كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما أُحِبُّ أن تكونَ مقالاتي في هذا الشّأنِ بمثابةِ الضَّربِ في حديدٍ باردٍ، فتمر همساتي وصرخاتي على سمعِ كثيرٍ مِن القُرّاءِ مُرورَ الكِرَام، وتجد أحسنَهم حالًا هو مَن يكتفي بأن يُمصمِصَ شفتَيه تأسُّفًا على حالِ أُمَّةٍ لا تَعرفُ قدرَ لُغتِها، ولا تُبالِي بأمرِها! مع أنّ تَقدُّمَ الأُممِ وتَخلُّفَها، ونهضتَها وانحدارَها، يُقاسُ بمستوى ثقافتِها، الذي يُقاسُ بمستوى لُغتِها بين أبنائِها، ومدى تأثيرِها في ثقافاتِ الأُممِ الأخرى.
فاللُّغةُ ظاهرةٌ صوتيَّةٌ لا تَحيا إلا بالاستعمال، ولا تُؤخَذُ إلا سَماعًا، فلا نستطيعُ أن نتعلَّمَها مِن الرُّمُوزِ الكتابيَّةِ من غير أن ننطقَها ونُفعِّلَ أثرَها في مجالات الحياة.
وهذا ما فعله الكيانُ اللَّقِيطُ، الذي تمكَّن من إحياء لُغتِه العِبريَّة؛ التي كان لا يستعملها إلا الحاخاماتُ في معابدِهم، والمُتخصِّصون في معاهدِهم، وقد خالفوا في ذلك معطيات علوم اللِّسانيّات، التي يؤمن أصحابُها بأنّ اللُّغاتِ الأُمَّ كاللاتينية والسّامية لا يمكن إعادتها إلى الحياة.
فأعَدُّوا لِلُغتِهم ما استطاعوا مِن سُبُلِ الحياة، وحرَّمُوا التَّدريسَ بغير العِبريَّةِ في جامعاتِهم ومعاهدِهم العِلْميَّة، مع إقامة المراكز البحثية، وتوفير الدَّعم اللازم للباحثين والدّارسين، بما يضمن لهم صياغة القواميس والمعاجم اللُّغويَّة، التي تُحقِّقُ لهم تَمايُزَ هُوِيَّتِهم اللِّسانيَّة، وتُؤرِّخُ لهم وُجُودَهم في التّاريخ القديم.
وأيضًا لا يخفى على أحدٍ كم مارست الدول الاستعمارية مِن ضُغُوطٍ على الدول العربية: لِمنعِ تعريبِ العُلُوم، ولِنشرِ اللُّغاتِ الأجنبيَّةِ وتدريسِها في المدارس، ولِإنشاءِ مدارسَ أجنبيَّةٍ خالصةٍ تُدرَّسُ فيها جميعُ العُلُومِ باللُّغاتِ الأجنبيَّة.
وذلك لِتحقيقِ هدفَين:
الأوَّل: الإبقاء على لُغاتِها وثقافاتِها حيَّةً في بلادِنا العربيَّة.
والثّاني: أن تظل الدول العربية ضعيفةً مُشَتَّتَةً، وسُوقًا لِمُنتجاتِها، ومَورِدًا لِمَوادِّها الأوَّليَّة.
قال الوزير الأوَّل التُّونسي الأسبق محمد مزالي (1925م - 2010م)، الذي عُزِلَ مِن مَنصبِه بسبب إقدامِه على تعريبِ التَّعليمِ الابتدائيِّ والإعداديّ، وقد عاتبه الرَّئيسُ التُّونسي الرّاحل الحبيب بورقيبة (1903م - 2000م) يومَ عزلِه قائلًا: (لماذا عرَّبتَ التَّعليمَ يا سي محمد، أَلَمْ أَقُلْ لك لا تُعرِّب؟!).
قال محمد مزالي في دراستِه "في التَّعريبِ وإشكالاتِه"، وانظر كتابَه "نصيبي مِن الحقيقة": (إنّ قضيَّةَ التَّعريبِ تبقى مُرتبطةً بمصيرنا جميعًا كَأُمَّةٍ تُريدُ أن يكونَ لها وزنُها بين الأُمَمِ في خِضَمِّ هذه العَولَمةِ الكاسحة. وإذا لَم نَجزِمْ أمرَنا ونُوحِّدْ مناهجَنا، وتَقِفْ مُؤسَّساتُنا التَّربويَّةُ والثَّقافيَّةُ مَوقِفًا واضحًا مِن قضيَّةِ التَّعريبِ، بحيث تَحُلُّ لُغتُنا المَحَلَّ الأوفى في جميع مجالاتِ نشاطِنا، أُسْوَةً بجميع دول العالم التي تُدرِّسُ كُلَّ العُلُومِ بِلُغاتِها القوميَّة؛ مثل: اليابان والبلدان الإسكندنافيَّة، على تواضع حجمها، وغيرها مِن الأُمَمِ التي أصبحت في المقدمة صناعيًّا وتكنولوجيًّا، فإنِّي أخشى أن نبقى دائمًا في آخر القافلة) (انتهى).
وإلى اللِّقاءِ في المقالِ القادمِ -إذا أراد الله-.
واللهُ المُوفِّق.