرع تعزيره.
وليس كل من يخالف الحاكم يكون خارجيًا، يجب حصد رقبته خاصة إذا كان الحاكم يحكم بغير شرع الله، بل إن ما يدعو إليه هذا الرجل هو الفتنة؛ باستباحة دماء المسلمين، والتحريض عليهم بفتاويه الباطلة.
فليست هذه بأول فتاواه الباطلة المنكرة، بل سبق أن طالب بقتل الدعاة السلفيين بنفس الدعوى الكاذبة!
وقد نشرت هذه الفتوى على موقع صوت السلف بتاريخ: "5 صفر 1432هـ - 10 يناير 2011" انتهى النقل.
http://www.salafvoice.com/article.php?a=5076
وهكذا لم يمنع السلفيين تحفظهم على البرادعي وليبراليته ومواقفه من أن ينكروا هذا الكلام على قائله، ويذكِّروا بحرمة الدماء.
3- السلفيون يعتقدون أن الحكم بغير ما أنزل الله من الكفر كما نص القرآن على ذلك:
حينما يقول الله -تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة:44)، ويقول: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة:45)، ويقول: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة:47)، فماذا يسع السلفيين -بل المسلمين- أن يقولوا؟!
هل يقولون: إن تحكيم القوانين الوضعية أفضل من حكم الله في كتابه أو مساو له؟!
أم يقولون: لا تلزمنا الشريعة ولا أوامر الله فيها؟!
أم يُتوقع من المهتمين بهوية الأمة أن يقولوا: إن الشريعة والقرآن والسنة لا يصلحان لكل زمان ومكان؟! سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم! بل لا يصلح والله زمان ولا مكان إلا بنورهما؛ إذ يقول -صلى الله عليه وسلم-: (تَرَكْتُ فيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُما كِتابَ الله وسُنَّتي، وَلَنْ يَتَفَرَّقا حَتَّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوْضَ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني).
ولئن سُئلنا -نحن عامة المسلمين- عن أحسن الحكم وأصوبه؛ لنقولن ما قاله الله -تعالى- في كتابه: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50).
وهذه فتوى أخرى للشيخ "ياسر برهامي" على موقعه "صوت السلف" بتاريخ: 21 جماد ثاني 1427هـ - 17 يوليو 2006، تحت عنوان:
الحكم بالقوانين الوضعية كفر فهل يشترط الاستحلال؟
السؤال: الحكم بالقوانين الوضعية كفر، فهل يشترط الاستحلال؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
الحكم بغير ما أنزل الله كفر؛ لقوله -تعالى-: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44)، ولكن هل هو كفر أكبر أم أصغر؟
يكاد يتفق كل من تكلم في هذه المسألة من المنتسبين إلى السنة على أن في المسألة تفصيلاً، فثمة حالات يكون فيها أكبر وحالات يكون فيها أصغر، ولكن ما الضابط بين الحالتين؟
من المعلوم أن الكفر الأكبر في هذا الباب، وفي غيره هو الأقوال والأفعال التي تدل على انخرام الباطن؛ لقوله -تعالى-: (وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا) (النحل:106)، وهذه قد يعبَّر عنها بالاستحلال، ولكن متى ذكرنا الاستحلال بهذا المعنى فهو يشمل كل صور انخرام الباطن سواء بالتكذيب أو الإعراض أو الاستحلال، وأما من قصر الاستحلال على تسمية الحرام حلالاً فيُقال له: يوجد أنواع من الكفر الأكبر لا ينطبق عليها وصف الاستحلال بهذا الاعتبار، كما في كفر إبليس الذي اعترض على الله -عز وجل- ورد حكمه، وإن لم يكذب ربه -عز وجل-، ولم يسم فعله حلالاً، ولكنه رأى أن حكمه هو أحسن من حكم الله!
فهذا مما لا بد من التأكيد عليه في معنى الاستحلال.
