كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمع انتشار عدوى فيروس "كورونا"، صدرتْ من عدة هيئات شرعية في عددٍ مِن البلدان الإسلامية فتاوى تجيز للسلطات اتخاذ إجراءات (منع) صلاة الجمعة والجماعة، وبالفعل صدرت القرارات التنفيذية في عددٍ كبيرٍ مِن البلاد العربية والإسلامية تتضمن هذا المعنى.
وتناقل النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو يدمَى لها القلب مِن مؤذنين تحشرجت حلوقهم وهم ينادون: "ألا صلوا في رحالكم"، ومِن أئمة أخذهم البكاء وهم يخبرون رواد مسجدهم أن هذه هي صلاتهم الأخيرة في المسجد إلى أجل لا يعلمه إلا الله، وما أبلغ ما قاله أحد أئمة العراق ردًّا على سؤال المصلين حتى متى؟ فقال: "حتى يرضى الله عنا!".
فنحن مع علمنا بآلية هذا الفيروس في النمو والانتشار، وكيف ينتقل مِن مصابٍ إلى آخَر، إلى آخِر هذه الأمور والتي يترتب عليها لزوم الأخذ بأسباب الوقاية والعلاج؛ فإننا في ذات الوقت ندرك أن الله هو خالق الكون، ومدبره ومسيره، ونؤمن بأنه قد أخبرنا بأن سبب البلاء ذنوب بني آدم كما قال -تعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41).
وقال -عز وجل-: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:165).
وقال العباس -رضي الله عنه- في استسقائه: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنبٍ، ولم يرفع إلا بتوبة".
وقد يتساءل البعض عن سرِّ هذا البكاء، وقد حدث في كثيرٍ مِن هذه البلاد التي أمرت السلطات المعنية فيها المؤذنين بأن ينادوا: "صلوا في رحالكم" عند نزول المطر، بل وربما كان ذلك في مطرٍ خفيفٍ عملًا بمذهب الإمام أحمد -رحمه الله-، والذي كان يبالغ في إعمال الرخصة الثابتة بالنص؛ عملًا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني)؟
والجواب: أن الفارق بين الحالتين ظاهر مِن عدة جهاتٍ:
الأول: أن: "صلوا في رحالكم في حالة المطر" كانت رخصة ولم يكن يخلو الأمر مِن آخذ بالعزيمة أو مِن جيران المسجد من يقوم بهذه الشعيرة.
الثاني: أنه غالبًا ما كان يطبَّق بالجمع بين المغرب والعشاء في المسجد، ثم قول: "صلوا في رحالكم" في آذان العشاء؛ لأنها صُليت جماعة بالفعل.
الثالث: أنه حتى لو ترخص به في كل صلوات اليوم فغالبًا ما يكون محدودًا مكانيًّا وزمانيًّا، فمن جهة المكان فقد جرت العادة ألا يعم المطر الكثير مِن المدن والقرى في آنٍ واحدٍ، ومن جهة الزمان فهي حالة استثنائية تنتهي بانتهاء سببها، بخلاف حالتنا تلك والتي لا يبدو فيها في الأفق إلى أي وضع سوف يستمر الوضع. نسأل الله أن ينعم على الأمة الاسلامية بفرجه القريب من هذا الوباء، وغيره من الأسقام.
والسؤال الآخر عن هذه الأمور السابقة: هل هي مجرد أمور تزيد مِن ألم المسلمين لفراق مساجدهم أم أنها اعتبارات شرعية تستوجب وضع مزيدٍ مِن الضوابط في هذه الفتوى؟
نعني أن قاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات" لا يمكن إعمالها بمعزلٍ عن قاعدة: "الضرورة تقدر بقدرها"، ومِن ثَمَّ فإن الدرجة التي ثبت الدليل على أنها رخصة للمحتاج لا ينبغي أن تكون هي بعينها التي يمكن اعتبارها رخصة في "تعطيل شعيرة الجمعة والجماعة في المسجد"، وليس مجرد الإذن للأفراد بالرخصة في عدم حضورها، بل ربما (تحريم حضورها عليهم) في حق مَن يتأذى الناس بحضوره لصلاة الجماعة، وهذه نقطة في غاية الأهمية، وهو ما نريد أن نلقي عليه الضوء في هذا المقال.
