الألباني.. إمامُ الحديث في العصر الحديث (9)
كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعلى الرغم من نباهة الفتى ناصر في دراسته، ونبوغه في اللغة العربية، وتعيير مُعلِّم اللغة العربية السوريين به، إلا أنّه وقر في نفسه أن يعمل نجّارًا في المستقبل!
ولو كنتُ زميلًا لهذا الفتى وعلمتُ ما وقر في نفسه لَشوَّقني هذا الأمر، ولَتملَّكني حب الاستطلاع فتساءلتُ: تُرى مَن هذا القادم الغريب الذي لا عهد له بنا ولا بالعربية، فيتفوق علينا فيها، ومع ذلك يهوى أن يكون نجّارًا؟!
وبعد زمنٍ طويلٍ يجيب الشَّيخُ الألباني عن هذا التساؤل قائلًا: "كان مُعلِّم اللغة والتاريخ أحمد حلمي -رحمه الله- يقول لي: أرناؤوط! أنت بمجرد أن تخرج من المدرسة ستصبح كسّار حطب؟
يشير إلى أنّ قومنا كُلَّهم الذين هاجروا إلى دمشقَ لَم يكن فيهم صاحبُ صنعة، فإمّا كسّارين حطب وإمّا كسّارين حجارة! فالطرق يومئذٍ كانت تُرصَف بالحجارة؛ فإمّا أن يكون مُوظَّفًا في البلدية، وإمّا أن يلحق بالفلّاحين الذين يأتون بالخشب من القرى لتكسيرها، فتجد البغال والجمال مُحمَّلةً بخشب الجوز أو المشمش والأرناؤوطيّ يمشي معها، ويأتي المشتري، ومع تنزيل الحِمل يحتاج المشتري إلى كسّار فيجد الأرناؤوطي، فهكذا كانوا يعيشون. فيقول لي المُعلِّم: أترغب في أن تكون كسّار حطب؟ فأقول له: لا؛ وقد أُلقِي في نفسي أن أكون نجّارًا" (انتهى).
ويُصدِّقُ العملُ ما وقر في قلب الفتى، فلمّا حصل على الشهادة الابتدائية رفض أبوه الشيخ نوح أن يكمل دراسته النِّظاميّة؛ لأنّها لا تعتني بدراسة العلوم الدينية، ولا تعمل على التربية الإسلامية، فما وجد الفتى أمامه إلا أن يعمل في النِّجارة، وهي المهنة التي يهواها منذ بدايات دراسته.
وحكي لنا الألباني قِصَّتَه قائلًا: "لمَّا أخذتُ الشهادة الابتدائية عمِلتُ مع مُعلِّمَين، أحدُهما خالٌ لي، نجّار، اسمه إسماعيل، وآخَرُ دمشقيّ، لكن هذه النجارة نجارةٌ عربية، أي: تصليح البيوت القديمة التي كانت مَبنيّةً بالطوب والأعمدة الخشبية، فهذه سرعان ما تخرب بسبب الثُّلوج والأمطار، إلخ، فتحتاج إلى نجّار يُرقِّع هذه الأمور، فأنا كنت اشتغلت عند هؤلاء النجّارين، والذي يصير أنّه في أيّام الشتاء يكون هناك ثلجٌ وبردٌ ومطر، فلا يوجد عمل، فماذا أفعل؟ أذهبُ في الصَّباح إلى المُعلِّم، فيقول لي: يا بُنيّ، اليوم لا يوجد عمل، فأنت ترى البرد والمطر! فأمُرّ على والدي في الدُّكّان، فأُلقِي عليه السلام، فيردّ عليّ السلام، ويقول: لا عمل لك اليوم؟ فأقول: لا يوجد عمل؛ وفي يومٍ من الأيّام قال لي: يا بُنيّ، ما يُعجبني هذا العملُ، تعملُ يومًا أو يومَين ولا تعملُ يومًا أو يومَين!" (انتهى).
فتُرى ماذا فعل الحاج نوح مع ابنه ناصر؟ هل أبدى عدم رضائه عن عمل الفتى فقط دون أن يُساعدَه أو أعانه على الخروج من هذا الضِّيق؟
سنجيبُ عن هذا في المقال القادم -إن شاء الله-.
ونَسألُ اللهَ الإعانة.