وثمة مسألة أخرى، وهي هل تبديل الشريعة وتشريع القوانين الوضعية تشريعًا عامًا بدلاً منها يعد استحلالاً، ويعد كفرًا أكبر؟
لا شك أن تبديل الشريعة لا يكون إلا استحلالاً بالمعنى الذي بيناه لكلمة الاستحلال، فإن المبدل للشرع كتشريع عام للناس لا يتصور أن يفعل ذلك إلا إذا كان يجحد أن لله حكمًا في هذه المسألة التي يشرع فيها، أو يقر بوجود حكم في دين الله، ولكن يرى أن هذا الحكم الوضعي أحسن منه أو مساو أو على الأقل يرى أنه لا يلزمه أن يحكم بشرع الله، وكل هذا ينطبق عليه وصف الاستحلال.
وأما إذا ضم إلى ذلك إلزام الغير به، فهذا تجاوز مرحلة استحلال الحكم بغير ما أنزل الله إلى تحريم الحكم بما أنزل الله.
وهذه هي الأنواع الخمسة التي ذكرها الشيخ محمد بن إبراهيم في فتواه المشهورة في ذلك "تحكيم القوانين" وضم إليها عادات البدو حتى لا يتوهم متوهم أن من شرط القانون الذي يحكم عليه بأن تشريعه كفر أكبر أن يكون مكتوبًا، بل من الممكن أن يكون متعارفًا عليه.
وهذا الذي ذكره الشيخ محمد بن إبراهيم تابع فيه أهل العلم قبله، بل تابع فيه إجماع أهل العلم قبله، ووافقه عليه طائفة كبيرة من أهل العلم بعده.
فممن ذكر أن التبديل استحلال وأنه كفر "شيخ الإسلام ابن تيمية" في منهاج السنة النبوية، حيث يقول: "ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر، فإنه ما من أمة إلا وهى تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرها، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله -سبحانه وتعالى- كسوالف البادية، وكأوامر المطاعين فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر، فكثير من الناس أسلموا، ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار، وإلا كانوا جهالاً" انتهى كلام شيخ الإسلام.
وهذا النقل عن "شيخ الإسلام" يوضح بجلاء أن كل من جعل شرعًا عامًا متبعًا فإنه لم يجعله كذلك إلا لأنه يراه هو العدل؛ ولذلك يسمى مستحلاً.. " انتهى النقل.
إلى آخر الفتوى التي ما هي إلا امتداد لكلام علماء الأمة منذ القدم، وما يفهمه المسلمون من كتاب الله -تعالى-.
http://www.salafvoice.com/article.php?a=192
4- السلفيون لا يحكمون بالكفر على مَن حكم بالقوانين الوضعية بأعيانهم إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع:
وهذا لا يتعارض مع المسألة السابقة، وتحرير المسألة مبني على فهم الاختلاف بين كفر النوع وكفر العين، وبين الكفر الأكبر والأصغر المشار إليه سابقًا، فحينما تقول: "هذا الفعل يعد كفرًا" لا يعني هذا بالضرورة أن كل من قام بهذا الفعل كافر عند الله -تعالى-، بل قد تمنع من تكفيره موانع معينة تخص حاله.
وقد ذكر الشيخ ياسر برهامي الشروط التي ينبغي توافرها في شخص حتى يحكم عليه شخص من أهل العلم بتكفيره بعينه، وهي:
1- العقل: فلا نكفـِّر من ذهب عقله بالكلية كالمجنون، أو من غاب عن الوعي: كالنائم، والمغمى عليه.
2- البلوغ: فلا نكفر طفلاً صغيرًا لم يبلغ.
والدليل على ما ذكرنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
3- بلوغ الحجة التي يكفر منكرها: فلا نكفِّر من يُحتمل في حاله الجهل الناشئ عن عدم البلاغ، وهذا نوع من الجهل يُعذر من يتصف به -على عكس جهل الإعراض-، مع التنبيه على أن مَن يصح عذره بجهله قد يأثم إن كان مقصرًا في طلب العلم الواجب عليه، والدليل على هذا الشرط قوله -تعالى-: (لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (الأنعام:19).
4- القصد المنافي للخطأ: فقد يريد إنسان حقًا فيصيب باطلاً، خطأً منه وليس عمدًا.
5- التذكر المنافي للنسيان.
وهذان الشرطان علمناهما من قوله -تعالى-: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة:286)، فقد قال الله -تعالى-: (قَدْ فَعَلْتُ) (رواه مسلم).
