الصَّالون الأدبي (مع عُقَاب العربية: الأستاذ محمود محمد شاكر) (29)
كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيُكْمِلُ محمود شاكر حكايةَ خُطَّتِهِ التي سَلَكَهَا في تَذَوُّقِ الشِّعْرِ؛ فَيَقُولُ: "شَيْئًا فَشَيْئًا، منذ تلك الأيّامِ الغَوابِرِ، بدأتُ أُحِسُّ في الشِّعْرِ الجاهليِّ، وفي غير الشِّعْرِ الجاهليِّ، شَيْئًا يَنبعِثُ منه، دبيبُ حركةٍ تَتركُ في نَفْسِي آثارًا خفيَّةً غريبةً، فإذا عُدتُ أستَبطِنُه مُترنِّمًا به، مُتأمِّلًا في طَوايَاهُ، عاد دبيبُ الحركةِ، حركةٌ لا أدري ما هي؟ فهذا هو الذي قلتُ إنّه كان مِن دَيْدَنِي بعد ذلك أن أُحَدِّثَ عنه أساتذتيَ الكِبارَ الذين خالَطتُهم وعرَفتُهم يومئذٍ وتَأخُذَني النَّشْوةُ وأنا أُفَاوِضُهُم فيما أُحِسُّ به، فكان يُعْرِضُ منهم عنِّي مَن يُعْرِضُ، ويُرَبِّتُ على خُيَلَاءِ شبابي مَن رَبَّتَ بِيَدٍ لطيفةٍ حانيةٍ، كما وصفتُ ذلك في كتابيَ "المُتَنَبِّي".
ومِن أغربِ ما لَقِيتُ مِن الإعراضِ عمَّا أقولُ إعراضُ الشَّيخِ المَرْصَفِي نَفْسِهِ عن حديثي مرَّاتٍ، وهو نَفْسُهُ الذي أثارَني إلى هذا وحرَّكَني هو وَحْدَهُ دون سِوَاه! ولكنِّي لَم أَكُفَّ عن الإلحاحِ عليه، حتى كانت نهايةُ إعراضِه عنِّي، حين فَهِمَ عنِّي ما كان لساني يَعْجِزُ عن بيانِه وعن التَّعبيرِ عنه؛ فإذا هو بعد ذلك راضٍ عنِّي مُقْبِلٌ عليَّ، يُفِيدُنِيَ الفَوائِدَ، ويُسَدِّدُ لي خُطَايَ في هذا الطَّريقِ الوَعْرِ المَسَالِكِ والمَضَايِقِ، المُتَشَابِكِ المَنَاهِجِ والشِّعَابِ؛ كان هذا أَوَّلَ مُمَارَسَتِي لِلَّذِي سَمَّيْتُهُ فيما بعد "التَّذَوُّقَ"، مكانَ "الاسْتِبَانَةِ"، ولكنَّها على ذلك كُلِّهِ، كانت مُمارَسةً جَاهِلَةً جَافِيَةً غَامِضَةً بلا مَنْهَجٍ صحيحٍ آوي إليه وأستعينُ به؛ كان ذلك في سنة 1925، وما بَعْدَهَا.
وبعد سَنَةٍ دخلتُ الجامعةَ، وكان مِن أَمْرِ الدُّكتورِ طه وأَمْرِي ما كان، حتَّى كان اليومُ الذي اضْطُرِرْتُ فيه اضْطِرَارًا أن أَقِفَ المَوْقِفَ الذي دُفِعْتُ إليه بَغْتَةً أُجَادِلُ الدُّكتورَ وأُنَاقِشُهُ في "مسألةِ الشِّعْرِ الجاهليِّ"، صَارِفًا هَمِّيَ كُلَّهُ إلى موضوعِ "المَنْهَجِ" و"الشَّكِّ"، وإلى ضرورةِ قراءةِ الشِّعْرِ الجاهليِّ والْأُمَوِيِّ والعبَّاسيِّ قراءةً "مُتَذَوِّقَةً" مُسْتَوْعِبَةً، لِنَسْتَبِينَ الفَرْقَ بين الشِّعْرِ الجاهليِّ والشِّعْرِ الإِسلاميِّ، قَبْلَ الحُكْمِ على الشِّعْرِ الجاهليِّ بأنَّه شِعْرٌ صَنَعَتْهُ الرُّوَاةُ المُسلِمُونَ في الإِسلامِ، كما بَيَّنْتُ ذلك في كتابيَ "المُتَنَبِّي: (1/ 23)"، ثُمَّ في مَقَالَتِيَ الْأُولَى هنا أيضًا.
وفي غُضُونِ هذا المَوْقِفِ المُتَطَاوِلِ بيننا حتَّى فارَقتُ الجامعةَ كان اللَّفْظُ النَّاشِبُ في لِسَانِي وفي أَلْسِنَةِ الكُتَّابِ، وهو "التَّذَوُّقُ" بِمَعْنَاهُ المَشْهُورِ الغَامِضِ المُبْهَمِ الدَّلَالَةِ، القَابِلِ لِلتَّنَوُّعِ والتَّعَدُّدِ بِلَا شَيْءٍ يُعِينُ على تَمَيُّزِهِ وتَعَيُّنِهِ؛ كان هذا اللَّفْظُ مِحْوَرَ المُفاوَضةِ بيني وبينه، كما كان مِن قَبْلُ مِحْوَرَ المُفاوَضةِ بيني وبين أساتذتيَ الكِبَارِ، على رَأْسِهِمْ شَيْخِيَ المَرْصَفِي، فيُعْرِضُ عليَّ مَن يُعْرِضُ، ويُرَبِّتُ على خُيَلَاءِ شبابي مَن يُرَبِّتُ، ولكنِّي كنتُ في خِلالِ مُفاوَضَتِي لِجميعِهم أُغْرِقُ هذا اللَّفْظَ إغراقًا في أشباهٍ أَقُولُهَا، هي "وَرَاءَ التَّذَوُّقِ"، بَيْدَ أنَّنِي كنتُ لا أُحْسِنُ العِبَارَةَ عنها إحسانًا يُعينُ علي" (انتهى).
ونُكْمِلُ كلامَه في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-.
وباللهِ التَّوفِيق.