ولستُ أريد أن أقرر هنا أنه لا سبيل إلى القول بجواز الفتوى برخصة أكثر اتساعًا من الرخصة الفردية في وقائع معينة، وإنما أريد أن أقرر: أن وجود النصوص التي تبيح للأفراد أو حتى تلزمهم في حالات معينة بعدم حضور الجماعة لا يجعل المسألة منصوص عليها بحيث نعمل بها آليًّا: "ألا صلوا في رحالكم"، والتي كان يمكن أن يوكل تقرير العمل بها إلى إمام من أئمة المساجد في القرى دونما حاجة إلى فتوى خاصةٍ، ولا إلى مجامع فقهية بخلاف حالة تعميم الرخصة زمانًا ومكانًا وحالًا؛ فضلًا عن نقلها بصورة أو بأخرى من حالة الرخصة إلى حالة الإلزام العام.
ولبيان ما ذكر نتعرض لعددٍ مِن الأمور على جهة الإيجاز:
أولًا: صلاة الجمعة والجماعة من شعائر الإسلام الظاهرة:
- قال الله -تعالى-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32)، والشعائر جمع شعيرة، وهي المعلم.
- كلما كثرت الشعائر في العبادة كان ذلك أدعى لبقائها، وأقوى في دعوة الناس إليها؛ لأن الشعائر هي أعلام الدين الظاهرة، وظهور الشعائر في العبادة يدعو مَن يراها إليها.
- ولما كانت المساجد بيوت الصلاة، ويجتمع المصلون فيها لأدائها؛ كان أول عمل قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته للمدينة: بناء المسجد، ورتَّب ثوابًا جزيلًا على بناء المساجد، وأُثني على روادها في القرآن وفي السُّنة: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ . رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) (النور:36-37).
- والنداء للصلاة شعيرة معلنة تدل على وقت الصلاة ومكانها؛ ولذا كان مِن سنن الأذان أن يكون المؤذن قوي الصوت، وأن يصعد مكانًا مرتفعًا، وأن يرفع صوته بالأذان قدر ما يستطيع؛ ليبلغ صوته أقصى مكان ممكن؛ إعلانًا بشعيرة الصلاة، وجوزي على اجتهاده في رفع صوته بأن يشهد له كل شيء سمعه، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (رواه مسلم)، وهذا الثواب لهم؛ لأنهم أعلنوا شعائر الله -تعالى-، وبلَّغوا بها أقصى الأماكن.
- ولما كثر المسلمون، واتسعت الأمصار؛ اتخذت المآذن للمساجد؛ ليستدل الناس بها على مواقعها، ولكي يعتليها المؤذنون وقت النداء لتبلغ أصواتهم أقصى مكان، فصارت المآذن مشاعر للمساجد تدل عليها، ويُعرف الإسلام بها
- والمشي إلى المسجد شعيرة، كما أنه سبب لأداء شعيرة الصلاة؛ فمع كونه مشيًا إلى طاعة، فلا عجب أن ترتب الأجور العظيمة على المشي إلى المساجد من تكفير الخطيئات، ومحو السيئات، ورفع الدرجات، واكتساب الحسنات؛ ففي ذلك إظهار شعائر الإسلام، وهو مِن أعظم مقاصد الشرع، ومِن أهم أسباب حفظ الدين والدعوة إليها؛ فالأمة لا يضيع دينها إلا حين تُترك شعائرها. (بتصرفٍ مِن مقال: "عمود الإسلام - شعائر الصلاة").
وأما صلاة الجمعة: فأمرها أشد؛ لكونها العيد الأسبوعي للمسلمين، وقد بالغ الشرع في شأنها، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة:9)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ) (رواه مسلم).
ثانيًا: أعذار التخلف عن صلاة الجماعة الوارد ذكرها في الشرع كانت فردية، ولم يرد في نصوص الشرع ولا في تطبيق السلف الإيقاف أو المنع أو الإغلاق للمساجد:
وهذا الأمر جلي واضح في كلام أهل العلم في ذكر كل هذا الأمور، تحت عنوان: "أعذار التخلف عن صلاة الجماعة"، ولعل هذا الأمر يتضح بجلاء بمطالعة باب: (هَلْ يُصَلِّي الإِمَامُ بِمَنْ حَضَرَ؟ وَهَلْ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ فِي المَطَرِ؟) من صحيح البخاري، ومن شروحه: كفتح الباري.