6- الاختيار وعدم الإكراه: فالمرء يحاسب على ما فعله اختيارًا بمحض إرادته؛ لقوله -تعالى-: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا) (النحل:106).
7- عدم التأويل المحتمل: فقد يقع إنسان في أمر من الباطل متأولاً له وجهًا.
ومسألة أخرى ينبغي أن تتضح في الأذهان، وهي الكفر الأكبر هو المخرج من ملة الإسلام، وأما الكفر الأصغر فلا يخرج صاحبه من الملة، وإنما سمي بذلك تشنيعًا له وتحذيرًا منه، ولدلالة أنه باب قد يؤدي إلى الكفر الأكبر.
وعلى ما سبق نفهم من قوله -تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة:44)، أن بعض هؤلاء كفروا الكفر الأكبر، وبعضهم كفروا الكفر الأصغر، بحسب التفاصيل المذكورة في المسألة السابقة (رقم:3).
وعلى ما سبق -أيضًا- فالحكم بغير ما أنزل الله كفر، ولا يعني هذا أن كل من قام بهذا الفعل يكون كافرًا بعينه وشخصه كفرًا أكبرًا، بل قد لا ينطبق عليه هذا الحكم حتى تنتفي موانع تكفيره وتتحقق شروط ذلك التكفير، وحتى تقام عليه الحجة بواسطة عالم حجة ثبت يزيل الشبهات، ويبين الأدلة.
وهذه المسألة -التفريق بين كفر النوع وكفر العين وفهم شروط تكفير المعين- مسألة دقيقة لا يعلمها كثير من المشنعين في الإعلام والمتربصين بالإسلاميين، ولو علموا؛ ما أراهم يبرحون مكانهم من التشنيع والتصيد.
وقد بيَّن ذلك أيضًا الشيخ "ياسر برهامي" في فتوى له نشرت بموقع "صوت السلف" بتاريخ 7 شعبان 1428هـ - 20 أغسطس 2007، بعنوان:
مسألة في العذر بالجهل في باب الحكم بغير ما أنزل الله
السؤال:
كنتم قد أجبتم على سؤال لي بخصوص تكفير النوعين الخامس والسادس في الشرك في الحكم بأن: "استيفاء الشروط لاحتمال التأويل بأنه ورث هذا النظام ولم يستحدثه، وأنه يخشى احتلال البلاد لو طبقت الشريعة فظن الإكراه أو وجوده وقد يظن معه جواز الإبقاء على هذه الأنظمة الوضعية، وقد يلبس عليه علماء السوء أن القوانين الوضعية ليست مخالفة للشريعة؛ لأننا في حالة ضرورة، وغير ذلك" .اهـ، فهل هذا الكلام ينطبق على النوع السادس أيضًا؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
نعم، ينطبق احتمال الجهل والتأويل، بل الجهل عند هؤلاء أكثر والله أعلم.
واعلم أننا قد نعذر إنسانـًا لم تقم عليه الحجة في ظننا، ولا ينفعه ذلك عند الله إذا لم يكن جاهلاً ولا متأولاً، فالمنافقون يَحكم المسلمون بإسلامهم، وهم عند الله في الدرك الأسفل من النار.. " انتهى النقل.
http://www.salafvoice.com/article.php?a=1687
وفي فتوى أخرى بعنوان: "حكومة حماس وما يطلقه عليها البعض من أوصاف الدولة الإسلامية" ونشرت بموقع "صوت السلف" بتاريخ: 21 شوال 1431هـ - 29 سبتمبر 2010، يقول الشيخ أيضًا: "وأما من لم يحكم بما أنزل الله؛ فإنه لا تثبت له "الولاية الشرعية" حتى لو كان لا يكفر لتأويل أو جهل أو أي مانع آخر.. " انتهى النقل.
http://www.salafvoice.com/article.php?a=4767
وفي فتوى ثالثة نشرت بنفس الموقع بتاريخ: 15 ربيع أول 1428هـ - 2 إبريل 2007، وفي إطار الفكرة نفسها يقول الشيخ: "أما الحكام الذين يطبقون خلاف الشرع ففيهم تفصيل: منهم من يكفر كفرًا أكبر، ومنهم من يكفر كفرًا أصغر، والذي يأتي الكفر الأكبر لا يكفر بعينه إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع من قِبَل أهل العلم أو القضاء الشرعي" انتهى النقل.
