كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيتعرض الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- في هذه الآونة إلى حملة مِن عددٍ من رموز التصوف، تجعل قصة الرمز الصوفي الفرغل مع الإمام ابن حجر تقفز فورًا إلى الذهن، وقد عالجنا هذه القصة في مقالة سابقة، ولكن لا بأس بإعادة التذكير بها مرات ومرات، طالما يصر الصوفية أن يحاكموا الفقهاء والمحدِّثين إلى أذواقهم ومواجيدهم، وتجاربهم وكشفهم؛ فعلم الحديث عندهم يدرسونه، فإذا تلاعب الشيطان بأحدهم في منامه فوسوس له أن حديثًا تقتضي صناعة الحديث القول بضعفه الشديد، بل بوضعه، يقول: إنه صحيح، فيصبح صحيحًا! بل إذا أنشد أحدهم قصيدة مشحونة بالمخالفات ثم رأى رؤيا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرَّها، وألبسه بردته من أجلها، فتُسمَّى: بالبردة، وتُنشد في المسجد مصحوبة بالفرق الموسيقية!
وإذا ظهر له شيطان يأمره بخلاف السُّنة وقال له: "إن أخاك الخضر يحدثك من اللوح المحفوظ"، فلا اعتبار لنصٍّ بعد ذلك! ولهذا يزعجهم أن تعلم الأمة أن جلَّ الأحاديث التي يستدلون بها؛ فيها الموضوع، والضعيف شديد الضعف، أو الموقوف، أو المدرج، وأنهم يقدِّمون تلك الأحاديث على أحاديث البخاري ومسلم، التي يتباكون من أن الألباني قد ناقش بعضها وبحث مدى انطباقها على شروط الشيخين، كما فعل مِن قبله الحُفَّاظ: كالدارقطني، وغيره.
القصة المزعومة للفرغل وابن حجر وعداء الصوفية للفقهاء والمحدثين:
فلنعد إلى قصة الفرغل مع ابن حجر -رحمه الله-، كما يرويها الصوفية: قال الشعراني في (طبقات الصوفية): "ومنهم: سيدي الشيخ محمد بن أحمد الفرغل -رضي الله تعالى عنه- من الرجال المتمكنين أصحاب التصريف..."، ثم قال: "ومن كراماته: مرَّ عليه شيخ الإسلام ابن حجر -رضي الله عنه- بمصر يومًا حين جاء في شفاعة لأولاد عمر، فقال في سرِّه: ما اتخذ الله من ولي جاهل، ولو اتخذه لعلَّمه -على وجه الإنكار عليه-، فقال له: قف يا قاضي! فوقف، فمسكه وصار يضربه ويصفعه على وجهه! ويقول: بل اتخذني وعلَّمني!".
وليست هذه هي الواقعة الوحيدة بين الحافظ ابن حجر والفرغل؛ فهم يذكرون في دروسهم المتناقلة على الإنترنت قصة أخرى تقول: "إن الفرغل كان يبيع الحشيش أمام باب الجامع الأزهر وقت الصلاة، واستنكر الحافظ ابن حجر (في نفسه) أن يقال عن الفرغل: ولي، وهو يبيع الحشيش على باب المسجد (هنا الحافظ ابن حجر، وهو حافظ الدنيا، اكتفى بالإنكار القلبي على مَن يبيع الحشيش أمام المسجد وقت الصلاة!)، وتمضي القصة لتقول: إن الفرغل عاقبه بأن أنساه الفاتحة، ولم يعفُ عنه ويردها إليه حتى باع الحشيش معه!
وبعد أن أذعن الحافظ ابن حجر وباع الحشيش (لاحظ أنه باع معه الحشيش دون أن يعرف الحيلة -أي: وهو يراه من الكبائر-، ولكن ماذا يصنع؟ أيعيش حياته دون علم بالفاتحة؟ فقد محاها الفرغل من رأسه، ولن يردها إليه إلا بهذا الشرط!) بيَّن له الفرغل حينها أنه يبيع حشيشًا رديئًا يجعل مَن يتعاطاه يكرهه ويقلع عنه!
