الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 18 ديسمبر 2024 - 17 جمادى الثانية 1446هـ

مكارم الأخلاق (10) الشجاعة (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

مقدمة:

- الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

- من مكارم الأخلاق المنشودة: "الشجاعة"؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌الْمُؤْمِنُ ‌الْقَوِيُّ ‌خَيْرٌ ‌وَأَحَبُّ إلى ‌اللهِ ‌مِنَ ‌الْمُؤْمِنِ ‌الضَّعِيفِ، ‌وَفِي ‌كُلٍّ ‌خَيْرٌ) (رواه مسلم).

- تعريف الشجاعة: قال ابن القيم -رحمه الله-: "هي: ثبات القلب عند النوازل، واستقراره عند المخاوف".

- ما أحوجنا إلى التذكير بفضل الشجاعة في زمان غابت فيه الشجاعة عند كثير من الناس(1)، وكثر فيه النفاق والجبن، والمداهنة، والتملق بالباطل تحت مسميات زائفة: عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا، لَا ‌نَخَافُ ‌فِي ‌اللهِ ‌لَوْمَةَ ‌لَائِمٍ" (متفق عليه).

(1) شواهد الحث على الشجاعة في القرآن والسنة:

- أمر الله -سبحانه وتعالى- المسلمين بالشجاعة عند القتال في سبيله، وذكر مضار الجبن، وأنه من الأخلاق الرذيلة المنقصة للدين والمروءة: قال -تعالى-: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) (البقرة: 190)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال: 45)، وقال: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال: 16).

- وقد حثَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمَّته على الشجاعة، وجعَلها مَجلبة لحب الله ورضاه، وسببًا في تحصيل الدرجات العالية: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ‌قُتِلَ ‌دُونَ ‌مَالِهِ ‌فَهُوَ ‌شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: («‌أَلَا ‌لَا ‌يَمْنَعَنَّ ‌رَجُلًا ‌هَيْبَةُ ‌النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). ولما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (‌كَلِمَةُ ‌حَقٍّ ‌عِنْدَ ‌سُلْطَانٍ ‌جَائِرٍ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

- وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن المؤمن الشجاع أكثر إقدامًا على العدو في الجهاد، وأسرع خروجًا إليه، وذهابًا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، من غيره من المؤمنين؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: -: (‌الْمُؤْمِنُ ‌الْقَوِيُّ ‌خَيْرٌ ‌وَأَحَبُّ إلى ‌اللهِ ‌مِنَ ‌الْمُؤْمِنِ ‌الضَّعِيفِ، ‌وَفِي ‌كُلٍّ ‌خَيْرٌ) (رواه مسلم).

وكان -صلى الله عليه وسلم- ينفِّرهم من الجبن؛ فالشجاع مُحبَّب إلى جميع الناس حتَّى إلى أعدائه، والجبان مُبغض حتى إلى أوليائه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (شَرُّ ‌مَا ‌فِي ‌الرَّجُلِ ‌شُحٌّ ‌هَالِعٌ، ‌وَجُبْنٌ خَالِعٌ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني). وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الشجاع يقاتل عمن لا يعرفه، والجبان يفر عن عروسه!" (نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري). والعرب تقول: "إن الشجاعة وقاية، والجُبن مَقتلةٌ" .

وقال شاعرهم:

وإنَّا لَتَسْتَحْلِي المَنَايا نُفُوسُنا        وَنَتْرُكُ أُخْرَى مُرَّةً لا نَذُوقُهَا

قلتُ: "والجبناء يقولون: عش جبان تمت مستورًا!".

- وكان -صلى الله عليه وسلم-: يعلم المسلمين أن يتعوذوا من الجبن؛ لما له من الأثر السيئ في الدنيا والآخرة: فعن سعد -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يتعوذ دبر الصلاة: (‌اللَّهُمَّ ‌إِنِّي ‌أَعُوذُ ‌بِكَ ‌مِنَ ‌الْجُبْن وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَاب الْقَبْر) (رواه البخاري).

