الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 26 ديسمبر 2013 - 23 صفر 1435هـ

موقف الإسلاميين من "المادة الثانية" في الدستور المصري بعد ثورة "25 يناير"

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد حرصتْ "الدعوة السلفية" على مدار تاريخها على تقديم النصيحة الصادقة لكل المسلمين، وعلى رأسهم: جماعات الدعوة إلى الله، ولم تلجأ في يوم ما إلى المزايدة على أحد أو الدخول في النوايا، وإن كانت توجِّه النصح فيما يتعلق بالأعمال الظاهرة، وفي ظل اتهامات متتالية مِن رموز إسلامية تتهم "الدعوة السلفية" و"حزب النور" بالتفريط في مواد الهوية في دستور (2013م)، وعلى رأسها: المادة (219) المفسِّرة لمبادئ الشريعة الإسلامية الواردة في المادة الثانية!

وهذا الكلام ينطوي على مغايرة للواقع، ثم هو يَصِم أصحابه بالتناقض؛ حيث إن عامتهم ممن قَبِل بالمادة الثانية على حالها، بل قَبِل بما هو أقل منها، بل بعضهم أنكر على الدعوة السلفية ما أسماه حينئذٍ بافتعال الأزمات، وتعطيل مسار الحريات!

وهذا عرض موجز لهذه القضية، وعرض لوضع المادة الثانية في تعديلات (2013م)؛ ليتبين لك الحق في المسألة -إن شاء الله-:

أولاً: تحرشات التيار المدني بالمادة الثانية بعد الثورة:

تعرضت "المادة الثانية" لهجوم شرس من التيار المدني في أعقاب تنحي "مبارك"، وتمثـَّل هذا في فاعليات كثيرة، منها:

- في ظل الإجراءات التي اتخذها "مبارك" لمحاولة الخروج مِن الأزمة كلَّف لجنة لـ"تعديل الدستور" ضمت في عضويتها الدكتور "يحيى الجمل" الذي اعترف لاحقًا بأنه قدَّم لهذه اللجنة اقتراحًا بتعديل المادة الثانية مِن الدستور؛ مما يعني أن الخطر لم يكن فقط على الأبواب، بل كان قاب قوسين أو أدنى مِن أن يكون أمرًا واقعًا.

- أسس "ساويرس" لجنة الحكما، وطالب صراحة بإلغاء المادة الثانية من الدستور!

- قدَّم "أقباط المهجر" طلبًا صريحًا للمجلس العسكري بإلغاء المادة لثانية مِن الدستور!

- ترددت "الكنيسة الأرثوذكسية" في الأمر؛ فأعلنت مطالبتها بعدم المساس بالمادة الثانية، ثم عادت ودعت الكنائس الثلاث لمناقشة الأمر، وانتهى الاجتماع بالاتفاق على تأجيل المطالبة بإلغاء المادة الثانية لحين الكلام على إصدار دستور كامل جديد "كان هذا قبيل صدور تعديلات المستشار طارق البشري".

- قام "الأهرام الإلكتروني" بعمل استفتاء على بقاء المادة الثانية مِن الدستور.

- تصريح "نجيب جبرائيل" أن الثورة طالبت بدولة مدنية، ومِن ثمَّ فإن إلغاء المادة الثانية في منطقه أمر مفروغ منه تحتمه مشروعية الثورة!

- خرج علينا الدكتور "يحيى الجمل" عشية اختياره نائبًا لرئيس مجلس الوزراء ليحكي لنا عن اقتراحه الذي قدَّمه للجنة التي شكـَّلها الرئيس السابق وحلها المجلس العسكري، والذي تضمن تعديل المادة الثانية مِن الدستور بحذف "ال" التعريف منها؛ مع علمه أنه وفق تفسير المحكمة الدستورية العليا فإن المادة بدون "ال" عديمة الفائدة!

ولم يكتفِ الدكتور "يحيى الجمل" بذلك! بل سَخَر مِن الفقرة الأولى مِن المادة الثانية التي تنص على أن: "دين الدولة هو الإسلام"!

ثانيًا: حملة "الدعوة السلفية" للدفاع عن المادة الثانية، وموقف الإسلاميين منها:

في ظل هذا الهجوم من التيار المدني على المادة الثانية نظـَّمتْ "الدعوة السلفية" مؤتمرات للدفاع عن المادة الثانية، ولكن معظم الإسلاميين كان لهم موقف سلبي، بل معترض على إثارة هذا الموضوع.