ولكن الفرغل لم يبيِّن لنا: لماذا اختار وقت الصلاة وأمام باب المسجد طالما تذكر القصة أنها أسباب ظاهرة، وأن الحشيش صنف فاسد؛ فلماذا يضيع الصلاة؟!
كارثتان مشتركتان في كلٍّ من القصتين:
1- في كل مرة لم يجرؤ الحافظ (وَفْق ما تقول القصة) إلا على الإنكار القلبي، ومع هذا عَلِمَ به الفرغل! فهل ينسبون له علم ما في ضمائر الناس؟!
2- "الضرب - السب - العدوان على عقل الحافظ ابن حجر - إبطال صلاته وصلاة المأمومين خلفه - إجباره على فعل مشين علنًا"؛ هذه قائمة عقوبات صغيرة أوقعها الفرغل على مَن حدَّثته نفسه (بالمعنى الحرفي لكلمة: حدثته نفسه) أن ينتقده!
ثم يتكلمون بعد ذلك عن الحب الصوفي؟!
بكاء الجفري على ما اعتبره تفضيل السلفيين للألباني على الحافظ ابن حجر:
وازن بين هذه القصة وبين الانفعال المصطنع للحبيب الجفري، وهو يقول: يا ناس، نقول: صححه الحافظ ابن حجر، أو صححه ابن حجر الهيتمي، وتقول: ضعفه الألباني؟! ومن يكون الألباني أمام ابن حجر؟!
ولكن لماذا لم ينكر على شيخه لما خرج في الإعلام يحكي قصة الفرغل، وما صنعه بابن حجر؟! (طبعًا هو ساق اسم ابن حجر العسقلاني لمكانته عند عموم الأمة، ولكن المقصد الأكيد منع أي أحد من مناقشة رضوخ ابن حجر الهيتمي للصوفية وتصحيحه لما يطلبون، ودفاعه عن ابن عربي، وتمريره لكلِّ انحرافات البردة).
منشأ العداء وقصة أخرى مكذوبة بين البدوي وابن دقيق العيد:
كان الفقهاء على طريقة الأئمة الأربعة ينهون عن البدع ومحدثات الأمور "ومنها: التصوف"؛ لا سيما الشافعية، حيث يقول إمامهم الشافعي: "لو أن رجلًا تصوَّف أول النهار لم يأتِ عليه الظهر إلا وجدته أحمق" (رواه البيهقي في مناقب الشافعي)، ونقل عنه ابن الجوزي في تلبيس إبليس أنه قال: "ما لزم أحد الصوفية أربعين يومًا، فعاد عقله إليه أبدًا!".
ولكن مصر والشام بعد سقوط الدولة العبيدية المسماة زورًا: "بالفاطمية"، تعرَّضت لغزو صوفي من بلاد المغرب "بلاد العبيديين"؛ فأظهر بعضهم الزهد، وأظهر البعض الآخر خوارق العادات، فالتف حولهم بعض العامة، وظن المماليك أن هذا باب حسن يتقربون به إلى الله وإلى العامة في وقتٍ واحدٍ دون أن يشغلهم هذا عن القتال أو يمنعهم من الترف؛ فصار كل واحد منهم يتبنى زاوية صوفية ينفق عليها من صنوف الطعام والشراب إلى آخر ذلك، فاستفحل أمر الصوفية وشنوا حملات إرهاب لكل مَن خالفهم من الفقهاء أو الوجهاء، بل وزاد الأمر إلى أن وصل إلى مواجهة الأمراء أنفسهم.
وقد آذى الصوفية الفقهاء أيما أذى، ولكن الأهم أن الصوفية شنوا حملة اغتيال معنوي لمن عارضهم من الفقهاء.
والصوفية يسجلون أن العز بن عبد السلام -رحمه الله- كان مبالغًا في الإنكار على التصوف ثم تغير رأيه فيهم؛ فصار يشهد مجلسهم، ويرقص رقصهم! ويعللون ذلك بأنه رأى من كرامات أبي الحسن الشاذلي ما جعله يميل إليهم.
وكان يمكن أن نصدِّق هذا لو لم يبالغ الصوفية في ذكر تماهي العز بن عبد السلام معهم في رقصهم، مع تصريحه بذمهم في (قواعده)، ومع عدم اتساق هذا إطلاقًا مع شخصيته التي عبَّرت عنها كتبه، ووقاره وهيبته التي حكاها التاريخ عنه.