http://www.salafvoice.com/article.php?a=705
5- الخروج على الحاكم الظالم مرتبط عند السلفيين بالمصالح والمفاسد، والقدرة والعجز:
فلا يرى السلفيون الخروج على كل حاكم ظالم في أية ظروف وملابسات، بل الأمر عندهم ينضبط بالمصالح والمفاسد، فرب محاولة خروج على فساد انقلبت فسادًا أكبر، أو مكَّنت من هو أكثر فسادًا من الحكم، وربما يقدر بعض الناس في مكان ما وزمان ما على ما لا يقدر عليه آخرون في نفس المكان والزمان أو غيرهما.
ولا أظن أن عاقلاً يجادل في هذه القاعدة، ولكن دعنا نقر أنه قد يختلف الناس في تطبيقها، فهذا لا شك محل اجتهاد ورأي وأخذ ورد.
ولا بد أيضًا أن نقر أنه قد يخطأ إنسان في تقدير المفسدة والمصلحة فيمتنع مثلاً من الخروج في ثورة على حاكم ظالم؛ لغلبة ظن حدوث المفسدة الأكبر، لا لأنه يسوغ الظلم وينافق الحكام، وإن قدر الله وعافى البلاد والعباد فلم تتحقق هذه المفسدة الأكبر التي كان يخافها فلا يصح لإنسان آخر أن يعاتبه على رفق الله بالناس إذ قدر لهم العافية في هذه المرة فلم تقع البلية، ولا يصح أيضًا أن يحتج عليه بالقدر بعد وقوعه، وبعد أن علمه الجميع وقد كان مجهولاً للجميع.
ولا ينبغي أن يستخدم هذا الاختلاف في تقدير الأمر من أجل التشنيع على من تحفظ وعلق الأمر على المصالح والمفاسد، والاتهام بالسلبية أو ولاية مَن حارب الله وظلم عباده! لا سيما إن كان هذا الحذر وهذا التحفظ خوفًا على غيره من الناس وحرماتهم، وليس جبنًا أو ضعفًا أو عجزًا ذاتيًا.
وكتطبيق عملي لذلك، وفي أزمة المسجد الأحمر في باكستان كان للشيخ "ياسر برهامي" هذه الفتوى التي نشرت بموقع "صوت السلف" بتاريخ: 3 ذو الحجة 1428هـ - 12 ديسمبر 2007، بعنوان:
أزمة المسجد الأحمر في باكستان
السؤال:
نرجو من فضيلتكم التعليق على أزمة المسجد الأحمر؟ وهل ما فعله عبد الرشيد غازي في الخروج على برويز مشرف كان صحيحًا وجائزًا؟ وهل ما فعلته الحكومة في قتالهم في المسجد وقتلهم لغازي وتلاميذه يُعتبر من باب قتال الخارجين على الإمام؟ نرجو التفصيل في هذه المسألة.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فأولاً لابد من النظر في مثل هذه الأمور إلى عدة مسائل، منها:
أمر المصلحة والمفسدة، ومنها أمر القدرة والعجز، ومنها اعتبار الضرر الخاص والضرر المتعدي، فلو وجد منكر فلا يجوز إزالته بمنكر أعظم؛ وذلك لأن المقصود إزالة منكرات الشرع كلها، والله -عز وجل- لا يحب الفساد، ولا يحب المفسدين، فإذا ترتب على إنكار منكر فساد أعظم كان ذلك مما لا يحبه الله -عز وجل-، والموازنة بين المصالح والمفاسد إنما تكون بميزان الشريعة.
ولا شك أن سفك الدماء المعصومة مع بقاء المنكرات كما هي فيه عدم تقدير للمصالح والمفاسد والقدرة والعجز، فليس كل ما نتمناه نقدر عليه، فإذا كان الإنسان يؤدي بعمله إلى ضرر متعدٍ فذلك لا يجوز له، والله أعلى وأعلم.