وقد أورد فيه البخاري -رحمه الله- أثرَ عبد الله بن الحارث قال: خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ ذِي رَدْغٍ، فَأَمَرَ المُؤَذِّنَ لَمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، قَالَ: قُلْ: "الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ"، فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا، فَقَالَ: كَأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا، "إِنَّ هَذَا فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي" -يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِنَّهَا عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ"، وَعَنْ حَمَّادٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحَارِثِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "كَرِهْتُ أَنْ أُؤَثِّمَكُمْ فَتَجِيئُونَ تَدُوسُونَ الطِّينَ إِلَى رُكَبِكُمْ".
قال ابن حجر -رحمه الله-: "قَوْلِهِ فِيهِ: (فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) لَمَّا أَمَرَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يَقُولَ الصَّلَاةَ فِي الرِّحَالِ؛ فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ حَضَرَ وَبَعْضَهُمْ لَمْ يَحْضُرْ، وَمَعَ ذَلِكَ خَطَبَ وَصَلَّى بِمَنْ حَضَرَ).
وقد أورد البخاري في الباب: صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسجوده في ماء وطين في رمضان؛ ليبين أن صلاة الجماعة كانت تُقام، وكان الإمام يأخذ بالعزيمة ويصلي بمن حضر، أو ربما قيدت الرخصة بمن بعدت داره عن المسجد.
نعم، بعض هذه الرخص ليست رخصة، وإنما هي منع من حضور الجماعة، مثل مَن أكل بصلًا أو كراثًا وما ألحقه العلماء بهما مِن كل مَن تلبس بشيء يؤذي المصلين، ولكن يبقى هذا المنع موجهًا للشخص الذي تلبس بهذا، وليس منعًا للجماعة؛ ولعل أبرز الأمثلة التي يكون فيها الأمر ليس مجرد رخصة، بل منع؛ هو المصاب بمرضٍ معدٍ، وهو ما نتعرض له في النقطة التالية.
ثالثا: أثر المرض المعدي في حضور الجمعة والجماعات: (نقلًا من كتاب الفقه الميسر أ. د. عَبد الله بن محمد الطيّار، أ. د. عبد الله بن محمّد المطلق، د. محمَّد بن إبراهيم الموسَى).
جاء في كتاب الفقه الميسر ما نصه:
"أثر المرض المعدي في حضور الجمعة والجماعات
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يمنع المريض بمرض مُعْدٍ من المسجد وحضور الجمعة والجماعات، وهذا هو قول جمهور الفقهاء من الشافعية، والحنابلة، وبعض المالكية (مواهب الجليل (2/ 184)، حاشية الدسوقي (1/ 389)، التاج والإكليل (2/ 556)، نهاية المحتاج (2/ 160)، مغني المحتاج (1/ 476)، أسنى المطالب (1/ 215)، مطالب أولي النهى (3/ 699).، وقد استدل أصحاب هذا القول بعدة أدلة منها:
1- حديث: (لاَ عَدْوَى وَلاَ طيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ) (رواه البخاري)، ووجه الاستدلال: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن مخالطة المريض بمرض معد للأصحاء؛ لئلا يكون قدَّر الله على المختلط به مثل دائه، وحضور المريض لأداء الصلوات جماعة مظنة لهذا الاختلاط.
2- حديث: (لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني): حيث إن المصلين يتأذون من المريض المصاب بمرض معد أشد من تأثرهم بمن يأكل البصل والثوم، وقد أمرهما النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن لا يقربا المسجد.
القول الثاني: لا يمنع المريض بمرض معد من المسجد وحضور الجمعة والجماعات: كصلاة العيد، وأداء الحج والعمرة، وهو قول عند المالكية (مواهب الجليل (2/ 184)، حاشية الدسوقي (1/ 389).
واستدلوا: بالأثر الذي رواه مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أنه مرَّ بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت، فقال لها: يا أمة الله، لا تؤذي الناس، لو جَلَسْتِ في بيتِكِ! فجَلَسَتْ، فمر بها رجل بعد ذلك قال لها: إن الذي كان نهاك قد مات فاخرجي، فقالت: "ما كنت لأطيعه حيًّا وأعصيه ميتًا".
وجه الاستدلال به: أن عمر -رضي الله عنه- لم يعزم عليها بالنهي عن الطواف ودخول البيت، وإنما خاطبها على سبيل الرفق من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
القول الثالث: تسقط عنهم صلاة الجمعة والجماعات إذا لم يجدوا موضعًا يتميزون فيه عن الناس، وأما لو وجدوا وجبت عليهم ومنعت المخالطة، وهذا أحد الأقوال عند المالكية (مواهب الجليل (2/ 184)، حاشية الدسوقي (1/ 389)، الطرق الحكمية، (ص: 279).