(يعني شيوخ الصوفية الكبار الآن يكتفون في مجالس ذكرهم بهزِّ الأكتاف، ولا يرقصون ويقفزون في الهواء، ويزحفون على البطن، وغير ذلك مما نسبوه إلى العز بن عبد السلام بعد ما كان منكرًا لكل أحوالهم).
وكذلك ابن دقيق العيد، قالوا إنه انتقل من عداء الصوفية إلى الدِّفاع عنها.
ونحن لا نعلم المواجهات الحقيقية التي جرت بين الفقهاء وبين رموز التصوف، ولكننا سنتوقف عند قصة أسطورية أخرى زعم فيها الصوفية أن وليًّا -مِن عندهم- لقَّن فقيهًا درسًا جعله يلزم الأدب معه طوال عمره.
قال عبد الصمد زين الدين الأحمدي في الجواهر السنية: "إنَّ الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد قاضي القضاة بالديار المصرية سمع بالشيخ وأحواله، فنزل إليه واجتمع به بناحية طنطا، وقال له: يا أحمد! هذا الحال الذي أنت فيه، ما هو مشكور، فإنه مخالف للشرع الشريف، فإنك لا تصلي، ولا تحضر الجماعة! وما هذه طريقة الصالحين!
فالتفت إليه سيدي أحمد البدوي -رضي الله عنه!- وقال: اسكت وإلا أطيِّر دقيقك! ودفعه دفعة، فلم يشعر بنفسه إلا وهو في جزيرة واسعة، لم يعلم لها طولًا ولا عرضًا!
فأقبل يلوم نفسه ويعاتبها، وهو ذاهل العقل، غائب عن الصواب، ويقول: ما لي ومعارضة أولياء الله تعالى، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصار يبكي، ويستغيث، ويبتهل إلى الله.
فبينما هو كذلك إذ ظهر له رجل له هيبة ووقار، سلَّم عليه، فردَّ عليه السلام، وقام عليه وجعل يقبِّل يديه ورجليه!
فقال: ما قضيتك؟ فأخبره بخبره مع سيدي أحمد البدوي!
فقال له: لقد وقعت في أمر عظيم! أتدري كم بينك وبين القاهرة؟!
قال: لا والله.
قال: بينك وبينها سفر ستين سنة!
فازداد همًّا على همِّه، وغمًّا على غمِّه، وكبر في قلبه الخوف! وقال: يا تُرى من يُخلِّصني من هذه الورطة؟! إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
وأقبل على الرجل يقول له: أرشدني يرحمك الله.
فقال له: هوِّن عليك الأمر، فما يحصل لك إلا الخير إن شاء الله تعالى.
قال: وكيف لي بذلك؟
فأخذ بيده وأراه قبة كبيرة، وقال له: ترى هذه القبة... اذهب إليها، واجلس فيها، فإنَّ سيدي أحمد البدوي يُصلِّي فيها العصر بجماعة من الرجال، ويودِّعونه وينصرف كل واحد إلى حال سبيله!
فإذا صلَّيتَ معهم فتعلَّق به، وتملَّق بين يديه، وقبِّل يديه ورجليه، واكشف رأسك، وتأدَّب معه! وقل له: أستغفر الله وأتوب إليه، ولا أعود لما صدر مني... فإذا رأى منك ذلك فإنه يُقبل عليك، ويردك إلى موضعك -إن شاء الله تعالى-. وكان الرجل الذي أتى الشيخ ابن دقيق هو الخضر -عليه السلام-!
فامتثل الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد أمره، ومشى إلى القبة، وجلس فيها على وضوء ينتظر قدوم الجماعة، فما كان إلا هنيهة حتى أقبلت الجماعة من كل جانب ومكان، وأقيمت الصلاة، فتقدَّم سيدي أحمد البدوي -رضي الله عنه!- وصلَّى بهم إمامًا، فلمَّا انقضت الصلاة تعلَّق الشيخ ابن دقيق بأذياله، وكشف رأسه، وجعل يقبِّل يديه ورجليه، ويبكي ويستغفر ويعتذر! وأنصف من نفسه.