(2) ضوابط حول أنواع الشجاعة ومجالاتها:

1- الشجاعة مصدرها قوة القلب، وليس قوة البدن: قال ابن القيم -رحمه الله-: "كثير من النَّاس تشتبه عَلَيْهِ الشجَاعَة بِالْقُوَّةِ، وهما متغايران، فَإِن الشجَاعَة هِيَ ثبات الْقلب عِنْد النَّوَازِل وَإِن كَانَ ضَعِيف الْبَطْش" (الفروسية المحمدية لابن القيم).

وقال الشاعر:

تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيْفَ فَتَزْدَرِيْهِ وَفِي أَثْوَابِهِ أَسَدٌ مَزِيرُ

وَيُعجِبُكَ الطَّرِيرُ فَتَبْتَلِيهِ فَيُخْلِفُ ظَنَّكَ الرَّجُلُ الطَّرِيرُ

2- الشجاعة فطرية وكسبية:

- فالفطرية: يولد بها الإنسان، أو يرثها من أهله وعشيرته، ومثالها: شجاعة الغلام الذي قال لعمر: "ليس الطريق ضيقًا فأوسعه لك، ولم أقترف ذنبًا فأخاف منك" (عيون الأخبار لابن قتيبة).

- والكسبية: يكتسبها الإنسان بالتعلم والتجارب والمخالطة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا ‌الْعِلْمُ ‌بِالتَّعَلُّمِ، وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ) (رواه الطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني). (أمثلة: الجندي الجديد - الخطيب الجديد -...).

3- الشجاعة طبيعية وأخلاقية:

- فالطبيعية: تكون تجاه الألم الطبيعي والمشقة، أو التهديد والتخويف بالموت. (مثاله: الثبات عند ملاقاة عدو).

- والأخلاقية (الأدبية): هي القدرة على التصرف بشكل صحيح تجاه المخالف. (مثاله: توجيه النصيحة للمخطئ - أو إنكار المنكر على صاحبه وعدم الاستحياء من ذلك).

4- الشجاعة منها محمود ومذموم:

- فالمحمود منها: ما كان في نصرة الحق ورد الباطل.

- والمذموم منها: ما كان من أجل حظ النفس والأمور الدنيئة.(الحمية للقبيلة والعائلة في الباطل - الرياء ليسمع الناس - في الفجور والاجتراء على المحرمات - ...)(2).

4- الشجاعة ليست قاصرة على القتال، بل لها ميادين كثيرة: (الدعوة والتعليم - الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر - سياسة الناس،).

5- الشجاعة ليست في الإقدام فحسب؛ بل الشجاعة هي الإقدام في موضع الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام، والثبات في مواضع الثبات، والزوال في موضع الزوال. وضدُّ ذلك مُخل بالشجاعة، وهو إما جُبن، وإما تهور، وإما خفة وطيش: (شجاعة خالد بن الوليد، وقرار الانسحاب يوم مؤتة).

(3) نماذج في الشجاعة:

1- شجاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ" (متفق عليه)، وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدُوِّ، ‌وَكَانَ ‌مِنْ ‌أَشَدِّ ‌النَّاسِ ‌يَوْمَئِذٍ ‌بَأْسًا" (أخرجه أحمد بسند صحيح).

2- شجاعة أبي بكر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لما تولى الخلافة: (يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم - إنفاذ جيش أسامة - حروب الردة ومانعي الزكاة - وغيرها).

3- شجاعة مؤمن آل فرعون -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وموقفه الشجاع في الاجتماع الظالم للفراعنة، لما دبروا لقتل موسى -عليه السلام-: قال الله -تعالى- عنه: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر: 28).

4- شجاعة داعي القرية الظالمة: قال -تعالى-: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ . إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ . قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ . قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ . وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ . قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ . قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ . وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ . اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ . وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ . إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ . قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (يس: 13-27)، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "وطئوه بأرجلهم حتى خرج قُصْبه من دُبُره" (تفسير الطبري).

