كتبه/ محمود عبد الحفيظ البرتاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنستكمل في هذا المقال تلخيص بقية أحكام الصيام في رمضان.
قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ . أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (البقرة:183-187).
- (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) (البقرة:184): كما مرَّ -في المقال السابق- كان الإنسان مخيرًا في أول فرض الصيام بيْن الصوم وبين أن يطعم عن كل يوم مسكينًا، ثم نسخ جواز التخيير بيْن الصيام والفدية لعموم الناس، وبقيت الرخصة لمن شقَّ عليه الصيام مشقة شديدة: كالشيخ الكبير، والمرأة العجوز، ويلتحق بهما: "الحامل والمرضع"، فإنهما إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا؛ لأن عذر الحمل والرضاع متكرر للمرأة، والمرأة المتزوجة غالبًا ما تكون بين حمل ورضاع، والأصل في الإسلام الإكثار من النسل والذرية "وليس تحديده أو منعه! فهذا خلاف الأصل"؛ فتكون المرأة بيْن حمل ورضاع عدة مرات، ويدركها عدة رمضانات على هذا الحال، وربما حتى تصل إلى سن اليأس؛ فلو كلـِّفتْ بالقضاء لكان في ذلك مشقة شديدة عليها لا يأتي بمثلها الشرع.
- فالصحيح أن الرخصة باقية للحامل والمرضع كما هو قول ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهم-، فقد كان ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يَقُولُ لأُمِّ وَلَدٍ لَهُ حُبْلَى: أَنْتِ بِمَنْزِلَةِ الَّتِي لا تُطِيقُهُ فَعَلَيْكِ الْفِدَاءُ، ولاَ قَضَاءَ عَلَيْكِ" (رواه البيهقي والبزار، وصححه الألباني)، وعن نافع أن ابن عمر -رضي الله عنهما- سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها، فقال: "تُفْطِرُ وَتُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ" (أخرجه الشافعي ومن طريقه البيهقي، ورواه مالك بلاغًا).
- على أن هذا معلق بالخوف على النفس منهما أو على الولد؛ وليس المراد مِن الخوف مجرد التوهم والتخيل، بل غلبة الظن بحصول الضرر؛ بأمارة أو تجربة أو إخبار الطبيب المسلم الثقة؛ وإلا فإن كانت المرضع مثلاً قادرة على التغذي بوجبات متعددة خلال الليل -ما بين الإفطار والسحور- أو أمكنها أن تغني الطفل عن رضاعتها -ولو بلبن صناعي ما لم يتضرر بذلك أو تخشى عليه-؛ فهي ليست خائفة على طفلها، ولا على نفسها، وإن استطاعت الحامل والمرضع القضاء فهو الأولى خروجًا مِن الخلاف، خصوصًا وأن أكثر العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة- على وجوب القضاء على الحامل والمرضع -على تفصيل بيْن المذاهب في لزوم الفدية مع القضاء-، وأنهما أشبه بالمريض الذي يرجى برؤه منهما بالشيخ الكبير والمرأة العجوز، وإن كان ما ذهب إليه ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهم- في هذه المسألة لا يُعرف لهما فيه مخالف من الصحابة، وقد نص ابن عباس -رضي الله عنهما- على أن الآية ليست منسوخة في حق مَن شق عليه الصيام، وهذه وإن كانت آثار موقوفة إلا أن لها حكم الرفع؛ لأن ذلك ليس مِن قبيل الرأي. والله -تعالى- أعلم.
- وهذه الفدية لهما إنما تشرع بسبب الحمل والرضاع، وليس الحيض أو النفاس، فإنه يجب فيه القضاء ولابد؛ ما لم تصل المرأة إلى حال اليأس مِن القضاء كحال المريض الذي لا يرجى برؤه؛ فيكون فرضهما في هذه الحالة -حالة العجز عن القضاء- هو الفدية في مالهما.
- وكل مَن كان فرضه الفدية وهو العاجز عن الصيام -أو شملته الرخصة: كالحامل والمرضع- فصام أجزأه ذلك؛ لأن الفدية مع الفطر رخصة مِن الله -تعالى- لمن كان يتضرر بالصوم -كالمريض مرضًا لا يرجى برؤه- أو يشق عليه الصيام جدًّا: كالشيخ الكبير والمرأة العجوز، فلو صام فقد أدى ما عليه، بل ربما يقال: هو أفضل وأولى؛ لقوله -تعالى-: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:184).
- ومقدار الفدية: ربع صاع عن كل يوم (700 جرام أرز لكل مسكين).
- ويجوز جمع المساكين وإطعامهم -طعامًا مطبوخًا- حتى يشبعوا كما فعل أنس -رضي الله عنه-، كما يجوز تمليكهم الحب -ربع صاع لكل مسكين-، وأما إخراج القيمة فلا يجوز؛ لأن الله نص على إطعام المساكين في الفدية.
