الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 08 أكتوبر 2025 - 16 ربيع الثاني 1447هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (231) بناء إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- البيت ‏وتأذينه في ‏الناس بالحج (14)‏

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ ‏لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ ‏مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي ‏النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا ‏اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ ‏لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 25-29).‏

قال البغوي -رحمه الله-: "قوله: (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) اختلفوا في معنى العتيق قال ابن عباس، وابن الزبير ومجاهد وقتادة: سمي ‏عتيقًا؛ لأن الله أعتقه من أيدي الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه فلم يظهر عليه جبار قط. قال سفيان ‏بن عيينة: سمي عتيقًا؛ لأنه لم يملك قط، وقال الحسن وابن زيد: سمي به؛ لأنه قديم، وهو أول بيت ‏وضع للناس، يقال: دينار عتيق أي: قديم. وقيل: سمي عتيقًا؛ لأن الله أعتقه من الغرق فإنه رفع أيام ‏الطوفان.

‏(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج: 30)، ‏(ذَلِكَ) أي: الأمر ذلك، يعني ما ذكر من أعمال الحج. (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ) أي: معاصي الله وما نهى عنه، وتعظيمها ترك ملابستها. قال الليث: حرمات الله ما ‏لا يحل انتهاكها. وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه، وذهب قوم إلى أن ‏معنى الحرمات هاهنا: المناسك، بدلالة ما يتصل بها من الآيات. وقال ابن زيد: الحرمات ‏هاهنا: البيت الحرام، والبلد الحرام والشهر الحرام، والمسجد الحرام، والإحرام. (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي: تعظيم الحرمات خير له عند الله في الآخرة.‏

قوله -عز وجل-: (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ) أن تأكلوها إذا ذبحتموها، وهي: الإبل والبقر والغنم، (‏إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) تحريمه، وهو قوله في سورة المائدة: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) (المائدة: ‏‏3)، الآية، (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) أي: عبادتها، يقول: كونوا على جانب منها ‏فإنها رجس، أي: سبب الرجس، وهو العذاب، والرجس: بمعنى الرجز. وقال الزجاج: (مِنَ‏‏) هاهنا للتجنيس أي: اجتنبوا الأوثان التي هي رجس، (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) يعني: الكذب ‏والبهتان. وقال ابن مسعود: شهادة الزور. وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام خطيبًا ‏فقال: "يا أيها الناس، عدلت شهادة الزور بالشرك بالله"، ثم قرأ هذه الآية. وقيل: هو قول ‏المشركين في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك.‏

‏(حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج: 31).‏

‏(حُنَفَاءَ لِلَّهِ) مخلصين له. (مُشْرِكِينَ بِهِ) قال قتادة: كانوا في الشرك يحجون، ويحرمون ‏البنات والأمهات والأخوات، وكانوا يسمون حنفاء، فنزلت: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) أي‏‏: حجاجًا لله مسلمين موحدين، يعني: من أشرك لا يكون حنيفًا.‏

‏(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ) أي: سقط، (مِنَ السَّمَاءِ) إلى الأرض، (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) ‏أي: تستلبه الطير وتذهب به، والخطف والاختطاف: تناول الشيء بسرعة. وقرأ أهل المدينة: ‏فتخطفه بفتح الخاء وتشديد الطاء، أي: يتخطفه، (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) أي: تميل وتذهب به‏، (فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) أي: بعيد؛ معناه: بُعد من أشرك من الحق كبعد من ‏سقط من السماء فذهبت به الطير، أو هوت به الريح، فلا يصل إليه بحال. وقيل: شبه حال ‏المشرك بحال الهاوي من السماء في أنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع بحيث تسقطه الريح، فهو ‏هالك لا محالة إما باستلاب الطير لحمه وإما بسقوطه إلى المكان السحيق، وقال الحسن: شبَّه ‏أعمال الكفار بهذه الحال في أنها تذهب وتبطل فلا يقدرون على شيء منها" (انتهى من تفسير البغوي).‏

وللحديث بقية -إن شاء الله-.