الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (231) بناء إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- البيت وتأذينه في الناس بالحج (14)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 25-29).
قال البغوي -رحمه الله-: "قوله: (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) اختلفوا في معنى العتيق قال ابن عباس، وابن الزبير ومجاهد وقتادة: سمي عتيقًا؛ لأن الله أعتقه من أيدي الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه فلم يظهر عليه جبار قط. قال سفيان بن عيينة: سمي عتيقًا؛ لأنه لم يملك قط، وقال الحسن وابن زيد: سمي به؛ لأنه قديم، وهو أول بيت وضع للناس، يقال: دينار عتيق أي: قديم. وقيل: سمي عتيقًا؛ لأن الله أعتقه من الغرق فإنه رفع أيام الطوفان.
(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج: 30)، (ذَلِكَ) أي: الأمر ذلك، يعني ما ذكر من أعمال الحج. (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ) أي: معاصي الله وما نهى عنه، وتعظيمها ترك ملابستها. قال الليث: حرمات الله ما لا يحل انتهاكها. وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه، وذهب قوم إلى أن معنى الحرمات هاهنا: المناسك، بدلالة ما يتصل بها من الآيات. وقال ابن زيد: الحرمات هاهنا: البيت الحرام، والبلد الحرام والشهر الحرام، والمسجد الحرام، والإحرام. (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي: تعظيم الحرمات خير له عند الله في الآخرة.
قوله -عز وجل-: (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ) أن تأكلوها إذا ذبحتموها، وهي: الإبل والبقر والغنم، (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) تحريمه، وهو قوله في سورة المائدة: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) (المائدة: 3)، الآية، (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) أي: عبادتها، يقول: كونوا على جانب منها فإنها رجس، أي: سبب الرجس، وهو العذاب، والرجس: بمعنى الرجز. وقال الزجاج: (مِنَ) هاهنا للتجنيس أي: اجتنبوا الأوثان التي هي رجس، (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) يعني: الكذب والبهتان. وقال ابن مسعود: شهادة الزور. وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام خطيبًا فقال: "يا أيها الناس، عدلت شهادة الزور بالشرك بالله"، ثم قرأ هذه الآية. وقيل: هو قول المشركين في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك.
(حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج: 31).
(حُنَفَاءَ لِلَّهِ) مخلصين له. (مُشْرِكِينَ بِهِ) قال قتادة: كانوا في الشرك يحجون، ويحرمون البنات والأمهات والأخوات، وكانوا يسمون حنفاء، فنزلت: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) أي: حجاجًا لله مسلمين موحدين، يعني: من أشرك لا يكون حنيفًا.
(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ) أي: سقط، (مِنَ السَّمَاءِ) إلى الأرض، (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) أي: تستلبه الطير وتذهب به، والخطف والاختطاف: تناول الشيء بسرعة. وقرأ أهل المدينة: فتخطفه بفتح الخاء وتشديد الطاء، أي: يتخطفه، (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) أي: تميل وتذهب به، (فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) أي: بعيد؛ معناه: بُعد من أشرك من الحق كبعد من سقط من السماء فذهبت به الطير، أو هوت به الريح، فلا يصل إليه بحال. وقيل: شبه حال المشرك بحال الهاوي من السماء في أنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع بحيث تسقطه الريح، فهو هالك لا محالة إما باستلاب الطير لحمه وإما بسقوطه إلى المكان السحيق، وقال الحسن: شبَّه أعمال الكفار بهذه الحال في أنها تذهب وتبطل فلا يقدرون على شيء منها" (انتهى من تفسير البغوي).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.