كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد أكَّدْنا في المقالِ السَّابقِ على أنّ منهجَ محمود شاكر في قراءةِ الشِّعرِ كان قائمًا على التَّذَوُّقِ، وأنّه معنًى ضِمْنِيٌّ يرجع إلى نَفْسِ القارئِ وذاتِه، وليس مسألةً شكليّةً.
ولكن على القارئِ أن ينتبه إلى أنّ النّاحيةَ الشَّكليّةَ لِلشِّعرِ العربيِّ مسألةٌ في غايةِ الأهمِّيَّةِ، ولن يستطيعَ قارئُ هذا الشِّعرِ بُلوغَ غايتِه؛ التي هي تَذَوُّقُهُ واستخراجُ كمائنِه المُضمَرةِ ودفائنِه الغَامِضَةِ، دون أن يكونَ على درايةٍ تامَّةٍ بهذه النّاحيةِ الشَّكليّة.
قال د. سعد الصلوح في "البلاغة العربيّة والأسلوبيّات الإنسانيّة آفاق جديدة" (ص: ???): (وربما كان النَّصُّ الشِّعْرِيُّ عامَّةً، والعَرَبِيُّ خاصَّةً، والعَرَبِيُّ العَمُودِيُّ على نحوٍ أَخَصّ، أسعدَ حظًّا مِن حيث اشتمالُه -بَادِيَ النَّظَرِ- على علاماتٍ شكليّةٍ، تُوفِّرُ له إطارًا مَحسُوسًا، وتَتَحقَّقُ لِلنَّصِّ بهما سِمَةُ الاستمراريّةِ الظّاهرةِ لِلْعَيانِ؛ ونَعنِي بهما قيامَه على نَوْعٍ مِن الإيقاعِ والتَّقْفِيَةِ بدرجاتٍ مُتفاوتةٍ مِن الحُرِّيَّةِ، بيد أنّ هذه العلاماتِ الشَّكليّةَ ليست في ذاتِها ضمانًا كافيًا لِتَحَقُّقِ الاستمراريّةِ لِلنَّصّ) (انتهى).
وتَأمَّلْ هذا الضَّابِطَ الدَّقِيقَ مِن د. سعد؛ فقد ذكر أنّ هذا الإطارَ الشَّكْلِيَّ يُحَقِّقُ لِلنَّصِّ الاستمراريّةَ الظَّاهِرةَ فقط، أمّا استمراريّةُ المَضمُونِ والمَعنَى فتحتاجُ إلى تَذَوُّقٍ خاصٍّ، وهذا الإطارُ الشَّكْلِيُّ لِلنَّصِّ هو أحدُ المَعاييرِ الرَّئِيسَةِ في خاصيّةِ التَّمَاسُكِ النَّصِّيّ.
وظاهِرةُ التَّمَاسُكِ النَّصِّيِّ هذه ليست بِدْعًا مِن القَوْلِ مِن النّاحيةِ التَّطْبِيقِيَّةِ؛ فإنّك لو تَتَبَّعْتَ كلامَ المُتقدِّمينَ لَوجَدتَ الوَعْيَ الكاملَ لديهم بهذه الظَّاهِرةِ، حتَّى لو لَم يَضعُوا قواعدَها النَّظَرِيَّة.
فقد قال عبد القاهر الجرجاني -ت: ??? هـ = ???? م- في "دلائل الإعجاز" (ص: ?? - ??)، تحقيق وتعليق الأستاذ محمود شاكر: (وهل تَجِدُ أحدًا يقول: هذه اللَّفْظَةُ فَصِيحَةٌ، إلا وهو يَعتبِرُ مكانَها مِن النَّظْمِ، وحُسْنَ مُلائَمةِ معناها لِمَعنَى جاراتِها، وفَضْلَ مُؤانَستِها لِأخَواتِها. وهل قالوا: لَفْظَةٌ مُتَمَكّنَةٌ ومَقبُولَةٌ، وفي خلافِه: قَلِقَةٌ ونَابِيَةٌ ومُستَكرَهةٌ، إلا وغَرضُهم أن يُعبِّرُوا بِالتَّمَكُّنِ عن حُسْنِ الاتِّفَاقِ بين هذه وتلك مِن جهةِ معناهُما، وبالقلقِ والنُّبُوِّ عن سُوءِ التَّلاؤُمِ، وأنّ الأُولَى لَم تَلِقْ بالثّانيةِ في مَعنَاها، وأنّ السّابقةَ لَم تَصْلُحْ أن تَكُونَ لفقًا لِلتّالِيَةِ في مُؤَدَّاها) (انتهى).
فعبد القاهر الجرجاني ينتقل بنا مِن تركيبِ اللَّفْظَةِ الواحدةِ والجُملةِ الواحدةِ إلى نظامِ النَّصِّ الكاملِ، والذي تَكَوَّنَ مِن صياغةِ جُمَلٍ تَفاعَلَتْ مع بعضِها فأعطَتْ نَصًّا أقوى في تَماسُكِه، وأشملَ في معناه، وأبهى في صُورتِه مِن رَسْمِ الجُملةِ الواحدة.
ولا يَخفَى على واعٍ شِدَّةُ تَأَثُّرِ محمود شاكر بمنهجِ عبد القاهر الجرجاني في التَّذَوُّقِ، ومِن هنا تَعرِفُ كيف تَحَوَّلَ التَّذَوُّقُ دَمًا في عُرُوقِه، وعَصَبًا في رَأْسِه.
ونُكْمِلُ في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-.
واللهُ المُستَعان.