ثم إذا كان الخارج على الحاكم المسلم ينقم أمرًا معينًا فلا يجوز له الخروج لمجرد وجود المعاصي والمنكرات طالما كان الحاكم قائمًا بأمر الله -سبحانه وتعالى- ولو خالفه في بعض المعاصي، لكن قتال الحاكم للخارج عليه لابد أن يكون بعد إزالة ما نقمه إذا كان مخالفًا للشرع، فلا يجوز أن يقاتله مع بقائه على ظلمه، فلا يُعان في تلك الحالة، وإن كان الخارج الذي يفسد أكثر مما يصلح مخطئًا أيضًا، فقد سئل الإمام مالك -رحمه الله- عن من يخرج على أئمة الجور والظلم، فقال: "دعه، فينتقم الله من ظالم بظالم، ثم ينتقم منهما جميعًا".
فلا يجوز لنا أن نغير المنكر بمنكر أعظم، ولا يجوز لنا أن نغير المنكر بحدوث منكرات متعدية على غيرنا من المسلمين آحادهم وعامتهم.
وإن كان الحاكم الذي خرج عليه بعض الخارجين بغاة عليه؛ لا يجوز له أيضًا أن يقاتلهم حتى يزيل ما ينقمون عليه من مخالفة الشرع، فموقف المسلم في مثل هذا نصح المسلمين؛ لمراعاة ما ذكرنا من القواعد، وضبط الأمور بميزان الشريعة بالرجوع إلى العلماء، والحرص على دماء المسلمين وعوراتهم وحرماتهم كلها.
وفي نفس الوقت نصح كل من تولى أمرًا من أمور المسلمين بالالتزام بالشرع في رعيته، وأن يتقي الله -سبحانه وتعالى- بإقامة الدين فيهم وتولي أمرهم بالإصلاح، وليس بمجرد الملك والرياسة يتسلط عليهم بأنواع التسلط، مع التنبيه إلى أن الحكم بشرع الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يقي الأمة كل هذه المنكرات، وأن تحكيم غير شرع الله -عز وجل- من أعظم أسباب الفساد للأمة، ولكن لا يُغيَّر منكر بمنكر أعظم" انتهى النقل.
http://www.salafvoice.com/article.php?a=2014
6- السلفيون يرون "المظاهرات السلمية" وسيلة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليست بدعة مطلقًا، وليست جائزة مطلقًا، بل فيها تفصيل، مبناها على مراعاة المصالح والمفاسد، حسب ظروف كل مكان وزمان:
من الكذبات الكبرى التي يرددها الإعلام أن السلفيين -هكذا بالتعميم- لم يخرجوا إلى المظاهرات؛ لأنهم يرون أن المظاهرات حرام، وأنها خروج على ولي الأمر، وأن الخروج على ولي الأمر حرام بإطلاق، فهذه خمس كذبات متراكبات ليس لها أساس في قول السلفيين، ولا في عملهم.
فمِن السلفيين من خرج، ومنهم من لم يخرج.
ومَن لم يخرج لم يزعم حرمتها.
وكلاهما لا يرون أن الحكام المدنيين ولاة أمور شرعيين.
ولم يعدوا الخروج في مظاهرة حرامًا شرعًا بإطلاق.
ولم يعدوها كذلك خروجًا على الحاكم.
فالوقفات والمظاهرات أولاً هي نوع من التحركات التكتيكية المؤقتة غالبًا، ويختاره أو يلجأ إليه من يريد الضغط على جهة ما أو إيصال رسالة محددة، والحكيم هو الذي يوظف هذه التحركات بحيث تؤتي الثمار المرجوة؛ لذا نجد جميع الاتجاهات تختار أحيانًا أن تقوم بوقفة وتدعو إليها وتحشد لها حشدًا، وأحيانًا أخرى يشاركون بصورة تعبيرية أو يمتنعون ويقاطعون دعوة جهة أخرى.
لذا فالوقفات وسيلة لها حكم أية وسيلة أخرى وليس اختيارًا استراتيجيًا يتمسك به الناس دائمًا وأبدًا، وعلى ضوء هذا نفهم لماذا يمتنع السلفيون أحيانًا عنها ويرجحون غيرها وربما في أحداث أخرى يدعون إليها، وهم على كل حال لم يحلوها مطلقًا، ولم يحرموها مطلقًا، بل جعلوا لها ضوابط لا يكاد يختلف عليها عاقلان، وتنطبق على بقية الوسائل الأخرى والتحركات.