- وهذه الفدية يجوز إخراجها مع طلوع فجر كل يوم، وقبله أيضًا من الليل؛ لأنه كان ناويًا للإفطار قبل الفجر مع عجزه عن الصوم. (انظر: الجامع لأحكام الصيام للشيخ أحمد حطيبة).
- (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ): أي مَن تطوع بالزيادة على القدر المذكور في الفدية فهو خير له، والصوم خير مِن الإفطار والفدية.
- (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ): ترغيب مِن الله -تعالى- لهم في الصيام؛ لما فيه من الأجر والثواب والفضل الكبير، فمن استطاع أن يصوم ولو بمشقة يحتملها؛ فالأفضل له الصيام، خلافًا لمن ظن أن فرض هؤلاء هو الفدية، وأن الصوم لا يجزئهم إن تكلفوا الصيام!
- (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ): أي أنزل القرآن مِن اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك منجمًا حسب الوقائع على النبي -صلى الله عليه وسلم-.
- والقرآن والصيام توأمان في رمضان، وكل منهما يشفع للإنسان: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، فَيُشَفَّعَانِ) (رواه أحمد والطبراني، وصححه الألباني).
- ورمضان فرصة عظيمة لتدبر "القرآن الكريم" والإقبال عليه بقلب حاضر، فإن كثيرًا من الناس -للأسف الشديد- لا يحرص على تدبر القرآن، وإنما همه أن يصل إلى آخر السورة أو يختم القرآن ولو كان بقراءته هذًّا كهذ الشعر! وهذا مما أنكره ابن مسعود -رضي الله عنه-، فعن الأعمش عن أبي وائل قال: "جَاءَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ نَهِيكُ بْنُ سِنَانٍ إِلَى عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَيْفَ تَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ؟ أَلِفًا تَجِدُهُ أَمْ يَاءً (مِنْ مَاءٍ غَيْرِ أَسِنٍ)، أَوْ "مِنْ مَاءٍ غَيْرِ يَاسِنٍ"؟ قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: وَكُلَّ الْقُرْآنِ قَدْ أَحْصَيْتَ غَيْرَ هَذَا؟! قَالَ: إِنِّي لأَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ! إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ... إِنِّي لأَعْلَمُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ، سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ" (رواه البخاري ومسلم واللفظ له)، وقد قصد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قراءته متأنية متدبرة، فقيام النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إحدى عشرة ركعة بالوتر، "وَأَنَّ هَذَا كَانَ قَدْرَ قِرَاءَتِهِ غَالِبًا، وَأَنَّ تَطْوِيلَهُ الْوارِدَ إِنَّمَا كَانَ فِي التَّدَبُّرِ وَالتَّرْتِيلِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فِي قِرَاءَتِهِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ كَانَ فِي نَادِرٍ مِنَ الأَوْقَاتِ" (شرح النووي على مسلم).
- بل حتى في الصلاة نفسها... مِن الناس مَن يكون همه انتقاء القراء مِن حسني الصوت وتتبعهم في المساجد دون الاعتناء بأمر التدبر والخشوع! في حين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حذر من هذا الصنيع، فقال: (لِيُصَلِّ الرَّجُلُ فِي المَسْجِدِ الَّذِي يَلِيهِ، وَلاَ يَتَّبِعِ المَسَاجِدَ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني)، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: (أحْسَنُ النَّاسِ قِراءَةً الَّذِي إِذا قَرأَ رَأيْتَ أنَّهُ يَخْشَى الله) (رواه أبو نعيم في أخبار أصبهان وفي الحلية ورواه الطبراني، وصححه الألباني)، فهذا الذي يُبحث عنه، وليس مجرد حسن الصوت والأداء؛ فلابد إذن مِن الاعتناء بالقرآن العظيم وقراءته قراءة متدبر متأمل حتى يحصل الانتفاع المرجو مِن تلاوته.
- (هُدًى لِلنَّاسِ): أي جعل الله -تعالى- في القرآن هداية للناس، وهي هداية البيان العامة.
- (وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ): هي هداية الانتفاع، والبينات التي يحصل بها الفرقان بيْن الحق والباطل.
قال ابن عاشور -رحمه الله-: "قوله -تعالى-: (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) إشارة إلى وجه تفضيل شهر رمضان بسبب ما نزل فيه مِن الهدى والفرقان. والمراد بـ"الهدى الأول": ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العامة. وبالبينات مِن الهدى: ما في القرآن مِن الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير من الناس، مثل أدلة التوحيد، وصدق الرسول، وغير ذلك من الحجج القرآنية. و(وَالْفُرْقَانِ) مصدر (فَرَقَ)، وقد شاع في الفرْق بيْن الحق والباطل، أي: إعلان التفرقة بين الحق الذي جاءهم مِن الله، وبين الباطل الذي كانوا عليه قبل الإسلام" (تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور).
