الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 29 يناير 2025 - 29 رجب 1446هـ

الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (28)

كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فنُواصِلُ المَسِيرَةَ مع العُقابِ، الذي ارْتَوَتْ مِن فَيْضِ أُسْلُوبِهِ عُقُولٌ، وأَيْنَعَتْ مِن عِلْمِهِ نُفُوسٌ، وتَغَذَّتْ مِن ذِهْنِهِ أَفْكَارٌ وسَمَقَتْ؛ فَيُكْمِلُ العُقابُ كلامَه قائلًا: (وهذا الذي وجدتُه فيه فاستولى عليَّ، كان يومئذٍ شيئًا لا أملكُ التَّعبيرَ عنه ولا أُحسِنُه، لِأنَّه كان شيئًا غامضًا مُستبهمًا يَجُولُ في نَفْسِي لا أكاد أَتَبيَّنُ مَعالِمَه؛ فلذلك صار أمرُ التَّعبيرِ عنه تعبيرًا واضحًا مُتعذِّرًا عليَّ كُلَّ التَّعَذُّرِ، وقلتُ أَصِفُ ذلك: "فما هو إلا "التَّذَوُّقُ" المَحْضُ والإحساسُ المُجَرَّدُ.

وبهذا "التَّذَوُّقِ" المُتتابِعِ الذي أَلِفْتُهُ مَرَّةً بعد مَرَّةٍ، صار لِكُلِّ شِعْرٍ عندي مَذَاقٌ وطَعْمٌ وشَذًا ورَائِحَةٌ، وصار مذاقُ الشِّعْرِ الجاهليِّ وطعمُه ورائحتُه بَيِّنًا عندي، بل صار يَتَمَيَّزُ بعضُه مِن بعضٍ دالًّا يَدُلُّنِي على أصحابِه. (المتنبي 1/ 15).

وأنا عند هذا المَوضعِ أَتَلَفَّتُ إلى الماضي التِفاتةً لا بُدَّ منها؛ حَقٌّ لَازِمٌ في عُنُقِي أنْ أُفْرِدَ الفضلَ كُلَّه في تَنَبُّهِي إلى أَوَّلِ الطَّريقِ، إلى شيخِي سيِّدِ بن عليٍّ المَرْصَفِي، فإنَّه -بعد اللهِ سبحانه- هو الذي هداني وسدَّد خُطايَ على أَوَّلِ الطَّريقِ؛ كانت لِلشَّيخِ -رحمه اللهُ، وأثابه- عند قراءةِ الشِّعْرِ وَقَفَاتٌ، يَقِفُ على الكلمةِ، أو على البيتِ، أو على الأبياتِ، يُعِيدُهَا ويُرَدِّدُهَا، ويُشِيرُ بِيدَيهِ، وتَبْرُقُ عَيْنَاهُ، وتُضِيءُ مَعَارِفُ وَجْهِهِ، ويَهْتَزُّ يَمْنَةً ويَسْرَةً، ويَرْفَعُ مِن قَامَتِهِ مادًّا ذِراعَيهِ، مُلَوِّحًا بهما يَهُمُّ أن يَطِيرَ، وتَرَى شَفَتَيْهِ والكلماتُ تَخْرُجُ مِن بينهما، تَرَاهُ كأنَّه يَجِدُ لِلْكلماتِ في فَمِهِ مِن اللَّذَّةِ والنَّشْوَةِ والحَلَاوَةِ ما يَفُوقُ كُلَّ تَصَوُّرٍ.

كنتُ أُنْصِتُ وأُصْغِي وأَنْظُرُ إليه لا يُفَارِقُهُ نظري، ويَأْخُذُنِي عند ذلك ما يَأْخُذُنِي وأُطِيلُ النَّظرَ إليه كالمَبهُوتِ، لا تكاد عيني تَطْرُفُ وصوتُه يَتَحَدَّرُ في أقصى أعماقِ نَفْسِي كأنَّه وابلٌ مُنْهَمِرٌ تَستطِيرُ في نواحيه شَقائِقُ بَرْقٍ يُومِضُ إيماضًا سريعًا خفيفًا ثاقِبًا؛ أيَّامٌ لَم يَبْقَ منها إلا هذه الذِّكْرَى الخَافِتَةُ!

فإذا كَفَّ عن الإنشادِ والتَّرَنُّمِ أَقْبَلَ يَشْرَحُ ويُبَيِّنُ، ولَكِنَّ شَرْحَهُ وتَبْيِينَهُ لهذا الذي حَرَّكَهُ كُلَّ هذا التَّحريكِ، كان دون ما أُحِسُّهُ وأَفْهَمُهُ ويَتَغَلْغَلُ في أقاصي نَفْسِي مِن هيئتِه وملامحِه وهو يَتَرَنَّمُ بِالشِّعْرِ أو يُرَدِّدُ، كان دون ذلك بكثير، وكنتُ أُحِسُّ أحيانًا بِالْحَيْرَةِ والْحَسْرَةِ تَتَرَقْرَقُ في ألفاظِه وهو يَشْرَحُ ويُبَيِّنُ، كأنَّه كان هو أيضًا يُحِسُّ بأنَّه لَم يَبْلُغْ مَبْلَغًا يَرْضَاهُ في الإبانةِ عن أسرارِ هذه الكلماتِ والأبياتِ؛ هكذا كان شَأْنُ الشَّيخِ -رحمه الله-، أيّ علَّامةٍ ذوَّاقةٍ كان! هكذا حالُ الشَّيخِ كان في بيتِه، وأنا أَقْرَأُ عليه الأدبَ والشِّعْرَ يومئذٍ وَحْدِي.

أمَّا حالُه وهو يُلْقِي دُرُوسَهُ العامَّةَ التي يَحْضُرُهَا الجَمْعُ مِن طَلَبَةِ العِلْمِ، والتي كان يَحْضُرُ أمثالَها مِن قَبْلِنَا الدُّكتورُ طه قديمًا فِيمَنْ يَحْضُرُ دُرُوسَهُ في الأزهرِ، فكان مُخْتَلِفًا كُلَّ الاختلافِ؛ كان مُلْتَزِمًا بِالْجَدِّ والْوَقَارِ يَتَخَلَّلُهُمَا دَوْرٌ قَلِيلٌ مِن مُزَاحٍ لَاذِعٍ جَارِحٍ أحيانًا، ولَكِنَّهُ كان لا يُقَصِّرُ في الإبانةِ والشَّرْحِ، ولا في التَّوَقُّفِ عند الأبياتِ أو الكلماتِ الجِيَادِ الحِسَانِ المُحْكَمَةِ، فهذا مَوْضِعُ الفَرْقِ بين الذي أخذتُه أنا عن الشَّيخِ، والذي أخذه عنه الدُّكتورُ طه، وما كان على كُلِّ حالٍ بِقَادِرٍ أنْ يَأْخُذَ عنه ما أَخَذْتُ، فإنَّ الذي أخذتُه عنه وأَحْدَثَ في نَفْسِي ما أَحْدَثَ، لا يبلغُ السَّمَاعُ بالإذنِ منه شيئًا، لِأَنَّه وَلِيدُ المُشاهَدةِ والعَيَانِ، لا وَلِيدُ الألفاظِ والكلماتِ! ما علينا أيُّها العزيزُ) (انتهى).

ونُكْمِلُ كلامَ العُقابِ في المَقالِ القادمِ -إن شاء اللهُ-.

واللهُ المُوَفِّقُ.