وممن تكلم في ذلك:

- الدكتور "صفوت حجازي" الذي قال في حوار له على قناة المحور قبل استفتاء (19 مارس) بشهر تقريبًا: "إن مَن يتكلم عن المادة الثانية من الدستور الآن فهو مثير للفتنة سواء أكان مسلمًا أم مسيحيًّا!" (وتضمن الحوار الكثير من الانحرافات المعهودة، مثل: الترحيب بقيام حزب مسيحي وشيوعي، وأن مَن فاز منهما يحكم إلى آخر ذلك؛ مما يعني عمليًّا إهداره هو في حديثه لأي أثر للمادة الثانية).

- كتب الأستاذ "محمود سلطان" في جريدة المصريون بتاريخ: (27-3-2011م) بعنوان: "المادة الثانية مجددًا" أثنى فيه على حوار "صفوت حجازي" المذكور، ودعَّم هذا القول! وقد رد عليه كاتب هذه السطور في مقالة بعنوان: "عفوًا أستاذ محمود... لا تسوِّ بيْن الضحية والجلاد!".

وقد أنكر علينا معظم قادة العمل الإسلامي، وأرسلوا إلينا: أن تكريس دولة الحريات أهم بكثير مِن إثارة قضية "المادة الثانية" التي لا تتعرض لأي خطر "بحسب قول معظمهم"؛ رغم ما ذكرنا مِن حملة التيار المدني ضدها!

استفتاء (19 مارس):

بعد تشكيل لجنة المستشار "طارق البشري" وعدم إدراجها للمادة الثانية على قائمة التعديلات كشَّر التيار المدني عن أنيابه وحاول إسقاط التعديلات الدستورية، البعض لأنه كان يريد دستورًا جديدًا، والمعظم كان يرفض التعديلات لأنها لم تتضمن "المادة الثانية"؛ مما جعل المادة الثانية الشاهد الغائب في الاستفتاء، وانحاز عامة الإسلاميين إلى "نعم"، والتي تقررت بأغلبية كبيرة.

دلالات استفتاء (19 مارس):

كان موقف معظم التيار الإسلامي هو التصويت بـ"نعم" على التعديلات الدستورية، ولكن الملاحظة الجديرة بالانتباه أنه في الوقت الذي جاهر المطالبون برفض التعديلات الدستورية بأن المبرر الأساسي لرفضها هو تجاهلها لإلغاء المادة الثانية أو تعديلها تعديلاً يفرغها تمامًا من معناها، فإن معظم الكيانات المنظمة في التيار الإسلامي أيدت التعديلات تحت شعار: "الاستقرار"، وما شابهه.

غير أنه يجب هنا أن نتوقف عند ظاهرة غاية في الأهمية، وهي: أن "الدعوة السلفية" هي الكيان المنظم الوحيد الذي تحدث عن أن الايجابية الأساسية لهذه التعديلات هي: أنها لم تستجب لدعاوى تعديل المادة الثانية أو إلغائها، وشاركهم في ذلك بعض الدعاة الفرديين المنتمين أيضًا إلى التيار الإسلامي.

وبدون دخول في النوايا بالاتهامات الباطلة نستطيع أن نقول: إن موقف "جماعة الإخوان" و"الجماعة الإسلامية" كان يرى أن تقرير بعض الحريات أهم بكثير من الدفاع عن المادة الثانية، بل إنهم وجهوا لومًا -وإن لم يكن حادًا- لمن اهتم بها!

وبوسعك أن تلتمس لهم الأعذار أو تحاول أن تتفهم طريقة موازناتهم للأمور، ولكن الذي يصعب فهمه أن يكون هؤلاء هم مَن يوجِّه إلى "الدعوة السلفية" تهمة التهاون في شأن الشريعة في تعديلات الدستور؛ بزعم الاكتفاء بـ"المادة الثانية" رغم أنهم لم يقفوا وقفة حاسمة مع هذه المادة ذاتها يوم أن كانت مهددة! بالإضافة إلى عدم صحة الادعاء بأن التعديلات لم تتضمن في شأن الشريعة إلا "المادة الثانية".