يقول الشيخ "ياسر برهامي" في فتوى له منشورة بموقع "صوت السلف" بتاريخ: 24 رمضان 1431هـ - 2 سبتمبر 2010، بعنوان:
حول الوقفة الاحتجاجية أمام مسجد القائد إبراهيم
السؤال:
توجد وقفة احتجاجية أمام مسجد القائد إبراهيم من أجل كاميليا شحاتة فما الموقف منها؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
".. وأما بالنسبة للوقفات الاحتجاجية فلا بد فيها من الالتزام بالضوابط الشرعية والمحافظة على الطبيعة السلمية لها، وإلا فتعريض المسلمين لسفك الدماء وانتهاك الحرمات وتدمير الأموال؛ سواء من العامة أو من الشرطة أمر لا يجوز.. " انتهى النقل.
http://www.salafvoice.com/article.php?a=4721
وقال أيضًا في فتوى أخرى منشورة بتاريخ: 15 شوال 1431هـ - 23 سبتمبر 2010، بعنوان:
حول الوقفات الاحتجاجية لنصرة المسلمات الأسيرات والضوابط الشرعية لها
السؤال:
بعض الإخوة يلوم على من يقف الوقفات في نصرة الأخت كاميليا شحاتة، فما رأيكم في ذلك؟ خاصة ونحن نرى أن سكوتنا هو أعظم مفسدة؛ لأنه هو الذي جرأهم على التمادي في سياسة تسليم من يسلم مثل وفاء قسطنطين ومن بعدها ماريان وتريزا وكريستين والكثيرات غيرهن، بحيث أصبح الأمر كالقانون، وما هذا كله إلا لعلمهم بسكوتنا، وأننا لن نتكلم، فما هو رأي فضيلتكم؟ وإن كنتم لا تمنعون من مثل هذه الوقفات؛ فما الضوابط الشرعية لها؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
".. وكل ذلك بشرط مراعاة الضوابط الشرعية مِن: المحافظة على طبيعتها السلمية، ومراعاة المصالح والمفاسد، وأزيد عليها هنا: عدم مشاركة النساء فيها؛ لاحتمال تعرضهن لسوء.
وكذلك أن يلتزم مَن أراد المشاركة فيها بقوله -تعالى-: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) (المؤمنون:96)؛ فلا يسمح بتحول هذه الوقفات إلى مصادمات مع الشرطة -فعامتهم من المسلمين- تحت أي ظرف من الظروف، ولا ينبغي أن ننسى أن الغرض من الوقفة إظهار الغضب لحرمة الدين؛ فلا ينبغي أن تجر إلى انتهاك حرمة مسلم من الشرطة أو المارة؛ حتى لا يُستغل هذا ضد المشاركين في الوقفة بل ضد عموم المسلمين، فمَن كان يعلم من نفسه القدرة على مراعاة هذه الضوابط حتى مع الحماس فليشارك؛ وإلا فننصحه بعدم المشاركة.
ولابد من التحكم في الغضب، وكف الأيدي عن ممتلكات الناس، وعدم السماح لأي أحد بتدمير أي محلات أو مبانٍ أو سيارات أو غيرها.. " انتهى النقل.
http://www.salafvoice.com/article.php?a=4754
وعلى هذا يحمل كلام من قال ببدعية المظاهرات وتحريمها، ففي فتوى للشيخ "ياسر" أيضًا نشرت بموقع "صوت السلف" بتاريخ: 26 شعبان 1432هـ - 27 يوليو 2011، بعنوان:
حول فتاوى بعض العلماء في تحريم المظاهرات والمنع منها
السؤال:
ما رأيكم في قول العلماء ابن باز والعثيمين وصالح الفوزان وصالح آل الشيخ من أن المظاهرات وسيلة محرمة.. أنا حقيقة محتار وأريد القرار والثبات؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
"فكلام المشايخ محمول على ما فيه مفسدة أعظم؛ وإلا فهذه وسيلة للتغيير، وليست عقيدة ولا عبادة حتى تدخلها البدعة" انتهى النقل.
http://www.salafvoice.com/article.php?a=5543&mode=r
وهذا كله -وكما ذكرنا سابقًا- مرتبط بالمصالح والمفاسد والقدرة والعجز، فمن قدر على خلع الحاكم المفسد الظالم بما لا يتأتى من وراءه مفسدة أعظم كان له التعاون مع غيره على ذلك، لأن المصلحة الراجحة تقتضي ذلك.