- (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ): أي مَن كان حاضرا غير مسافر فليصم، وليس أن معنى مَن (شَهِدَ) أي مَن رأي الهلال؛ لأننا نصوم برؤية غيرنا، ولا يلزم أن يرى كل واحد منا الهلال، والشهر سُمي شهرًا لشهرته، وسمي الهلال هلالا؛ لأنه يستهل عند رؤيته، ويصيح الناس ويرفعون أصواتهم برؤيته، وما لم يُستهل به فليس بهلال، وهذا دليل على أن مَن رأى الهلال وحده ولم يقبل الناس خبره -لسبب أو لآخر- فليس له الصوم والفطر وحده منفردًا عن الناس -فضلاً عن الجهر بصومه والتسبب في فتن بيْن المسلمين مِن جراء ذلك-؛ لأن قوله في دخول الشهر إن لم يُشتهر فلم يصر شهرًا؛ لأن الشهر مِن الشهرة؛ وقد مرَّ معنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمُ تُضَحُّونَ، وَعَرَفَةُ يَوْمَ تُعَرِّفُونَ) (أخرجه الشافعي في الأم والبيهقي في السنن الكبرى، وصححه الألباني)، وعلى هذا أيضًا فلا عبرة بالخطأ بفعل الناس في ذلك أو في رؤيتهم للهلال، بل نصوم مع المسلمين ونفطر معهم.
- (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ): كرر -عز وجل- ذكر المريض والمسافر؛ تأكيدًا على بقاء حكم المريض والمسافر على ما هو عليه قبل فرض رمضان؛ لأن ذكرهما قبل ذلك كان في الأيام المعدودات مع ذكر التخيير بيْن الصوم أو الفطر مع الفدية، فلما أنزل الله نسخ التخيير فقد يظن البعض أن الرخصة لهما بالفطر قد نسخت بعد فرض رمضان، فبيَّن -عز وجل- أن الرخصة لهما بالفطر في رمضان بعذر المرض والسفر، ثم القضاء في أيام أخر بعد ذلك لا تزال باقية؛ فضلاً منه -عز وجل- ورحمة.
- (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ): أي فأباح لكم الفطر في المرض والسفر رحمة بكم، وهذه إرادة شرعية، تحبب الله بها إلى عباده؛ وبيَّن لهم أنه شرع لهم الشريعة الميسرة السهلة التي لا حرج فيها ولا تضييق.
(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ): أي عدة صوم رمضان.
(وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ): أي عند تمام الشهر ودخول ليلة العيد إذا أكملتم العدة تعظيمًا لشرعه وأمره، وتحقيقًا لعبادته - فكبِّروه -عز وجل- على ما هداكم إليه مِن الشرائع العظيمة والعبادات الجليلة التي تزكو بها نفوسكم "والظاهر مِن الآية أن التكبير للعيد يُشرع مِن غروب الليلة الأخيرة من رمضان -ليلة العيد، وليس مِن فجر يوم العيد-؛ لأن بغروبها قد تمت واكتملت عدة صوم رمضان.
- (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): أي نشكر الله على هذه الشريعة الغراء، وعلى هذا الدين القويم، وعلى القرآن العظيم، وعلى النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم- الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وشكر هذه النعمة لله -عز وجل- بإقامة دينه -سبحانه-، والدعوة إليه.
- (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ): يرشد -عز وجل- إلى دعائه وسؤاله، وأنه لا واسطة بينه وبين خلقه، فهو قريب -عز وجل- يجيب مَن دعاه، والدعاء مِن أعظم ما ينبغي أن يهتم به الإنسان، وخصوصًا في رمضان، وفي حال الصيام -ويتأكد أكثر عند الإفطار- ومجيء هذه الآية الكريمة بيْن آيات الصيام خير شاهد على ذلك، والصائم دعوته لا ترد كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثُ دَعَواتٍ لا تُرَدُّ: دَعْوَةُ الوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، ودَعْوَةُ المُسافِرِ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني).
- (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ... ): أحل الله -تعالى- (الرَّفَثُ) وهو: الإفضاء إلى النساء بالجماع، مع الطعام والشراب إلى طلوع الفجر الصادق، وكان في أول تشريع الصيام يحرم على الصائم الطعام والشراب والجماع إذا نام بعد غروب الشمس أو دخل عليه وقت العشاء الآخرة إلى مغرب اليوم التالي.
- (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ): أي تخونون أنفسكم في الجماع، فكان الرجل إذا أراد جماع زوجته وقد نام قبل ذلك، كان يخون نفسه أنه لم ينم، فتجاوز الله عن ذلك وعفا عنه، وأحل الطعام والشراب والرفث إلى النساء من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق ولو كان الصائم قد نام.
