الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (27)
كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيُكْمِلُ العُقَابُ حِكَايَتَهُ مع التَّذَوُّقِ في مَقَالَتِهِ التي نَشَرَتْهَا مَجَلَّةُ "الثَّقَافَةِ"؛ فَيَقُولُ: (ولَكِنَّ التَّفْكِيرَ في حقيقةِ "التَّذَوُّقِ" ما هو، لَم يَكُنْ دَاخِلًا في منطقةِ الوَعْيِ، ولا غَائِبًا أيضًا عن منطقةِ الوَعْي.
اسْتِطْرَادٌ: أرجو أنْ لا تَتَذَكَّرَ أنَّ هناك شيئًا حَادِثًا شَبِيهًا بهذا في مسألةِ "غَيْبَةِ الوَعْيِ" و"عَوْدَةِ الوَعْيِ" -هما كتابانِ لِلأستاذِ توفيقِ الحكيمِ-؛ لِأنَّنا هنا نَتكلَّمُ في فَنِّ الأدبِ والشِّعْرِ، لا في فَنِّ التَّمثيلِ والتَّهريجِ، وأيضًا لِأنَّ اللهَ عافاني مِن أنْ أُسْلِكَ نَفْسِيَ في عِقْدِ "الأساتذةِ الكِبَارِ"، فلذلك لَم أَتَعَلَّمْ هذه الفُنُونَ لا صغيرًا ولا كبيرًا، فليس بيني وبينها عَمَلٌ، وكذلك لفظُ "الوَعْيِ" هنا، ليس بينه وبين هذا اللَّفظِ عندهم عَمَلٌ؛ لا تَنْسَ ذلك أيُّها العزيزُ.
فَمُنْذُ الآنَ، سَأَقُصُّ عليك القِصَّةَ كاملةً "قِصَّةَ التَّذَوُّقِ"، لِأنِّي رأيتُك قد جُرْتَ عليَّ فيها جَوْرًا ما كان ينبغي أنْ يَكُونَ، جَوْرٌ هو أَشَدُّ مِن جَوْرِيَ الذي زعمتَه على صاحبِك الدُّكتور؛ سَأُبَيِّنُ لك تاريخَ "التَّذَوُّقِ" عِنْدِي، وبعضَ مَعانِيهِ عِنْدِي أيضًا، ومَنْهَجِيَ الذي مَلَكْتُهُ وطَبَّقْتُهُ في جميعِ ما كَتَبْتُ، ومِن خلالِ ذلك تَعْلَمُ -إنْ شاء اللهُ- إنِّي لَم أَظْلِمْ الدُّكتور طه حَبَّةَ خَرْدَلٍ في كُلِّ ما كَتَبْتُهُ عنه أو وَصَفْتُهُ به، بَلْ لَعَلِّي أَسَأْتُ أَبْلَغَ الإساءةِ حين تَغَاضَيْتُ عن كثيرٍ مِمَّا كان ينبغي أنْ أَقُولَهُ فيه قديمًا وحديثًا.
لَعَلَّكَ تَذْكُرُ أنِّي قد تَحَدَّثْتُ في مُقدِّمةِ كتابيَ "المُتنبِّي: 1/ 11-15"، وقُلْتُ: "إنِّي حَفِظْتُ "المُعَلَّقَاتِ العَشْرَ الجَاهِلِيَّةَ" صغيرًا، وإنَّ مَعْرِفَتِي بها لَم تَزِدْ قَطُّ على أنْ تَكُونَ زيادةً في ثروةِ مَعْرِفَتِي بِالْعَرَبِيَّةِ وبِشُعَرَائِهَا وشِعْرِهَا، وإنَّ قراءتيَ بعضَ أُصُولِ كُتُبِ الأدبِ والشِّعْرِ على الشَّيْخِ سيِّد بن علي المَرْصَفِي، شَيْخِي وشَيْخِ الدُّكتور طه مِن قَبْلِي، نَقَلَتْنِي مِن هذا الطَّوْرِ إلى طَوْرٍ آخَرَ، أَوْغَلَ بي في الحَفَاوَةِ بِالشِّعْرِ الجاهليِّ، وفي الحِرْصِ على قراءتِه وتَتَبُّعِ قَوَاصِيهِ ونَوَادِرِه، وإنَّ قراءتيَ على الشَّيْخِ أَوْقَفَتْنِي على شَيْءٍ مُهِمٍّ جِدًا، شَغَلَنِي، واسْتَوْلَى على لُبِّي وعلى نَفْسِي، فَعُدْتُ أَدْرَاجِي أَقْرَأُ دواوينَ الشُّعَرَاءِ الجاهليِّينَ، دِيوَانًا دِيوَانًا، شَاعِرًا شَاعِرًا، ومَن لَم أَجِدْ له منهم دِيوَانًا جَمَعْتُ لِنَفْسِي ما بَقِيَ مِن شِعْرِهِ وقَرَأْتُ شِعْرَهُ مُجْتَمِعًا؛ وهذا المَسْلَكُ في ترتيبِ القراءةِ جعلني أَجِدُ في الشِّعْرِ الجاهليِّ شيئًا لَم أَكُنْ أَجِدُهُ مِن قَبْلُ وأنا أَقْرَأُ الشِّعْرَ الجاهليَّ مُتَفَرِّقًا على غَيْرِ نِظَامٍ، مُبَعْثَرًا بين الشُّعَرَاءِ المُختَلِفِينَ؛ أو وأنا أَحْفَظُ هذه "المُعَلَّقَاتِ العَشْرَ الجَاهِلِيَّةَ"، وأُدَارِسُهَا وأَتَتَبَّعُ مَعَانِيَ ألفاظِها، مع اختلافِ مَعانِيها وأغراضِها" (المتنبي 1/ 14)" (انتهى).
ونُكْمِلُ الحِكَايةَ في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-.
فَاللَّهُمَّ يَسِّرْ وأَعِنْ.