الشيشان وروسيا ... مِن العداء إلى الولاء!
كتبه/ ياسر عبد رب الرسول
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
- فقد بدأ الفتح الإسلامي طرق الشيشان وأراضي القوقاز عامة في العهد العمري الراشدي، وبعد فتح المجال الاجتماعي لتجار المسلمين بالدعوة للإسلام، الذي بدأ بالتزايد في أرض الشيشان حتى بات سكانها وقبائلها شعوبًا إسلامية، وصار بجنوب شرقها بداغستان مسجدٌ مِن أقدم المساجد الإسلامية، بُني مِن أكثر مِن ألف عام بدربند.
- في عهد الدولة العثمانية انتقلت الصوفيةُ إلى الشيشان، وصارت هناك جماعات وقادة، ومجاهدون صوفيون يقاتِلون الغزاة الروس، فكانت المنطقة تُحكَم عن طريق قبائل فيهم طرق صوفية شديدة التعصب لمذهبها في أبواب العبادات، والتصورات والسلوك، ولكنه لم يَطل بعد جانب الولاء والبراء، وجهاد الأعداء.
- بدأ الاحتلال الروسي في 1556م بغزو أستراخان، وحاول القياصرة اختراق القوقاز ببعثات تنصيرية، إلا أن سياسة التنصير منيت بالفشل الذريع، فلجأوا إلى الهجوم العسكري، واستمر الصراع أكثر من 300 سنة وسط مقاومة عنيفة حتى سيطر الروس في 1864م.
إلى أن جاءت الشيوعية أو الثورة البلشفية 1917م؛ فازداد اضطهاد المسلمين بحملات الإبادة وقتل ملايين المسلمين، والتهجير، وتفتيت القوقاز إلى دويلاتٍ ومناطقَ، فكانوا يصلُّون متخفين، وتُغلَق مساجدهم وتهدم، حتى سُمِح لهم بالصلاة وتعليم الدين ليلًا في عهد "بريجينف" (1964م - 1982م) -الذي للمفارقة كان أوكرانيًّا-.
- بعد انهيار الاتحاد السوفيتي 1991م وعزل رئيسه "غورباتشوف"، وتفكك جمهورياته، والمطالبة بالانفصال والاستقلال، وانشغال "يلتسن" بالداخل الروسي؛ انتخب الشيشانيون "جوهر دوداييف" الذي كان قائدًا عسكريًّا في الجيش السوفيتي قبل ذلك، وأعلن الاستقلال بعد احتلال روسي لم يزد عن 130 عامًا.
وفي عام ا994م قامت الحرب الشيشانية الأولى، وأرسل يلتسن 60 ألف جندي مع قصف روسي لإعادة الشيشان إلى روسيا.
وبدأ الشيشانيون بالدفاع عن أنفسهم، ويقال: إنه قتل خمسة آلاف من الروس (الرقم الرسمي الروسي، فيما تصل تقديرات "اتحاد لجان أمهات الجنود الروس" إلى ثلاثة أضعاف هذا الرقم)، وكانت هذه صدمة للروس، حيث كان يتفاخر وزير دفاعهم أنه سينهي الحرب في ساعاتٍ معدودةٍ!