وقد قال الجويني -رحمه الله- كما في صحيح مسلم بشرح النووي:
"وَإِذَا جَارَ وَالِي الْوَقْت، وَظَهَرَ ظُلْمُهُ وَغَشْمُهُ، وَلَمْ يَنْزَجِر حِين زُجِرَ عَنْ سُوء صَنِيعه بِالْقَوْلِ، فَلأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْد التَّوَاطُؤ عَلَى خَلْعه؛ وَلَوْ بِشَهْرِ الأَسْلِحَة وَنَصْبِ الْحُرُوب. هَذَا كَلامُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ خَلْعه غَرِيب، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مَحْمُول عَلَى مَا إِذَا لَمْ يُخَفْ مِنْهُ إِثَارَة مَفْسَدَة أَعْظَم مِنْهُ" شرح النووي على صحيح مسلم.
ولذلك ورد في بيان الدعوة السلفية بشأن أحداث ليبيا ما يلي:
" ..فنحن نؤكد لأهل ليبيا لزوم التواطؤ على إسقاط نظامه الظالم الفاسد المجرم الملوثة يداه بدماء المسلمين الأبرياء، ومحاربة الدين وأهله.
ونبرأ إلى الله - تعالى- ممن يتكلم باسم "السلفية" ـ و"منهج السلف" في هذه المسألة منه بريء ـ ممن يُـلزم بطاعة "هذا الطاغوت"، ويحرِّم الخروج عليه، ويجوِّز له قتل شعبه وأمته!"
http://salafvoice.com/article.php?a=5198
ولا يفوتنا قبل الختام التنبيه على وجود البعض ممن يخالف شيئًا مما ذكرناه -والذي هو عقيدة المسلمين من زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى وقتنا هذا كما دلت الآيات والأحاديث والآثار-، وهذا المخالف محل ترحيب في الحوارات العلمية البناءة في كل محفل ما داموا ملتزمين بمرجعية الكتاب والسنة على ضوء فهم سلف الأمة وملتزمين بفقه الخلاف، ولكن الخلاف العلمي -وإن كان شاذًا- أمر وما يشاع إعلاميًا عن عامة السلفيين أمر آخر، والعجيب أن يسلط الإعلام الفاشل ضوءه على هؤلاء الشذاذ -على قلة عددهم وضعف تأثيرهم- ممن يدعي السلفية ويتكلم باسمها والسلفية منه براء، فيقولون كلامًا يرده الشرع وتأباه الفطرة، ويرفضه المنطق حيث ينصبون كل ظالم مفسد أميرًا للمؤمنين، وخليفة للمسلمين -رغم أنفه- ثم يُختزل السلفيون في شخص صاحب الأعاجيب هذا!
وهكذا -أيها القارئ الكريم-، وبعد بيان المسائل التي ذكرناها، يتسق الكلام وتتضح المواقف -فقط لمن يريد الحق-.
فقد كان هذا هو موقف السلفيين من هذه الجزئية -الحاكمية وولاة الأمور وما يتعلق بها-، وهو شيء غير الذي نسمع عنه في وسائل الإعلام، مما يدفع الإنسان المنصف منا على أن يأخذ المواقف والعبارات والتصريحات، من فم مَن تُنسب إليه مباشرة، ومِن كتاباته -مع الصديق والعدو-.
وينبغي على العاقل ألا يترك نفسه نهبًا لصحفي كذاب أو مضلل أو مدلس، يحرِّف الكلام على غير الوجه الذي قيل به، وفي خارج سياقه وسباقه ولحاقه، أو يدله عقله الضعيف وقلبه المريض على اختزال قضية كبيرة في عنوان صغير رخيص يجذب به القراء والمشاهدين، ثم يبيت ليلته ولا يبالي من صد اليوم عن سبيل الله؟ ومن عادى اليوم من أولياء الله -تعالى-؟! (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة:144).
اللهم أرنا الحق حقـًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.