الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 21 نوفمبر 2024 - 19 جمادى الأولى 1446هـ

مقالات في علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (16) تابع الكلام حول أركان القراءة وعلاقتها بعلم القراءات

كتبه/ ياسر محمد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

ففي هذا المقال سيدور الحديث حول ركن القراءة الثالث؛ ألا وهو: صحة السند، وإن كنا قد قدمنا له بمقدمة في المقال السابق فلعلنا نختتم الكلام عنه بإذن الله تعالى.

ذكرنا في المقال السابق أن ترتيب السور هو الموجود على ما هو عليه الآن، ولكن يعكر على هذا القول ما صح من رواية مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه حيث قال: "صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح سورة النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران" ثم ساق الحديث.

قال القاضي عياض: "فيه دليل لمن يقول: إن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين، وهذا قول مالك وجمهور العلماء، واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني".

قال الباقلاني: "وهو أصح القولين مع احتمالهما، قال: والذي نقوله إن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة ولا في الصلاة ولا في الدرس والتلقين، قال: وأما عند من يقول: إن ذلك بتوقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيتأول ذلك على أنه قبل التوقيف، وفي مصحف أبي، كانت النساء ثم آل عمران، ولا خلاف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل المقروءة في الأولى، وإنما كره في نفس الركعة، وفي التلاوة في خارج الصلاة، قال: وقد أباحه بعضهم، وتأول نهي السلف عن قراءة القرآن منكوسا على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها، قال: ولا خلاف في ترتيب الآيات أنه توقيفي من الله" (انتهى من كلام القاضي بتصرف يسير).

قلتُ: وبعد كتابة عدة مصاحف في عهد عثمان -رضي الله عنه- مشتملة على بعض الأحرف السبعة الموافقة للهجات العرب، وإرسالها إلى الأمصار والبلدان، وقرأ كل مصر بما في مصحفهم، وتلقوا ما فيه عن الصحابة، حتى صار منهم الأئمة والمرجع في القراءة والإقراء، حتى نسبت إليهم هذه القراءات، وقد تلقى على أيديهم من بعدهم، وانتشروا في البلاد، وتبعتهم أمم، فكان منهم المتقن رواية ودراية، ومنهم المحصل لوصف واحد، ومنهم المحصل لأكثر من واحد، فكثر عندئذٍ الخلاف، فقام عند ذلك مَن بالغ في الاجتهاد، وميَّز بين الصحيح والباطل، وجمع الحروف والقراءات، وعزا الوجوه والروايات، وبين الصحيح والشاذ، بأصول مؤصلة، وأركان مفصلة.

وقد أشار إلى تلك الأصول والأركان قول الإمام ابن الجزري -رحمه الله-:

فـكـل مـا وافــق وجــه نـحـو                  وكان للرسم احتمالًا يحوي

وصــح إسـنـادًا هـو القــرآن                  فـهـذه الـثـــلاثـة الأركـــان

فلا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويجب على الناس قبولها سواء ثبتت عن السبعة أو العشرة أو غيرهم ممن تقبل روايتهم، ومتى اختل ركن منها فهي إما شاذة أو باطلة أو ضعيفة. ذكره أبو عمرو الداني والإمام أبو محمد مكي وأبو العباس المهدوي وأبو شامة وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه.

قال أبو شامة: "فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى لأحد من السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة إلا إن دخلت في الضابط؛ ألا وهو: أركان القراءة التي تقدمت، فلا يقول في النقل عن السبعة أو العشرة، بل العبرة بتوفر الأركان في القراءة، فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم، منها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو شاذ" (انتهى بتصرف).

قلتُ: وقد قال ابن الجزري في منظومته طيبة النشر:

فكن على نهج سبيل السلف         فـي مـجـمع عليه أو مختلف

وفي ختام الكلام عن ركن القراءة الثالث (صحة السند)، نجد من قال: إن القرآن يكتفى في ثبوته مع الشرطين الأولين، وهما: موافقة وجه من وجوه النحو، وموافقة الرسم صحة السند فقط، ولا يفتقر إلى التواتر، وهذا القول حادث مخالف لإجماع الفقهاء والمحدثين وغيرهم.

وبسبب هذا القول ضل قوم فقرؤوا أحرفًا لا يصح سندها؛ بزعم أن التواتر ليس بشرط، وهذه المسألة قد لخص القول فيها الإمام أبو القاسم النويري في شرح الطيبة مذاهب القراء والفقهاء المشهورين وما ذكره الأصوليون والمفسرون وغيرهم فقال: "إن القرآن عند الجمهور من أئمة المذاهب الأربعة وصدر الشريعة، هو ما نقل بين دفتي المصحف نقلًا متواترًا، وكل من قال بهذا اشترط التواتر، هذا عند أئمة المذاهب الأربعة، وصرح به جماعات لا يحصون كابن عبد البر، وابن عطية، وابن تيمية، والنووي، والسبكي، والأذرعي، والزركشي، وابن الحاجب، وابن عرفة، وغيرهم. وقد أجمع القراء على ذلك، ولم يخالف إلا أبو محمد مكي، وتبعه بعض المتأخرين كابن الجزري"، وقال النويري: "والذي لم يزل عليه الأئمة الكبار القدوة في جميع الأمصار من الفقهاء والمحدثين وأئمة العربية توقير القرآن، واتباع القراءات المشهورة، ولزوم الطرق المعروفة في الصلاة وغيرها، واجتناب الشاذ، لخروجها عن إجماع المسلمين، وعن وجه التواتر الذي ثبت به القرآن، والنقول في ذلك كثيرة، ولكن أشرنا إلى طرف منها".

قلت: الخلاصة أنه لا بد في ثبوت القرآن من صحة السند، وبقية الأركان، ومنها التواتر.

والحمد لله رب العالمين.