- استشهد أكثر من ثلاثين إلى أربعين ألف مدني شيشاني في الجولة الأولى لهذه الحرب، وحدثت مجازر كثيرة، وفي 1995م انضمت الجماعات التي كانت تقاتل الروس في أفغانستان -وتحليل تاريخها وأحداثها يحتاج لإفراده في موطن آخر-، وتطور القتال مع اشتداد المقاومة الشيشانية وخسر الروس كثيرًا في هذه الحرب، حتى إنه في 1996م، وبعد اغتيال الزعيم الشيشاني "جوهر دوداييف" من خلال قصف جوي، ليتولى قيادة استقلال الشيشان خليفته: "سليم خان يندرباييف" -(كان كاتبًا وشاعرًا، ومفكرًا وسياسيًّا، وحصل على شهادته الجامعية في الأدب، وانضم إلى اتحاد الأدباء السوفيات)-، وجدت روسيا نفسها مرغمة على عقد اتفاقٍ مع المجاهدين الشيشانيين، الذين كانت تعتبرهم قبلها إرهابيين، وأجبر يلتسن على مضضٍ وبشكلٍ مهينٍ على توقيع اتفاق الهدنة في مشهدٍ موثَّقٍ على "اليوتيوب"، حيث جلس الرئيس الروسي على صدر طاولة المفاوضات، فرفض "يندرباييف" -الذي كان يرتدي الزي العسكري- بكلِّ ثقة -وهدوء- أجبرت "يلتسين" أن يقوم وينتقل إلى جانب الطاولة ليكون أمامه ندًّا لند.
- هنا انتهت الحرب الشيشانية الأولى، واستقلت الشيشان فعليًّا دون اعترافٍ رسمي من روسيا التي اتفقت فقط على وقف القتال، وتم انتخاب "أصلان مسخادوف" رئيسًا للشيشان في 1997م.
- وبدأ الروس في افتعال المشاكل وزرع الجواسيس، وتنفيذ بعض عمليات الاغتيال حتى للمدنيين مِن الأطباء، وأي مَن له أثر إيجابي في المجتمع، مع افتعال المشاكل الحدودية، كخطةٍ لاسترجاع الشيشان؛ لأهمية مواردها ولقربها، وبدأت حشود روسية تجتمع كتحضيراتٍ للغزو، لكنهم يريدون مبررًا سياسيًّا ليعيدوا السيطرة على منطقة القوقاز.
- بجوار الشيشان تعالت دعوات الاستقلال في "داغستان"، التي كانت تحت سيطرة موسكو، وهنا حدث تحرك ترتبت عليه نتائج إستراتيجية - (وقد أمر الشرع باعتبار مآلات الأمور والنظر في قوة العدو، والترجيح بين ما يجتمع من حسنات وسيئات، وللأسف كثيرًا ما سَبَق السعي الوعي؛ فلم يكن هناك إحكام لفقه الجهاد في سبيل الله، وفقه المصالح والمفاسد، فكانت تنتشر تصورات غير واقعية عن استمرار القتال حتى تحرير فلسطين ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام، دون النظر إلى واقع الأمة الأليم وضعفها الذي يحتِّم مراعاة موازين القوى الدولية كما أمر الشرع)-؛ أقول: حدث الاختلاف عندما قرَّر ما يُسَمَّى "اللواءُ الإسلامي" دعمَ الاستقلاليين في داغستان؛ رغم الفوضى التي عَمَّت الشيشان بعد الحرب، ولم تفرض الحكومة الناشئة سيطرتها بعد، وحدث خلاف بين الشيشانيين برفض "مسخادوف" الرئيس المنتخَب للتدخل في داغستان، الذي رأى التربُّص الروسي بالدولة الوليدة، بينما أصر المقاتِلون العرب، وبعض القادة الشيشانيين، وعلى رأسهم: "شامل باسييف" على دخول داغستان.
حدث هذا في 1999م عندما وَصَل إلى الحكم، رئيس الوزراء الجديد "فلاديمير بوتين" الذي رآها فرصة سانحة لإحراز شعبية ضد منافسيه السياسيين في موسكو بدخوله الحرب الشيشانية الثانية؛ فاجتاح داغستان، ونفِّذت في نفس الوقت عمليات عسكرية داخل موسكو، مِن: تفجيرات، واغتيالات، واختلف المحللون حول تلك العمليات: هل قام بها المقاتِلون العرب أم تم تدبيرها من الاستخبارات الروسية ثم تم استغلالها لاحقًا؟!