فأقبل عليه سيدي أحمد -رضي الله عنه!-، وقال له: ارجع عما كنت فيه، ولا تعد إلى مثله!
فقال له: السمع والطاعة يا سيدي!
فدفعه دفعة لطيفة، وقال: اذهب إلى بيتك؛ فإنَّ عيالك في انتظارك.
قال: فلم يشعر ابن دقيق العيد بنفسه إلا وهو واقف بباب داره بمصر، فأقام مدة ببيته لا يخرج منه لما جرى له مع سيدي أحمد البدوي -رضي الله عنه!-".
ابن حجر خاتمة الحفاظ:
لقد قام المشتغلون بعلم الحديث بدور عظيم في حمل دين الإسلام جيلًا بعد جيل، وغلب على الجيل الأول تتبُّع آحاد الأحاديث، ثم جاء عصر الجمع والتأليف والترتيب لتنقل السُّنة بعد ذلك في كتب ودواوين، نهل منها علماء العقيدة والفقه والآداب والأخلاق.
وربما تصدى بعضهم لبيان درجة الحديث الذي أورده من حيث القبول أو الرد، ولكن معظمهم لم يفعل هذا، تاركًا الأمر لطبقة أخرى من المحدِّثين تقوم به، أو ربما نقل خلاصة ما اطمأن إليه من كلام المحدِّثين.
ولأن معظم المصنِّفين في هذه العلوم اكتفوا بإيراد المتن، فقد احتاجت كتبهم إلى أن تُخدَم بخدمة أخرى، وهي: "التخريج"؛ أي: إرشاد الدارس للموضع الذي يجد فيه هذا المتن مرويًا بسنده، وقد لا يُطلَق التخريج إلا إذا كان هذا الأمر قد فُعِل على وجه الاستيعاب أو قريب منه.
قال السخاوي في (فتح المغيث): "والتخريج: إخراج المحدث الأحاديث من بطون الأجزاء، والمشيخات، والكتب، ونحوها، وسياقها من مرويات نفسه أو بعض شيوخه أو أقرانه، أو نحو ذلك، والكلام عليها وعزوها لمن رواها من أصحاب الكتب والدواوين".
وهذا "التخريج" غرضه في النهاية الوصول إلى "التحقيق"، وهو: إعطاء كل حديث حكمه من حيث القبول أو الرد من حيث المبدأ، مع بيان مرتبته من القبول أو مرتبته من الرد.
وبالطبع كان الأمر يحتاج إلى تهذيب وترتيب لصياغة قواعد علم المصطلح، كما كان هناك الاجتهاد في تيسير حصول المحققين على بغيتهم من تراجم الرجال.
وكان خاتمة الحُفَّاظ، الحافظ ابن حجر العسقلاني، قد ضرب مع كل فريق بسهم، بحيث صار إمامًا لمن بعده، فهذَّب (تهذيب الكمال) للحافظ المزي في الرجال حتى صار هو المرجع الأهم في معرفة أحوال الرواة.
وأما علم القواعد، فرغم أن ابن الصلاح قد سبقه إلى كتاب اعتُبِر بالفعل أصلًا لكل المصنِّفين بعده؛ إلا أن ابن حجر كتب (نخبة الفكر) وشرحها في (نزهة النظر)، وقد سلك فيها ترتيبًا يراه كثيرٌ من الباحثين أكثر تأنقًا من ترتيب (مقدمة ابن الصلاح).
وأما التخريج والتحقيق، فقد برع فيه الزيلعي، فخرَّج أحاديث كتاب (الهداية) في الفقه الحنفي في كتاب (نصب الراية لأحاديث الهداية)، ثم جاء الحافظ ابن حجر ليصنف كتاب (التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير)، ليحقق فيه أحاديث (الشرح الكبير) للرافعي؛ فضلًا عن موسوعته الغنية في علم دراية الحديث؛ أعني (فتح الباري شرح صحيح البخاري).
إن المسلم المعظِّم لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليمتلئ قلبه حبًّا لمن خدم سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا سيما من كانت خدمته لها متنوعة، وكانت إسهاماته -على تنوعها- في درجة عالية من الإتقان.