حيل ما بعد تعديلات (19 مارس):

قدَّمنا أن معظم التيارات لم تستشعر الخطر على "المادة الثانية" قبل استفتاء (19 مارس)، وأنهم عادوا باللوم على الدعوة السلفية في هذه القضية، ولكن الأحداث التي تلت (19 مارس) أكدت بما لا يدع مجالاً للشك أن الطرف الرافض للمادة مصر على رفضه، ولديه العديد من الحلول والحيل في هذا الصدد.

وقد تمثَّلتْ هذه الجهود في الاتجاهات الآتية:

1- فرض وثيقة مبادئ فوق دستورية للدستور القادم تتضمن صيغة للمادة الثانية تفرغها تمامًا من معناها!

2- محاولة الحصول على موافقة "الأزهر" على بعض هذه الأفكار، وهو ما عبَّرت عنه "وثيقة الأزهر".

3- تسويق تفسيرات لمبادئ الشريعة تفرغها من معناها.

وثيقة د."علي السلمي":

وقد رفضتْ القوى الإسلامية هذه الوثيقة؛ لما تمثله من اعتداء على خارطة الطريق، بينما كان تركيز "الدعوة السلفية" على أنها تمثِّل اعتداءً على "المادة الثانية" من الدستور.

وتم تنظيم مليونية (29-7)؛ لرفض وثيقة د."علي السلمي"، وكانت من أنجح المليونيات، وقامتْ "الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح" بدور في التنسيق بيْن جهود الإسلاميين في هذه المليونية، ومِن ثَمَّ بدأتْ بعدها تغيِّر خطتها من إيجاد التيار السلفي العام إلى إيجاد التيار الإسلامي العام، وهو ما أدى إلى تبنيها لجميع آراء الإخوان من الناحية السياسية؛ لكون معظم أعضائها: إما من الإخوان، وإما ممن يؤمنون بأن الإخوان هم رجال المرحلة!

وأظن أن الإخوان لو وجدوا مِن الإسلاميين نصحًا حقيقيًّا، ومنعًا من التجاوز؛ لما وصل بنا الحال إلى ما وصلنا إليه.

"وثيقة الأزهر":

لم ييأس رافضو "المادة الثانية" وإنما لجأوا للأزهر ذاته، وقدَّموا بالتعاون معه وثيقة عُرفت باسم: "وثيقة الأزهر" تضمنتْ صياغة جديدة للمادة الثانية، لتكون: "المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وقد نُوقشتْ هذه الوثيقة في حضور ممثلين عن كافة الأحزاب والقوى الإسلامية.

- ومثَّل فيها الإخوان وحزب الحرية والعدالة:

1- د."محمد مرسي".

2- د."عصام العريان".

3- د."عبد الرحمن البر".

- ومثَّل الجماعة الإسلامية:

الأستاذ "عصام دربالة".

- ومثـَّل كاتب هذه السطور "الدعوة السلفية".

وفي هذا الاجتماع أثنى جميع ممثلي الإخوان على هذه الوثيقة ثناءً واسعًا (ظهر تسجيل مرئي فيما بعد للدكتور "بديع" يستعرض أمام مجلس شورى الإخوان أن قرار الجماعة: رفض وثيقة السلمي، وقبول وثيقة الأزهر).

وقد اعترضتُ بشدة على هذه الصياغة الجديدة للمادة الثانية، وحين جاءت ورقة التوقيع أثبتُّ جملة اعتراضات، كان مِن أهمها ما يتعلق بهذه الصياغة الجديدة للمادة الثانية، وقد شاركني في هذا الاعتراض الأستاذ "عصام دربالة"؛ إلا أنه في نهاية الاجتماع وقـَّع على الوثيقة، بينما أثبتت أنا في محضر الاجتماع عدة اعتراضات، وبيَّنتها "الدعوة السلفية" فيما بعد في عدة بيانات صحفية، وشرحت هذه الاعتراضات في عدة لقاءات تلفزيونية.

وقد دافع "الأزهر" فيما بعد عندما تشكلت الجمعية التأسيسية عن بقاء "المادة الثانية" على ما هي عليه، بل ساهم بصورة أو بأخرى في اقتراح المادة (219).

والشاهد: تذكير كل الأطراف بطريقة تفكيره ونظرته إلى "المادة الثانية" وما أضيف إليها، مما عُرف فيما بعد بـ"مواد الهوية" في الدستور.