وواصل الروسُ تقدُّمهم بعد داغستان إلى الشيشان، ونفَّذوا في العاصمة "جروزني" سياسة الأرض المحروقة -فما كان بوتين يقاتل، وإنما كان يهدم المدنَ بما ومَن فيها ويسويها بالأرض، ثم يدخل-، وقُتِل مسخادوف المنتخب.
وهنا يجب أن نستشعر الأجواء الشيشانية التي كان يسودها نزاعٌ حادٌّ جدًّا بين الفصائل المقاتِلة كما حدث في أفغانستان مِن قَبْل، وفي سوريا حديثًا؛ بسبب اختلاف المناهج، بين التكفير والصوفية، وبين العرب والعجم، وكان النزاع شديدًا بين الصوفية والمقاتلين العرب بشكلٍ واضحٍ يصل إلى الاقتتال فيما بينهم، مع خللٍ ظاهرٍ في دراسة مسائل الإيمان والكفر، وعدم حكمةٍ في معالجة الواقع.
- وفي أواخر 2000م تم تدمير الشيشان عن بكرة أبيها وضمها لروسيا، ولكن الجديد هنا: أن مقاتلًا كان يقاتِل الروس، وكان مفتيًا شيشانيًّا، وكان على خلافٍ كبيرٍ مع غيره مِن المقاتلين، فتقرَّب من الروس وتم تعيينه مِن قِبَلهم رئيسًا للشيشان، وهو: "أحمد قاديروف"، مما شكَّل خرقًا للجبهة الشيشانية وتفتيتًا لكلمتها، وموطئ قَدَمٍ للروس لم يُتح لهم قَبْل ذلك داخل صفوف الشيشان.
- وبدأ قاديروف ملاحقة المقاتلين العرب والتنكيل بهم، وهناك بعض الصور التي تبيِّن كيف كانوا يطعنونهم إذا ظفروا بأحدهم، وفَرَّ أغلبهم إلى الجبال.
- وفي 2006م قُتِل القائدُ الشيشاني "شامل باساييف"، وصار هناك تطرف فكري وقتها وتكفير، وانتشرت مناهج مختلفة، وصاروا ينظرون إلى "أحمد قاديروف" على أنه عميل رسمي للروس، وتم اغتياله عن طريق عبوة ناسفة في ملعب كرة قدم.
فوضع بوتين "رمضان أحمد قاديروف" الرئيس الحالي، الذي استلم الحكم بعد أبيه وفي قلبه غلٌّ على مَن قَتَل أباه، وبالتالي صَرَف ولاءَه للروس؛ وذلك تطبيقًا للمنهج المنحرف الذي يطبِّق نصوص "طاعة ولاة الأمور" حتى مع "الحاكم الكافر"!
وهؤلاء المتسلِّطون من غير المسلمين على بلاد المسلمين؛ يُجَاهَدون، فإن كان هناك عجزٌ تحوَّل الأمر إلى إعداد العدة لجهادهم، وحتى بلاد المسلمين التي تطبِّق الدساتير الحديثة لا ينطبق على حكامها وصف ولاة الأمور باصطلاح السياسة الشرعية، وإن كان ينطبق عليهم بلا شك "وتعانوا على البرِّ والتقوى ولا تعانوا على الإثم والعدوان"، وتطبَّق القواعد العامة في الحفاظ على المسلمين وعلى بلاد المسلمين وعلى أمنها.
وفي النهاية: فإن تمكُّن مناهج الصوفية الغالية في تلك الأقاليم، وغلبة التقليد، وصرف الناس عن المصادر الأصلية للدِّين "الكتاب والسُّنَّة"، سَهَّل على قادتهم السياسيين أن يحولوهم إلى التبعية المطلقة لأعدائهم التاريخيين، بدلًا من حتى مجرد المهادنة وترك القتال، وأعلن رمضان قاديروف أنه وقواته تحت قيادة بوتين!
وصدَّرت الفتاوى الرسمية الشيشانية: أن الموتَ في أوكرانيا هو شهادة مصيرها إلى الجنة، وأصبحت الشيشان بيدقًا بيد روسيا!