كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (تَهَادَوْا تَحَابُّوا) (أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني).
مجمل الوصية:
يوصي النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين بالتهادي بينهم؛ لأن التبادل بالهدايا بين الناس يورث المحبة والمودة بينهم، فالهدية لها أثر كبير في استجلاب المحبة وتأليف القلوب، والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يقبل الهدية ويثيب عليها، مما يدل على أهمية هذا الفعل في تقوية الروابط الاجتماعية.
معنى الهدية:
هي عبارة عما يعطيه الإنسان لغيره بقصد إظهار المودة، وحصول الألفة والثواب، وليست هي في مقابل ثمن، أو سلعة، أو نحو ذلك، بل هي ما يقدم بلا عوض بقصد إظهار المودة وحصول الألفة؛ ومن ثمّ كانت الهدية مفتاحًا للقلوب.
مشروعية التهادي:
- هي وصية من وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومحل ترغيبه: (وصية اليوم)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةً: وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا، أَوْ سَقَى لَبَنًا، أَوْ هَدَى زُقَاقًا، فَهُوَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ) (رواه أحمد بسند صحيح).
- كان -صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية من كلِّ مَن أهدى إليه، مهما كانت يسيرةً(1): قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَجِيبُوا الدَّاعِيَ وَلَا تَرُدُّوا الهَدِيَّةَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ، لَقَبِلْتُ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ) (متفق عليه).
- وكان -صلى الله عليه وسلم- يكافئ من أعطاه بهدية مثلها أو خيرًا منها؛ من باب رد الحسنى بأحسن منها أو مثلها، ولئلا يكون لأحد عليه مِنَّة: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا" (رواه البخاري).
- وكان -صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية من المسلم والكافر بضوابطها(2): قد وردت أدلة على ذلك؛ منها: قبوله -صلى الله عليه وسلم- الهدية من كسرى، وقيصر، والمقوقس، وغيرهم.
من فوائد التهادي:
- الهدية تعبّر عن المودة والتقدير والاحترام: قال الله -تعالى-: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ) (النمل: 35).
- الهدية تزيد من قوة الترابط والمحبة بين الناس: (الوالدين - الأزواج - الأشقاء - الأصدقاء - أصحاب الفضل) ويظل أثرها كبيرًا بين المتهادين؛ لا سيما في المناسبات التي يصعب نسيانها (كالشدائد، والمرض، والأعياد، والزواج، والنجاح، إلخ)، قال -صلى الله عليه وسلم-: (تَهَادَوْا تَحَابُّوا).
- الهدية تذهب الضغائن وتجعل القلوب تتآلف: روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "تَهَادَوْا، فَإِنَّ الهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ" (رواه الترمذي، وضعفه الألباني). وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطي للمؤلفة قلوبهم من الزكاة ليزداد حبهم للإسلام. قال صفوان بن أمية -رضي الله عنه-: "وَاللهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ" (رواه مسلم). وقال الهيثم بن عدي: "كان يقال: ما ارتضي الغضبان، ولا استعطف السلطان، ولا سلبت الشحناء، ولا دفعت البغضاء، ولا توقي المحذور، ولا استعمل المهجور بمثل الهدية والبر!"، وقال آخر: "تهادوا، فإن الهدية تثبّت المروءة، وتستل السخيمة".
من آداب وأحكام التهادي:
1- ألا تكون من الهدايا المحرمة (كآلات الطرب، والألبسة المحرمة، وغيرها): فعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: رأى عمر بن الخطاب حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريتها فلبستها يوم الجمعة وللوفد، قال: (إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ) (رواه البخاري).
2- أن تتناسب الهدية مع الشخص المُهدى إليه؛ فهدية الصغير تختلف عن هدية الكبير، وهدية الفاضل تختلف عن هدية المفضول: عن ميمون بن أبي شبيب أن عائشة -رضي الله عنها- مر بها سائل فأعطته كسرة، ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة فأقعدته فأكل، فقيل لها في ذلك، فقالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ" (رواه أبو داود، وقد اختلف في تصحيحه وتضعيفه؛ إلا أن معناه صحيح).
وذكر الإمام ابن حجر -رحمه الله- في الإصابة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل مكة فاتحًا، ودخل المسجد الحرام، أتى أبو بكر -رضي الله عنه- بأبيه أبي قحافة يقوده، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى آتِيَهُ؟".
3- ألا يكون معها مَنٌّ أو أذى؛ فإن هذا من اللؤم وقلة المروءة: قال -تعالى-: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) (البقرة:263-264). (أهدى رجل إلى الأعمش بطيخة، فلما أصبح قال: يا أبا محمد، كيف كانت البطيخة؟ قال: طيبة! ثم أعاد عليه ثانيًا: كيف كانت البطيخة؟ قال: طيبة! فأعادها ثالثًا، فقال: إن خففت من قولك وإلا قئتها!) (محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء)(3).
4- ألا يقصد بها التوصل إلى معنى فاسد (كإذلال المُهدى إليه والارتفاع عليه - أو أخذ حق للغير، كهدايا الموظفين والقضاة والرؤساء): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) (رواه البخاري ومسلم).
وعن أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه- قال: استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا على صدقات بني سليم يدعى: ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم، وهذا هدية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا)، ثم خطبنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى العَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللهُ فَيَأْتِي فَيَقُولُ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي! أَفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ؟ وَاللهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ) (متفق عليه).
5- إبداء السرور بها، وشكر المُهدي، والدعاء له: قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ أَهْدَى لَكُمْ فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ فَادْعُوا لَهُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
6- ألا يرجع الإنسان في هديته: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ) (رواه البخاري). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ الْعَطِيَّةَ فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
خاتمة:
وصية عظيمة في كلمات يسيرة، تحمل الفوائد الاجتماعية والإيمانية الجميلة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تَهَادَوْا تَحَابُّوا).
فاللهم انفعنا بوصايا نبي العالمين، واجمعنا به في الجنة مع المتحابين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (كفاية أنك تذكرتني): هذه العبارة القصيرة التي تحمل في داخلها معاني الحب والألفة الكبيرة، وانظر ماذا فعلت الهدية اليسيرة في القلوب؟ فكم فعلت قارورة ماء صغيرة من ماء زمزم في القلوب؟ وكم فعلت زجاجة عطر صغيرة في القلوب؟ وكم... وكم...
(2) يجوز قبول هدية الكفار في أعيادهم بشروط:
1- ألا تكون هذه الهدية من ذبيحة ذبحت لأجل عيدهم.
2- ألا تكون مما يستعان به على التشبه بهم في يوم عيدهم: كالشمع، والبَيض، والجريد، ونحو ذلك.
3- أن يكون قبول الهدية بقصد التأليف للإسلام، لا عن محبة أو مودة.
(3) حصل بين شاب وأمه نقاش، فرفع صوته عليها، وأراد أن يهدي لها هدية لتصفح عنه، ويذهب ما في صدرها عليه، وفعلًا أتى بهديته، لكنه أتى بها ولم يسلّمها بيده، ولم يكن مبتسمًا، فوضعها أمامها، وقال بصوت أجش: "هذه هدية!"، فلم تتقبلها بقبول حسن، بل وقالت: "أنا لا أريد هديتك".