- (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ): فالآن جامعوهن، واطلبوا ما أباحه الله لكم من الجماع أو قدره لكم من الأولاد، وكلوا واشربوا حتى يتبَيَّن ضياء الصباح من سواد الليل بظهور الفجر الصادق، ثم أتموا الصيام بالإمساك عن المفطرات إلى دخول الليل بغروب الشمس، ولا تجامعوا نساءكم أو تتعاطوا ما يفضي إلى جماعهن إذا كنتم معتكفين في المساجد; لأن هذا يفسد "الاعتكاف"، وهو: الإقامة في المسجد مدة معلومة بنيَّة التقرب إلى الله -تعالى-، تلك الأحكام التي شرعها الله لكم هي حدوده الفاصلة بين الحلال والحرام؛ فلا تقربوها حتى لا تقعوا في الحرام، بمثل هذا البيان الواضح يبين الله آياته وأحكامه للناس; كي يتقوه ويخشَوْه. (التفسير الميسر).
تنبيهات:
- لا يشرع للصائم المبالغة في المضمضة والاستنشاق فإن فعل فسبق الماء إلى الحلق فقد أفطر وعليه القضاء، وإن لم يبالغ فلا شيء عليه، ولا حرج على الصائم في البلل الذي يبقى في فمه بعد المضمضة؛ لأنه لا يمكن التحرز منه.
- وينبغي التحرز من ابتلاع النخامة إذا وصلت إلى تجويف الفم؛ لأن في المقدور التحرز منها، وإن كان الصحيح أنه لا يبطل الصوم بابتلاعها؛ لأنها كالريق.
- مَن شرب أو أكل ظانًا غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر فظهر خلافه؛ فصومه صحيح، ولا قضاء عليه -على الصحيح- ما دام الأمر مشتبهًا ولا أمارة؛ لأنه لم يتجانف لإثم، بخلاف ما لو أمكن التحري كالمستيقظ ليلاً فلم ينظر في ساعته، فهذا قد أفطر لتقصيره (الجامع لأحكام الصيام للشيخ أحمد حطيبة).
- قطرة العين والكحل ونقط الأنف: لا تفطـِّر إلا إذا وصلتْ للحلق ووُجد طعمها؛ لأن الأنف مدخل شرعي كما دل عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَبَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ، إِلا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا) (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني). وكذا العين: فإن هناك قناة دمعية تصل بين العين والأنف والحلق، وهذا مذهب جمهور العلماء.
- العطور والبخور لا يفطر الصائم: إلا إذا بالغ في استنشاقها ووجد طعمها، وأما ما لا يمكن التحرز منه منها أو مِن التدخين السلبي أو اللاإرادي للدخان؛ فلا يؤثر على الصوم.
- البخاخة: تفطر الصائم -على الراجح-؛ لأنها ليست مجرد هواء، بل بها رذاذ سائل أو حبيبات دقيقة تدخل إلى البلعوم قبل دخولها مجرى التنفس، وأما ما كان منها هواء مجرد كاسطوانات الأكسجين؛ فلا تفطر.
- قطرة الأذن لا تفطر إلا إذا كانت الأذن مثقوبة.
- الحقن واللبوس والمحاليل -هذه كلها بكل أنواعها- لا تفطر الصائم، وسواء ما كان مغذيًّا منها أم غير مغذي، كل هذا لا يفسد الصيام على الصحيح من أقوال العلماء.
- المراهم والدهانات لا تفطر الصائم.
- وكذلك الحجامة -على الراجح مِن أقوال العلماء- لا تفطـِّر الصائم، وأما حديث: (أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، فهو منسوخ؛ حيث صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أرخص بعد ذلك في الحجامة للصائم، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، وَالْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ" (رواه النسائي في السنن الكبرى وابن خزيمة، وصححه الألباني).
نسأل الله أن يسلِّمنا إلى رمضان، ويسلِّم لنا رمضان، ويتقبله منا متسلمًا.
اللهم بلغنا رمضان، ويسِّر لنا فيه صالح الأعمال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للاستزادة:
- سلسلة شرح السنة (كتاب الصيام) لفضيلة شيخنا د.ياسر برهامي.
- كتاب الصيام من "فقه السنة" للشيخ سيد سابق، بشرح شيخنا د.ياسر برهامي.
- ندوة بمسجد حاتم لشيخنا د."ياسر برهامي" على موقع "أنا السلفي" بعنوان: "في رحاب رمضان".
- خطبة جامعة لـ د.ياسر برهامي على موقع الهدى والنور، ورفعت على اليوتيوب بعنوان: (أحكام الصيام) بتاريخ: (30-7-2012م).
- كتاب "الجامع لأحكام الصيام وأعمال شهر رمضان" لفضيلة شيخنا د."أحمد حطيبة".