تفسير "مبادئ الشريعة" بما يفرِّغ المادة من معناها:

لابد وأن نعترف أن الثقافة الدستورية للمشتغلين بالدعوة إلى الله لم تكن بالقدر الكافي قبل "ثورة يناير"؛ نظرًا لجمود الدستور وعدم الاهتمام الكافي بتفسيراته، أو على الأقل الحرص على مطالعة ما يتعلق به من أحكام وتفسيرات.

وقد كان المتداول بيْن الإسلاميين أن موقف المحكمة الدستورية من المادة الثانية يتمثل في:

1- قصر تطبيقها على ما بعد تعديل المادة (سنة 80)، كما ورد في حكم لها (سنة 85).

2- أما في القوانين التي صدرت بعد تعديل الدستور: فقضاء المحكمة على إبطال أي قانون يخالف حكمًا قطعي الثبوت والدلالة أو يخرج عن قواعد الاجتهاد المنضبطة كما في عدة أحكام لها، أبرزها: في (عام 96) .

ومِن هنا: تبنتْ "الدعوة السلفية" المطالبة بتفعيل "المادة الثانية"؛ لا سيما فيما يتعلق بالقوانين القديمة التي امتنعت المحكمة الدستورية من إبطالها، وقد كتب صاحب هذه السطور في ذلك تحت عنوان: "المادة الثانية من الدستور بين التفعيل والتعطيل".

إلا أن رافضي المادة الثانية كانوا قد لجأوا إلى آخر أوراقهم، وهي: "التفسير"؛ فَرَوَّجوا أن "المادة الثانية" لا تُلزِم المشرع إلا بقطعي الثبوت والدلالة فقط، وأن ما عداه من أحكام الشريعة يجوز للقوانين أن تخالفه ناسبين هذا إلى حكم المحكمة الدستورية (عام 96)! بل إنهم بدأوا في ترويج تفسير جديد لمبادئ الشريعة، وهي أنها: "الحرية - والعدالة - والمساواة!"؛ مما يفرغها تمامًا من معناها.

ولم يكن هذا الأمر بغريب على هؤلاء، ولكن الصدمة كانت في التيار الإسلامي ذاته الذي قَبِل بهذه التفسيرات أو بقريب منها مما كان سيفرغها تمامًا مِن معناها!

وهذا بيان لبعض هذه المواقف:

معنى المبادئ عند "جماعة الإخوان":

في تاريخ (26-3-2011م) نشر موقع "إخوان أون لاين" مقالاً بعنوان: "المادة الثانية من الدستور بين الإلهاء والإلهام" قال فيه صاحبه كالمعتذر لخوضه في الكلام على المادة الثانية -وكان الأولى به أن يعتذر عن دفاعه عنها إلى ما بعد استفتاء 19 مارس- فقال: "ترددت كثيرًا في الكتابة عن المادة الثانية في الوقت الذي تشهد فيه مصر أعظم ثورة في تاريخها على الإطلاق، بل في تاريخ العالم أجمع، غير أنني حسمت ترددي حين وجدت الجدل حول المادة الثانية يتصاعد بشكل عبثي يبدو أنه يسعى إلى تحويلها إلى مصدر (إلهاء) لأبناء الوطن الذين توحدت دماؤهم في سبيل الدفاع عنه وحمايته على مدى التاريخ بصفة عامة، وأثناء هذه الثورة بصفة خاصة، بدلاً من أن تكون هذه المادة مصدر (إلهام) لهم".

ثم قال مبيِّنًا معنى مبادئ الشريعة عنده:

"ومبادئ الشريعة الإسلامية: أي كلياتها التي هي ليست محل خلاف بين الفقهاء، كما عرَّفها العلامة عبد الرزاق السنهوري، أول مَن وضع هذا المفهوم في النظام القانوني المصري، وبالتحديد في القانون المدني الذي صدر سنة (1947م)، والذي لا زال مطبقًا في مصر حتى الآن، وأنا أختاره هنا كتعريف أدق من ذلك الذي وضعته المحكمة الدستورية العليا في أحكامها بأنها الأحكام الشرعية "قطعية الثبوت والدلالة"، باعتبار أن مِن الشريعة ما يكون مستمدًا من طريق الاستقراء التام من طرائف نصوص الشريعة، مثل: (مقاصد الشريعة الإسلامية)".