5- شجاعة شباب الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم-: قال الذَّهبي -رحمه الله- في السِّير: "وبلغنا أنَّ البراء يوم حرب مسيلمة الكذَّاب أمر أصحابه أن يحتملوه على ترسٍ، على أسنة رماحهم، ويلقوه في الحديقة، فاقتحم إليهم وشدَّ عليهم، وقاتل حتى افتتح باب الحديقة"، يعني: للمسلمين ليدخلوا "فجُرح يومئذٍ بضعةً وثمانين جرحًا، ولذلك أقام خالد بن الوليد عليه شهرًا يداوي جراحه، وقد اشتهر أن البراء قَتَل في حروبه مائةَ نفسٍ من الشُّجعان مبارزة" (سير أعلام النبلاء).

6- شجاعة نساء الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُن-: (أسماء بنت أبي بكر): قالت لابنها -عبد الله بن الزبير- حين قال: "إني أخاف أن يمثَّل بي الحجاج، قالت: يا بني ما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها"؛ عندئذٍ خرج فقاتل قتالًا باسلًا حتى استُشهد، وأقبل عليه الحجاج فحز رأسه، ثم بعث بها إلى عبد الملك بن مروان، وصلبه منكسًا. فقالت: "ما يمنعني من الصبر، وقد أُهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل"، وحين طرح الحجاج جسد ولدها في مقابر اليهود، ثم أرسل إليها أن تأتيه، فأبت أن تأتيه، فأرسل إليها: لتأتين أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك حتى يأتيني بك، فأرسلت إليه: "وَاللهِ لَا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثَ إِلَيَّ ‌مَنْ ‌يَسْحَبُنِي ‌بِقُرُونِي! قَالَ: فَقَالَ: أَرُونِي سِبْتَيَّ! فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللهِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ! بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، أَنَا وَاللهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الدَّوَابِّ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ، أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَنَا أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا، فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ! قَالَ: فَقَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا" (رواه مسلم). والمبير هو: المسرف في إهلاك الناس وقتلهم.

7- شجاعة صبيان الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم-: معاذ بن عمرو بن الجموح وصاحبه، قالا لعبد الرحمن بن عوف وهو واقفٌ بينهما يوم بدر حيث غمزه أحدهما فقال: "يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ ‌سَوَادِي ‌سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ، فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ" (متفق عليه). (الصبي الذي ثبت ولم يفر عند رؤية عمر -رضي الله عنه-).

8- شجاعة عُميان المسلمين (عبد الله بن أم مكتوم): ومع أنَّ الله أنزل عذره، فكان يغزو بعد ذلك، ويقول: "ادفعوا إليَّ اللواء فإنِّي أعمى لا أستطيع أنَّ أفرَّ وأقيموني بين الصَّفين!" (سير أعلام النبلاء).

خاتمة:

- على الأمة أن تسعى بكل الوسائل الممكنة لبثِّ هذا الخلق العظيم في أبنائها؛ لأنه من أسباب عودة عزها وصلاحها: قال ابن تيميَّة -رحمه الله-: "لَمَّا كان صلاح بني آدم لا يَتمُّ في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم؛ بيَّن الله -سبحانه- أنّه من تَولَّى عنه بترْكِ الجهاد بنفْسِه، أَبدَلَ الله من يَقوم بذلك: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) (الاستقامة).

نسأل الله أن يجعلنا من الشُّجعان في الحقِّ والعمل به.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) من المؤسف أننا صرنا نرى الشجاعة في أصحاب الباطل، يدافعون عن قضياهم بكل قوة، وفي المقابل: لا نرى في أكثر أصحاب الحق ذلك. وصدق عمر -رضي الله عنه-: "عجبت لجلد الفاجر، وعجز الثقة!".

(2) ومن أقبح أمثلة الشجاعة في الباطل: شجاعة ابن أخطب اليهودي يوم عرض على القتل يوم بني قريظة، فجعل يبدي جَلَدًا وشدة عداوة للمسلمين.