(أحمد شاكر - المعلمي اليماني - وخاتمة المحدثين الألباني):
لما سيطر الصوفية على الحركة العلمية، وأشاعوا إغلاق باب الاجتهاد في الفقه والحديث، بعد ما أدخلوا في الفقه قهرًا أقوالًا بجواز الكثير من صور الغلو في الصالحين، وأدخلوا في الحديث تصحيح ما يخدم ذلك، وإن كان موضوعًا أو شديد الضعف، وتضعيف أو تأويل ما يخالفهم ولو كان في غاية القوة ثبوتًا ودلالة! كان لهذا أكبر الأثر في حالة الضعف الديني والدنيوي التي أصابت الأمة الإسلامية؛ حتى كانت النهضة التي بدأها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في باب الاعتقاد، والشوكاني في باب الفقه، وليس هذا كلام السلفيين، بل هذا كلام الأستاذ "محمود شاكر" في (الطريق إلى ثقافتنا)، وكلام المستشار "طارق البشري" في (القوانين الوضعية)، وكلام المؤرخ "أحمد أمين" في أكثر من كتاب له، بل وكلام "طه حسين" في بعض مقالاته.
إلا أن هذه الدعوات التصحيحية لم تبدأ في الانتشار العام إلا بعد أن أيقن الجميع أن تيار الجمود الفقهي، الملتحف بالجدل الكلامي والخرافة الصوفية، قد عجز عن الدفاع عن الإسلام، ليس في ميدان المعركة فقط، ولكن الأهم في ميدان الفكر أمام العلمانية الوافدة.
وهنا شعر الجميع بضرورة العودة إلى الدليل (كتابًا وسنة)، وكان الطريق إلى الكتاب أيسر -بفضل الله-؛ لأنه تنقله الكافة عن الكافة.
وأخذت الأمة تتلمس طريق الحديث، واستعمل الله لهذا الشأن ثلاثة رجال؛ كان ثالثهم الذي استوت جهود الثلاثة على يديه، وهو: "العلامة الألباني" -رحمه الله رحمة واسعة-، وهذا كلام شهد به عالم أزهري كبير؛ هو: الدكتور "معبد عبد الكريم"، مع أنه ليس سلفيًا، ومع أنه ينافح عن الأشعرية، فلا يُظن أنه قال هذا الكلام من باب المجاملة أو الانحياز.
جاء في حوار أجرته معه (مجلة البيان) في عددها الصادر في جمادى الآخرة - 1424هـ الموافق أغسطس - 2003م، (السنة: 18)، ومما جاء فيه:
المجلة:
الحركة العلمية الحديثة في مجال تنقيح علوم السنة وتحقيقها وتصحيحها، كان لها ريادة -بلا شك- في هذا المجال؛ ما المصالح التي ترتبت على هذه الحركة؟ وهل هناك ملاحظات يمكن أن تُذكر في هذا المجال؟
الشيخ معبد عبد الكريم:
- لا شك أن الريادة العلمية التي أستطيع ذكرها قد تمثَّلت في ظهور الشيخ أحمد شاكر -عليه رحمة الله-، ومَن كان في وقته مِن علماء الأزهر في مصر، وظهور الشيخ عبد الرحمن المعلمي في الهند، ثم في السعودية، وظهور الشيخ الألباني أيضًا -عليه رحمة الله- في الشام، وظهور الغماريين في مصر والمغرب.
فهؤلاء جميعًا كانوا رموزًا أعادت لمدرسة الحديث شيئًا كبيرًا جدًّا من تقدمها وحيويتها، أو صحوتها. ما زلت أذكر كلام الشيخ الألباني -عليه رحمة الله- في مقالاته المبكرة في مجلة "الوعي الإسلامي"، والتي كانت نواة لسلسلة "الأحاديث الضعيفة"؛ كنا نقرؤه ونحن طلاب في الثانوي أو في الجامعة ونعده في وقته فتحًا جديدًا؛ كيف نقرأ الحديث في "سنن النسائي" غير مبين الدرجة، ثم نجد الشيخ الألباني يقول: "رواه النسائي بإسناد حسن"، فمثل هذا العمل كان يمثِّل مرحلة جيدة -بحمد الله-.
