كتبه/ عبد العزيز عطية النجار
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء: 59).
والمراد بأولي الأمر: العلماءُ الربانيُّون، والحُكَّامُ الذين يَحكمون بشريعة الله، وأغلَبُ قضايا الخِلاف كانت في قضية الحاكميَّة ووُلاة الأمور والخروج عليهم، ويُلاحظ أن كلام أهل العِلم دائمًا ما يكون في الحِفاظ على اجْتماع الأمة، حتى ولو كان هذا الاجتماع على كَدَر ودَخَن، وتقدير المَصالِح والمَفاسِد، ولكن هذه الآراء لم تُرْضِ أصحاب التيارات الصِدامية؛ لأنهم يرَون في أنفُسِهِم أنَّهُم الشِّقُّ الحَرَكي، ووصفوا عُلماءَ الأمة بالجُمود، بل وناصبوهم العَداء، وحَطُّوا من شأنهم بأنهم غيرُ مؤهَّلين إلا للإفتاء في مسائل الحيض والنِّفاس وفقط؛ قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 65).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ اللهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
والمعنى الأصوب للحديث: أن الله -تعالى- عَصَمَ عُلماءَ أمةِ محمد -صلى الله عليه وسلم- من الاجتماع على أمرٍ باطل، وبذلك فإن الرجوعَ لأهل العِلم الثِّقات أمرٌ تَعَبُّديٌّ بَحت.
بل والأدهى: أن أصحاب التيارات الصِدامية يَغترُّون بالسَّواد الذي يَحشدونه، ويَصفون من يُخالِفُهُم بأنَّهُ شَقٌّ لِصَفِّ الأمة، وينادون بتوحيد كلمة المؤمنين على مَرجعيَّتِهِم وقناعاتهم.
والأصل: أن كَلِمةَ التوحيد أولًا، ثم يأتي بعد ذلك توحيد الكلمة؛ لأن العمل بمقتضى كلمة التوحيد هو الضامِنُ الأول لتوحيد الكلمة.
والجَلِيُّ لِكُلِّ ذي لُبٍّ: أن توحيد الكلمة لن يتمَّ، ولا يُمكِن أن يَتِمَّ، إلا على كَلِمةٍ راسخةٍ تكون كَلِمةً سواء، وأرضيةً مشتركة، ومَظَلَّةً يجتمع تحتها جميعُ سوادِ الأمة.
بل الأكثر من ذلك: فإن تحقيق الاكتفاء إذا قُمنا بتركيب اللفظتين: اتباع التوحيد، وتوحيد الاتباع، وتم إرجاع الكلام في النوازل للمشهود لهُم بالعِلم، وكُفينا بهم، لأُغلِقَت أبوابٌ كثيرة من أبواب الشِّقاق، وتوفرت الجهود، وتضافَرَت للدعوة الأصلية، وهي دعوة غيرِ المُسلمين للإسلام، فالانشغال عن دعوة غيرِ المُسلمين للإسلام أمرٌ جَدُّ خطير، بل فيه التكليف والمساءلة من الله -تعالى-؛ قال تعالى: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (الأعراف: 6).
ولا شك أن الانشغالُ بالدعوةِ الداخليةِ الفَرعيةِ يَمتَصُّ جهودَ الأمة ويُرهِقُها إلى الوقت الذي تَخور فيه قواها، بل ويتسَلَّطُ عليها من خارجها؛ لذا كان لا بد من التَجرُّد والرجوع إلى الحق، وأن يكون المُسلِمُ ذليلًا على إخوانه من أهل الإسلام؛ قال الله -تعالى- في وَصف النموذج الربانيِّ المِثاليِّ الذي يَرتضيه ويرضاه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَ?لِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: 54).
وفي شرف الصُّحبة وشَرَفِ المعيَّة، قال -تعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا) (الفتح: 29).
وأعظَمُ معاني الرحمة: هي قبولُ المُسلِمِ لِلمُسلِم، وحُسنُ الظن به، وتَركُ الأمور الكُبرى والمصيريَّة لأهل العِلم وأهل الدراية؛ قال -تعالى- على لسان موسى -عليه السلام-: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (القصص: 34).
لذلك فإن الاعترافَ بمَناقِبِ الأكْفاء هو منهجٌ ربانيٌّ سبقنا إليه أنبياءُ الله -عليهم السلام-.