الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 25 فبراير 2025 - 26 شعبان 1446هـ

الصالون الأدبي (مع عقاب العربية: الأستاذ محمود محمد شاكر) (30)

كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فتمر الأيّامُ، ويتجدد اللِّقاءُ بالقُرّاءِ الأعِزّاءِ، وتستمر رحلتُنا مع عُقابِ العربيَّةِ، الذي كان أشبه ما يكون بالدِّيمةِ المُمطرةِ، التي أظلَّتْنا أكثرَ مِن ثمانينَ عامًا تُمِدُّنَا بالخير والعطاء، ثم اختفت من سمائنا، تاركةً آثارَها الطيِّبةَ، نتأمَّلُها ونفيدُ منها.

فيواصلُ العُقابُ حكايتَه مع التَّذَوُّقِ قائلًا: (وقد حدَّثتُ الدُّكتور طه مِرارًا، وأنا أجادله يومئذٍ فأطيل، بالذي كنتُ أجده في نفسي ولا أحسن العبارةَ عنه؛ أي: بما هو "وراء التَّذَوُّق"، فكان يُصغي إليَّ أحيانًا كثيرة، ثم ينتهي إلى أن يُمصمِصَ بطرفِ لسانِه، وبزهوه وخيلائه وإفراطه في الإعجاب بنفسه، لا يكون ردُّه عليَّ إلَّا سُخريةً بي وبما أقول.

كان زهوه يجعله لا يصبر، فلَم يفهم عنِّي مرَّةً واحدةً كُلَّ الفَهمِ أو بعضَ الفَهمِ.

لَم أكن أبالي بسخريته، فقد أَلِفْتُهَا منذ قديم، وأَلِفْتُ استخفافَه بالنّاسِ جميعًا سوى نفسه، "شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمِ" -كما يقال في المَثَل- (والشِّنْشِنَةُ: الخَلِيقةُ والسَّجِيَّةُ المَغروزةُ في الطَّبيعةِ).

هذا، على أنَّه كان له يومئذٍ كُلُّ العُذرِ في خيلائه واستخفافه؛ لأنَّ ذُيوعَ صيتِه بفعل المُعارَضةِ التي لقيها كِتابُه: "في الشِّعر الجاهليّ"، بلغ مَبلغًا مُثيرًا، فهو طائرٌ مُحَلِّقٌ في جَوِّ السَّماء، كُلُّ شيءٍ يقع عليه بصرُه يتضاءل ويصغر، كُلَّما أمعن في العُلُوِّ والتَّصعيدِ، وهو معذورٌ أيضًا؛ لأنه كان يومئذٍ في الثَّامنةِ والثَّلاثينَ من عُمره، وكان يُحِسُّ أنَّه أصبح مشروعًا مُعَدًّا ناضجًا قابلًا لِلتَّنفيذِ؛ أي: هو في طريقِه إلى أن ينقلبَ أستاذًا كبيرًا، فلا بُدَّ له من التَّشَبُّعِ بسَننِ "الأساتذة الكبار" في الزَّهْوِ والعُجبِ والاستخفافِ.

ومع "الزَّهْوِ والعُجبِ والخُيلاءِ" لَم أجد عنده صبرًا أو استجابةً أو مُحاوَلةً لِفَهْمِ ما أقول، كاستجابةِ المَرصَفي شيخي وشيخه هو أيضًا.

ذهب كُلُّ كلامٍ بيني وبينه هَذَرًا باطلًا، هكذا ظننتُ يومئذٍ! ولكنِّي قد قصصتُ قِصَّةَ تَذكُّرِه لهذا الحديثِ البعيدِ وظهور أثره فيما كتبه في جريدةِ الجهادِ سنة 1935م، حين أَحَسَّ أنَّ العرشَ يَهْتَزُّ مِن تحته، قصصتُها في كتابي "المُتَنبِّي" (1/ 41 - 47)، وفي مواضعَ أخرى.

ثم ما فُوجِئَ به عند ظهور كتابي عن المُتَنبِّي سنة 1936م؛ حيث استبان له أنِّي طبَّقتُ في هذا الكتابِ منهجًا في "تَذَوُّقِ الشِّعر"، يُشبِه أن يكون قريبًا من شيءٍ سمعه قديمًا منِّي، ثم ذَهَلَ عنه في غَمرةِ الأحداثِ والأزمانِ.

ويومئذٍ بدا له أن يفعلَ ما فعل، مِمَّا قصصتُه أيضًا في مُقدِّمة كتابي "المُتَنبِّي" (1/ 147 - 158)، وفيه قِصَّةُ "السَّطْوِ" كاملةً على اختصارها، فإن شِئتَ فَأَعِدْ قراءتَها، فعسى أن تَجِدَ فيها شيئًا يزداد وضوحًا بعد هذا الحديثِ) (انتهى).

وإلى لقاءٍ قادمٍ -إن شاء الله-.

وعلى الله قصدُ السَّبيل.