كذلك الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري، والشيخ أحمد بن الصديق الغماري، كان لهما جهد في هذا في بلاد المغرب، وتعاون مع أساتذة الأزهر؛ مثل: فضيلة شيخنا عبد الوهاب عبد اللطيف -رحمه الله-، ووُجِد مِن تعاونهم نشاط علمي في ذلك الوقت.
هذه الصحوة أينعت ثمارها في إخراج تراث السُّنة المخطوط والعناية به، واعتُبرت أعمالهم في وقتهم أعمالًا ريادية، نتج عن هذه الصحوة المحظور الذي ذكرناه قبل قليل؛ وهو: أن هناك مِن الناس مَن ظن أن هؤلاء يمكن مضاهاتهم بسهولة، فبدأ يقحم نفسه، ومِن ثَمَّ ظهر ضعف النتاج الذي تحدثنا عنه، وظهرت مكانة هؤلاء الناس.
ويكفي أنهم فتحوا هذا الطريق أمامنا وحوَّلوه إلى حركة دائبة إلى حدِّ أنه الآن تُكتب بحوث ورسائل في مستوى "علل الحديث" -مثلًا- بأقلام رصينة معقولة؛ هذا يُعتبر شيئًا جيدًا جدًّا" (انتهى).
(هذا كلام الشيخ معبد عبد الكريم أوردته بتمامه، وفيه ثناء على الغماريين، وهم مِن جملة مَن اشتغل بالحديث، ولكنهم دون الألباني بمراحل، وكفى الألباني كتابه: "إرواء الغليل"، الذي خرج وحقق فيه أدلة "منار السبيل"، أحد أغزر كتب الحنابلة من حيث الأدلة. وكأن الله ادخر للألباني أن يبقى المذهب الحنبلي بلا تخريج كهذا ليأتي الألباني، فيصطف بكتابه إلى جوار الحُفَّاظ: الزيلعي، وابن حجر العسقلاني (وإن تقدما عليه في الزمن والرتبة -رحم الله الجميع-).
غير أن الغماريين أيضًا كانت مشكلتهم الجوهرية: أن الفكر الصوفي الذي تبنوه فرض عليهم في كثيرٍ من الأحيان التلاعب بقواعد علم الحديث.
وللدكتور معبد عبد الكريم مقاطع صوتية يبيِّن فيها أثر الألباني على الأزهر في علم دراسة الأسانيد، مبينًا أن الأزهر كان يُدرِّس قواعد المصطلح فقط دون علم دراسة الأسانيد، وأنه هو وغيره قد استفادوا من جهود الألباني في هذا.
ولا أظن أن الجفري أو غيره -ممَّن تكلموا في الألباني- يستطيعون أن يتكلموا في الدكتور معبد عبد الكريم.
بل قال أحد رموز الطريقة الأحمدية المعادين للسلفية قصيدة في شأن الألباني قال فيها:
قد كان عِلْمُه من الكِتابِ
لا شيخَ يَهديه إلى الصَّوابِ
ورغم ذا فكَمْ له أَيادِي
في نَشْرِ سُنَّةِ النبيِّ الهادي
وأَشْغَلَ الشبابَ بالحديثِ
وكان مثلَ الباعثِ الحثيثِ
فاللهُ يَجزيه عن الإسلامِ
جزاءَ أهلِ الفضلِ والإِنعامِ
فاضطر إلى الاعتراف بأنه كان مثل "الباعث الحثيث" لعلم الحديث.
وأما دعوى أنه كان بلا شيوخ، والتي يُبنى عليها أنه لا يؤخذ كلامه إذا خالف المتقدِّمين (ولا أدري: هل هذه قاعدة مفصلة عندهم للألباني أم هي مبنية على قولهم بإغلاق باب الاجتهاد؟!).
وهذه الانتقادات كلها سوف نخصص لها مقالة مستقلة -إن شاء الله-.
ولكن عمومًا، الأستاذ الدكتور معبد عبد الكريم قد عدَّ نفسه قد تتلمذ على كتب الألباني، فإن كان الألباني لم يُزكِّه شيوخه؛ فاعتبروه قد زكَّاه تلامذته الذين هم شيوخ مشايخكم في علم دراسة الأسانيد.
رحم الله العلامة الألباني، وكل مَن أوقف حياته للدفاع عن سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.