والملاحظ هنا: أنه نَسبَ إلى المحكمة الدستورية أنها قصرت المبادئ على الأحكام ظنية الثبوت والدلالة، ثم اقترح بديلاً عنها: أن المبادئ هي (كليات الشريعة)، وكلاهما أفسد مِن الآخر!

ومن المعلوم: أنه مؤخرًا تم تداول مقطع مرئي لاجتماع مجلس شورى الإخوان يبدو أنه كان في فترة ما بعد الانتخابات البرلمانية وقبل الدستور، ومما دار فيه مطالبة الأستاذ "محمد حسين" بتغيير عبارة "مبادئ الشريعة الإسلامية" إلى "أحكام الشريعة الإسلامية" معللاً هذا بأن المبادئ غير منضبطة بينما الأحكام منضبطة، فرد عليه الدكتور "محمد مرسي" بأن المبادئ هي المنضبطة، ولها تعريف محدد هو أنها: "الأحكام قطعية الثبوت والدلالة" مختتمًا كلامه بقوله: "وهذا ما نريده!".

ومسألة أن الملزِم من الشريعة هو قطعي الثبوت والدلالة، وأن ما عداه يقبل فيه الخلاف (هكذا بإطلاق) هو مِن الأمور المستقرة في فكر "جماعة الإخوان".

كما عبَّر عن ذلك الأستاذ "جمعة أمين" في مقال له بعنوان: "خلاف في ظلال الحب في الله" -نشرته بوابة الحرية والعدالة في عام (2013م)، ولكنها تعبِّر بلا شك عن فكر مستقر- قال فيه: "ولأجل تضييق هُوة الخلاف بين الأفراد قرر الشرع أن هناك دوائر أو مجالات لا يجوز الاختلاف حولها؛ لأنها من ثوابت هذا الدين ومرتكزاته، وتتمثل -إجمالاً- في القطعيات الشرعية، ويُقصد بها ما كان قطعي الثبوت والدلالة".

ثم قال: "أما غير ما هو قطعي في الشرع فالاختلاف فيه واسع، وتنوع الأفكار والتصورات فيه وارد، وأكثر ما يكون هذا الاختلاف في "الفروع الفقهية"؛ وذلك لأن النصوص فيه -أي الفروع الفقهية- إما أن تكون ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة، وهو مجال رَحْب لأنْ يُعْمِل كل عالِم ومتخصصٍ فيه عقلَه وفق ضوابط خاصة؛ حتى لا يحصل الشطط والانحراف".

فإذا أضفتَ إلى هذا قبول "الإخوان" على كافة الأصعدة لمقترح "المبادئ الكلية" علمتَ مقدار الأزمة التي كنا نعاني منها، بل حتى بعد إضافة المادة (219) كان حاصل كلام الإخوان حولها أنها "تزيد لا بأس به".

معنى المبادئ عند "الجماعة الإسلامية":

ذكرنا -فيما مضى- أن ممثل الجماعة الإسلامية الأستاذ "عصام دربالة" في اجتماع "وثيقة الأزهر" قد أبدى تجاوبًا مع اعتراضاتنا، ثم عاد فوقـَّع على الوثيقة دونما إثبات تحفظات (وهو ما يمكن أن يَعكس درجة أهمية القضية عند الجماعة الإسلامية).

إلا أنه وفي ظل الطرح المقدَّم من "الدعوة السلفية" بحذف كلمة مبادئ أو وضع تفسير منضبط لها، كتب الأستاذ "سمير العركي" مقالاً في جريدة المصريون بتاريخ (12-11-2012م)، بعنوان: (تفسير "الدستورية" الرائع لمبادئ الشريعة!) شرح فيه حكم الدستورية (سنة 96)، ووصفه بالرائع كما في عنوان المقال!

وختم المقال بقوله: "هذا هو تفسير الدستورية سواء فيما هو قطعي وظني على حد سواء، لم تهدر فيه الشريعة كما قيل لنا على ألسنة كثير من الإسلاميين، بل على العكس جاء ليؤكد أهمية تفعيل المادة الثانية، وحثت على دوام الاجتهاد فيما يخص الأحكام الظنية على عكس الأحكام القطعية التي لا يجوز تجاوزها أو الاجتهاد معها أو تشريع قانون يصادمها.