واستدلوا: بأنهم يُمنَعون من حضور المسجد لتضرُّر الناس بهم، فإذا وجدوا مكانًا يصلون فيه ولا يلحق ضررهم بالناس، فإن الجمعة والجماعات واجبة عليهم.
الرأي الراجح: وبعد عرض هذه الأقوال، الذي يظهر لنا -والله تعالى أعلم- رجحان قول أصحاب الرأي الأول في منع المريض بمرض معد كالأنفلونزا وغيرها من حضور المسجد والجمعة والجماعات، مظنَّة لنقل العدوى وتفشَّي الوباء بين الناس، فتحصل لهم الضرر الذي نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: (لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ).
ويمكن أن يستدل أيضًا لهذا القول بما أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه: أنه كان هناك رجلٌ مجذومٌ في وفد ثقيف الذي جاء مبايعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فأرسل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجعْ)، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يمنع هذا الرجل من دخول المسجد فحسب، بل منعه من دخول المدينة حماية لها من الوباء. (انتهى من الفقه الميسر).
ويمكننا في مثل أحوال الامراض التي عرفنا أنه لها علامات أو أعراض أولية تشير إلى احتمال الإصابة بها أن نضيف: المشتبه فيه بإصابته يلزم هو الآخر بعدم ارتياد المساجد، ولا يعد هذا توسعًا كبيرًا؛ لأن الأمر سيظل في نطاق الفتوى الفردية مع بقاء الشعيرة ظاهرة، ومِن ثَمَّ يؤجر هذا الذي أفتي بترك الجماعة بنيته، ويبقى للمجتمع شعائره ومعلم دينه ظاهرًا.
رابعًا: ضوابط لبحث نازلة الفتوى بمنع الجمعة والجماعة:
الأول: ينبغي ألا نخلط بين الرخصة الفردية وبين المنع العام، وأن نعامل المنع العام بأنه طلب تطلبه بعض الجهات الطبية، وهو من الناحية الشرعية نازلة كبرى تحتاج إلى بحثٍ وتؤدة؛ لما فيه مِن إيقاف أبرز شعائر الإسلام، ولأجل غير معلوم.
الثاني: ألا يُفتَى بالمنع في حالات ورد الشرع فيها بمجرد الرخصة للمحتاج؛ لأنه سيكون إعمال للرأي في مواجهة النص.
الثالث: أنه لا مجال لبحث مسألة المنع أصلًا؛ إلا في الحالات التي يزداد ضررها عن الحالات التي اكتفى الشرع فيها بالرخصة الخاصة لمن يحتاج.
الرابع: أن هذا الضرر الزائد يجب أن يوازن بينه وبين المصالح التي تفوت على الناس فيما سيُفتى بالمنع منه؛ وهذا لقاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح في حالة إذا استويا في الدرجة"، ولا يعقل مثلًا أن تدرأ المفسدة اليسيرة المظنونة بترك المصلحة الكبيرة القطعية.
الخامس: التدرج في المنع على درجاتٍ بحسب درجة انتشار المرض وضرره المتوقع:
الأولى: منع المريض بمرضٍ معدٍ من حضور الجمع والجماعات.
الثاني: يحتمل أن يضاف إليه: المريض الذي ظهرت عليه أعراض مرض مشابه أو علامات مبدئية حتى لا يدخل الشك لدى المصلين.
الثالث: كالثاني، مع زيادة ندب المصلين من غير هذين الصنفين باتخاذ تدابير احترازية: كالإكثار من غسل الأيدي وكلزوم استعمال الصابون في غسلها، وتنظيف فرش المسجد وحسن تهويته أو اتخاذ كل مصلٍّ لمصليته الخاصة بحسب المرض المنتشر أو لو وصل الأمر إلى إلزام المصلين بلبس الكمامة (هذه النصائح قد تختلف من مرض إلى آخر، وهذه المذكورة هنا مناسبة للكورونا على وجه الخصوص؛ لأنه المنتشر الآن).
الرابع: كالذي قبله مع جعل هذه الأمور إلزامية.
الخامس: تقييد كثافة المصلين بعدد ما، لكل متر مربع، وفتح جميع الزوايا والمصليات لتخف كثافة المصلين.
