الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 11 فبراير 2025 - 12 شعبان 1446هـ

مقالات في علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (17) القراءات الشاذة ومدى حجيتها في الأحكام الفقهية

كتبه/ ياسر محمد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد اشتهر مصطلح الشذوذ في مجالات متعددة من أقسام العلوم: كاللغة والنحو، والفقه، والذي يعنينا في هذا المقال هو معنى الشذوذ عند القراء.

روى الإمام مسلم -رحمه الله- في كتاب الإيمان من حديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنهما-، وفي الحديث: "وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ"، فكلمة (شاذة) أي: ما انفرد به عن الجماعة، وورد أيضًا في بعض طرق هذا الحديث: "لَا يَدَعُ لَهُمْ فَاذَّةً" بالفاء، ثم هما -أي الكلمتين-: شاذة وفاذة، صفة لمحذوف بمعنى نسمة، والهاء فيهما للمبالغة. وقيل: المراد بالشاذ والفاذ: ما كبر وصغر. وقيل الشاذ: الخارج، والفاذ: المنفرد. (ينظر: فتح الباري)

من خلال هذا الحديث يتبيَّن لنا معنى الشذوذ، وكذلك إذا بحثنا عن معناه عند القراء، فنرى أن من القراء كنافع المدني -كما جاء في معرفة القراء الكبار-، قال الذهبي في ترجمته: "قال المسيبي: قال نافع: قرأت على هؤلاء فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد تركته، حتى ألفت هذه القراءات". والمعنى: أن نافعًا كان يرغب عما انفرد به أحد شيوخه عن الباقي ممن قرأ عليهم نافع.

وقد ألَّف في القراءات أيضًا الإمام محمد بن جرير الطبري -رحمه الله-؛ فله مؤلفات في المشهور من القراءات والشاذ، حيث ألف كتابًا كبيرًا في ثماني عشرة مجلد ذكر فيه جميع القراءات المشهور منها والشاذ، وفي هذا الكتاب كان يختار من القراءات، وقد قال عن ذلك الإمام أبو عمرو الداني:

والطبري صاحب التفسير

له اختيار ليس بالشهير 

وهـــو في جامعه مذكور 

وعند كل صحبه مشهور

وقد تميَّز وتفرد الطبري بمعرفة واسعة في التفسير والآثار وأسفاره تشهد بذلك، وكان عالمًا بلسان العرب، فضلًا عن أنه كان أستاذًا لابن مجاهد، وابن مجاهد أول من ألف في القراءات السبع.

ومصطلح الشذوذ عند ابن جرير يعني مخالفة الإجماع، وهو عنده على ضربين:

- الأول: ما انفرد به أحد القراء عن باقي القراء، ونذكر مثالًا لذلك النوع: وهو في قوله -تعالى-: (قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ) (الأنبياء: 112).

حيث قرأ حفص عن عاصم بلفظ: (قَالَ) على صيغة الماضي ومعنى الدعاء، وقرأ بكسر الباء من (رَبِّ)، وقرأ الباقون بصيغة الأمر: "قُلْ رَبِّ"، وهو أمر بصيغة الطلب، وقرأ أبو جعفر وحده - وهو يزيد أبو القعقاع وهو شيخ نافع المدني، وهو من القراء العشرة - بضم الباء من لفظ (رَبُّ)، ووافقه ابن محيصين.

وعلى مذهب ابن جرير وطريقته فقراءة أبي جعفر عنده شاذة؛ لأن الشذوذ عنده معناه مخالفة الإجماع، والصواب أنها قراءة صحيحة، توافرت فيها أركان القراءة.

مثال آخر: قول الله -تعالى-: (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) (النساء: 34).

فقد قرأ أبو جعفر القارئ بنصب لفظ الجلالة "بِمَا حَفِظَ اللَّهَ"، والباقون بالرفع، وقد حكم على هذه القراءة الإمام محمد بن جرير الطبري بالشذوذ على طريقته، والصواب من القول أن ما قرأ به أبو جعفر -رحمه الله- وجه صحيح، ويتوجه هذا الوجه من القراءة إلى أن الصالحات يحفظن الله بطاعته وأداء حقه بما أمرن به شرعًا من حفظ غيبة الأزواج، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما-: (احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وكقول الرجل للرجل: "مَا حَفِظْتَ اللهَ فِي كَذَا وَكَذَا"، بمعنى: ما راقبته وما خفته، فهي قراءة صحيحة متواترة وليست شاذة، فلا وجه لردها.

وقد ذكر الإمام الرازي في هذه الآية فائدتين؛ فقال: "ما بمعنى (الذي)، أي: بما حفظه الله لهن، والمعنى أن: عليهن أي يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى في سورة البقرة: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 228)، حيث أمرهم بالعدل وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن، فقوله -تعالى-: (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) يجري مجرى ما يقال: هذا بذاك، أي هذا في مقابلة ذاك.

الفائدة الثانية: أن ما مصدرية والتقدير: بحفظ الله، وعلى هذا وجهان، الأول: أنهن حافظات للغيب بما حفظ الله إياهن، أي بتوفيق الله، وقد جاء القرآن بذلك: قال -تعالى- على لسان نبيه شعيب: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) (هود: 88)، وقوله -تعالى-: (لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) (الأعراف: 43)، وكذلك ما كان يرتجزه النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الخندق والصحابة من قولهم: "واللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهتدينا، ولا تَصَدَّقْنَا، وَلَا صَلَّيْنَا". 

والوجه الثاني: أن حفظ المرأة للغيب أي بسبب حفظها حدود الله وأوامره، وفي الحديث: (إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

والخلاصة: أن معيار القراءة عند الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله- ليس توافر الأركان، بل المعيار عنده مخالفة الإجماع، كما سبق في الموضوعين الذين سلفا، ولا شك أن هذا الاعتبار مردود، ولا يحكم به على قراءة بكونها شاذة. والله أعلى وأعلم.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.