وبعد... ألم يكن من الواجب على الإسلاميين قراءة هذا التفسير بتمهل وعناية ثم إصدار حكمهم بعد ذلك إما قبولاً وإما رفضًا؟! ولكن الواضح أنه لا أحد لديه الوقت الكافي ولا الرغبة في القراءة، وإلى الله المشتكى".

وقد أهمل الأستاذ "سمير" عدة أمور:

الأول: أن ذات الحكم يفسِّره البعض على أنه اكتفى بقطعي الثبوت والدلالة فقط، ومنهم رموز من الإخوان "فضلاً عن العالمانيين والكنيسة"؛ فكيف يمكن الاكتفاء بحمل فصيل آخر له على أنه يشمل القطعي والظني؟!

الثاني: أنه أدخل الكثير من القطعيات في باب الظنيات القابلة للاجتهاد، ومن أهمها: "الإجماع"؛ والذي يصبح قطعيًّا وإن استند إلى دليل ظني.

الثالث: أن هذا التفسير ذاته كان مرشحًا لأن يتغير؛ فحتى لو كان منضبطًا للزم تثبيته في الدستور كما اعترف هو بنفسه بعد إقرار المادة (219) بتاريخ (11-12-2013م) في مقال بعنوان: "التدافع الحضاري في مشروع الدستور"، نُشر بموقع الجماعة الإسلامية قال فيه:

"فالفريق العالماني كان يأمل أن يأتي مشروع الدستور الجديد فيما يخص الشريعة وأحكامها والتأكيد على الهوية الإسلامية للبلاد مطابقًا للدستور السابق بحيث تبقى مادة الشريعة جسدًا بلا روح، وكلمات فارغة بدون مضمون حقيقي ينعكس على أرض الواقع، وخاصة في إصلاح المنظومة التشريعية للبلاد بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية؛ لذا جاء تفسير المادة الثانية في مادة مستقلة صادمًا لهم حيث كانوا يأملون أن يبقى الحوار محصورًا في الحديث العائم عن المبادئ العامة للشريعة، مثل: العدل، والحرية، والمساواة - إلخ، ولكن هذا التفسير يعني الإصرار على تفعيل الشريعة الإسلامية في المجتمع المصري، وهو الأمر الذي يرفضه العالمانيون اتساقًا مع رؤيتهم الرامية إلى فصل الدين عن الحياة، مع اختلاف بينهم في درجات الفصل المشار إليه".

ومن الجدير بالذكر: أن الأستاذ "سمير" عاد في كتاباته الأخيرة ليؤكد أن "المادة الثانية" كانت كافية، وأنها لم تكن محل خلاف أصلاً، وأن "الدعوة السلفية" هي مَن أحدثت الأزمة (يعني أن العالمانيين لم يكونوا يريدون الانتقاص من المادة الثانية، ولكن لم تظهر عليهم العالمانية إلا بشان عزل د.مرسي!)... وهو كلام ينقض بعضه بعضًا.

موقف الإسلاميين من المادة (219):

بعد جولة من المفاوضات والمناظرات والمواجهات داخل الجمعية وخارجها تم التوافق على إضافة المادة (219) المفسِّرة لمبادئ الشريعة في مفاجأة غير متوقعة بالنسبة لتيار الجماعة الإسلامية، وقد ذكرنا مواقفه من "وثيقة الأزهر" والتي كانت في ذلك الوقت تتحدث عن "المبادئ الكلية"، ومِن وصف تفسير (96) بالرائع، ومِن عدم تضامنها معنا في هذا الموضوع لا داخل اللجنة ولا خارجها!

إلا أن الجميع قد فوجئ بالمهندس "عاصم عبد الماجد" وبعض أنصار الشيخ "حازم" ينظمون مليونية "الشريعة"؛ رفضًا لمشروع دستور (2012م)، ويطالبون بأن تكون نص المادة الثانية: "أحكام الشريعة الإسلامية"، وأن تعتبر مادة فوق دستورية، وألقى المهندس "عاصم عبد الماجد" خطبًا عصماء في خيانة الإخوان والسلفيين للشريعة بهذا الدستور، ثم انتهى الأمر بموافقة الجماعة الإسلامية على مشروع الدستور دون أن تنقد موقف المهندس "عاصم" أو تبيِّن لنا: هل هي تعديلات مقبولة شرعًا أم أنها تمثِّل خيانة لله ورسوله؟! وإذا كانت خيانة فكيف قبلوا ما هو دونها بكثير قبل ذلك، ثم كيف قبلوها ذاتها؟!