السادس: منع النساء والأطفال ممن لا تجب عليهم الجمعة من حضورها، واستعمال المساحة المخصصة لهم للرجال لتقليل الكثافة.
وفى كل الأحوال يجب أن يُراعى أنه طالما بقيت اجتماعات ما مأذون بها بكثافة معينة، فيمكن بقاء أداء صلاة الجمعة والجماعة مع اتخاذ تدابير تضمن نفس الكثافة في المساجد.
خامسًا: نصيحة عملية للمصلين في كل مكان:
درجة الخطر والتدابير الاحترازية يقدرها الأطباء وبينهم درجات متفاوتة من الاختلاف، ثم يرفع الأمر إلى الجهات المسئولة عن الفتوى فتقرر ما تراه باجتهادها، وأيًّا ما يكن من مناقشة فهي مناقشة علمية ومحاولة للمساهمة في البحث بأي صورةٍ من الصور، ولكنك في النهاية إما أنك تعيش في بلدٍ اُتخذت فيه إجراءات غلق المساجد، وإما أن تكون البلد لم تتخذ هذا الإجراء بعد.
وهذه نصيحتنا في كل حالة من هذه الحالات:
أ- البلاد التي ما زالت تقيم الجمعة والجمعة:
لا شك أن من أعظم نعم الله على أي مجتمع أن تبقى المساجد مفتوحة، وصلاة الجماعة والجمعة مقامة، ومن هذه البلاد التي أنعم الله عليها بهذا: "بلادنا مصر"؛ قلب الأمة الإسلامية النابض، وهذه نعمة لا بد لها من شكر خاص.
ويجب مع هذا:
1- نشر فتوى منع المرضى والمشتبه بهم من إتيان الجماعة، وبيان أن هذا الامتناع في حقهم واجب.
2- حرص رواد المسجد على النظافة الشخصية إلى أقصى حدٍّ، والحرص على عدم تناثر أي رذاذ منه بألا يكح ولا يعطس إلا في منديل أو في كمه.
3- تعاون رواد المسجد على تنظيفه ورشه بالمطهرات.
4- تنظيم الكثافة بين مساجد الحي الواحد حتى لا يحدث زحام في أي منها.
5- الإلحاح في الدعاء والضرع: ألا يحرمنا الله -تعالى- من نعمة الجمعة والجماعة.
6- الدعاء الخاص لكل مَن ساهم في قرار بقاء المساجد مفتوحة، وكل من يقوم على رعايتها بتنظيفها أو إقامة الشعائر فيها من الأئمة والوعاظ، وعمال النظافة، وإخوانهم من المتطوعين الذين يشاركونهم الأعباء الزائدة عليهم.
ب: البلاد التي اتخذ فيها قرار المنع:
عندما نرى بكاء إخواننا المؤذنين والأئمة في كثيرٍ مِن البلاد، وهم يبدأون إجراءات منع الجمعة والجماعة لا نملك إلا أن نعزيهم في مصابهم، وأن ندعو الله أن يرزقهم أجر تلك الأعمال التي حرموا منها، ونسألهم أن يلحوا في الدعاء أن يفرِّج الله عنهم بلاء منع الجمعة والجماعة، وأن يدعوا لإخوانهم في البلاد الأخرى أن يستعملهم الله في بقاء تلك الشعائر ظاهرة، ولو في بعض بقاع الأمة الإسلامية.
على أننا نعلم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا) (متفق عليه)، فيبقى إظهار هذه الشعيرة في هذه البلاد ممكنًا؛ لأنه لا بد من السماح بتجمعات بهيئة ما، وليكن عمال سوبر ماركت مثلًا، فهؤلاء يغلقون السوبر ماركت وقت الصلاة ويصلون في جماعة، ولا بد من أنه ستكون هناك مصانع حيوية تعمل فيصلي هؤلاء أيضا في جماعة.
وبالجملة: فكل تجمع مأذون في وجوده لحاجة المجتمع إليه لأداء خدمة ما، يجب أن يكون من جملة ما يؤدونه من خدمات أن ينوبوا عن الأمة في صلاة الجمعة والجماعة، ولو لم يبقَ إلا أن تقام على مستوى الأسرة فلتقام على هذا المستوى إلى أن تنجلي الغمة.
نسأل الله أن يصرف عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء، والربا، ونسأله -عز وجل- أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويُهدَى فيه أهل معصيته، ويحكم فيه بكتابه، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.