واستمرارًا لموقف الإخوان من أن المادة الثانية كافية ولو مع تفسير المبادئ بقطعي الثبوت والدلالة نَشر موقع البحيرة أون لاين مقالاً بعنوان: "الإخوان المسلمون والدعوة السلفية... هل تخلوا عن الشريعة؟" يعلِّق فيه على مليونية المهندس "عاصم عبد الماجد"، جاء فيه: "الموضوع يبدأ من دستور (71)، فهذه المادة موجودة بهذا الدستور، وحينما أرادوا أن يطبقوها أرسلوا للمحكمة الدستورية العليا لكي تفسر اللفظ المبهم بهذه المادة وهو لفظ المبادئ، فأجابت المحكمة الدستورية أن المبادئ هي الأحكام قطعية الثبوت قطعية الدلالة. الجمعية التأسيسية لكي تخرج من هذا المأزق ولئلا ترسل المادة مرة أخرى للدستورية العليا وضعوا مادة مفسرة لهذه المادة تنص على: (مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة)، وبهذه المادة من وجهة نظري حسم الجدال القائم بين التيارات الإسلامية".

ثم قال: "فلمَ كل هذا التخوف؟! أنا من وجهة نظري أنه حتى وإن بقيت المادة كما هي ولم يوضع لها تفسير، وذهبت للدستورية وفسرتها كما فسرتها مِن قبْل؛ فالأمر محسوم... الأمر يا سادة في المقام الأول يخص المشرِّع "الذي يضع القانون"، إن كان المشرع يريد تطبيق الشريعة سيسن قانونًا يحتوي علي هذه الأحكام، والدستور لا يجب أن يكون مفصلاً، بل هو إطار عام يجب أن تكون المواد قليلة الألفاظ والتفاصيل تكون في القانون... والأهم يا سادة ليس معركة الدستور هذه، وإنما هو مجلس الشعب القادم الذي يشرِّع القوانين!".

ثم قال: "والإطار الثاني: أنهم يرفضون مادة واحدة فقط في الدستور، وهي استمرار الرئيس الحالي حتى انتهاء ولايته... أفيقوا قبل أن تجدوا أنفسكم مرفوضين من الأغلبية الصامتة".

كلمة في نهاية المطاف:

الحاصل أن مَن أبدى موافقة على عبارة "المبادئ الكلية"، ومِن قَبِل أن تكون المبادئ هي "قطعي الثبوت و الدلالة"، أو مَن كانت أسمى أمانيه أن يكون تعريفها هو: "الكليات"، أو مَن كان يرى أن حكم المحكمة الدستورية سنة (96) حكمًا رائعًا - كيف يمكن أن يرى أن ضم حكم (85) إلى حكم (96) إلى حكم آخر يُلزِم بالإجماع؛ هو نوع من التنازل والتراجع و... ؟!

في الواقع: إن موقف هذه التيارات من "المادة الثانية"، والمعارك التي تركوا "الدعوة السلفية" تخوضها منفردة دفاعًا عنها؛ ابتداءً ثم تثبيتًا لتفسير منضبط لها ثانيًا، وفي كل مرة يكون الطعن واللمز والتثبيط؛ حتى إذا حصل المقصود -بفضل الله وكرمه- قالوا ما حاصله: "أتعبتم أنفسكم في غير متعب!".

كل هذا... و"الدعوة السلفية" تحترم اجتهاداتهم، ولم تطعن يومًا في أنهم باعوا الدين أو نحو ذلك! فلما جاءت "الدعوة السلفية" في تعديلات الدستور ورأتْ أن تقييد المحكمة بمجموع أحكام المحكمة الدستورية يغني عن المادة (219) فوجئنا بمن سبق منه كل هذه المواقف يقف موقفًا لم يقفه يوم أن كان في المشهد ورأى أن الأمر لا يستحق كل هذا العناء!

وأظن أن هذا القدر كافٍ لكي يتدبر هؤلاء الإخوة مواقفهم من الطعن في "الدعوة السلفية".

وأما عن رؤيتنا نحن لهذه الأحكام، ولماذا قبلناها؟

فهذا موضوع مقالة أخرى -بإذن الله تعالى-.