كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد لعب النظام السابق دورًا كبيرًا في القطيعة بين معظم التيارات المختلفة في مصر على طريقة "فرِّق تسد"، وذلك برفع التكلفة الأمنية لأي حوار أو تقارب، والذي كان عادة ما يُواجه بعقاب أمني مبالغ فيه، وكنتُ وما زلتُ أذكر كيف أن آخر عهد لي بأمن الدولة كان عقوبة على مقالتين إحداهما كانت بعنوان: "نصائح بعد الانتخابات: لا تحزن، لا تشمت، لا تتوقف" أواسي بها الإخوان على إهدار جهودهم الانتخابية عن طريق التزوير الفاضح، وأما الأخرى فكانت بعنوان: "عنف الإسلاميين الذي كان وعنف غيرهم المستمر" -وبالمناسبة هذا العنوان يحتاج إلى أن يكتب تحته عشرات المقالات الآن-.
وكان قد سبق هذين المقالين آخر بعنوان: "حدوتة الجماعة... هل مِن جديد؟!" وهو: -كما يتضح من عنوانه- رد على "مسلسل الجماعة" الذي أرخ فيه كاتبه لتاريخ الأستاذ "حسن البنا" -من الزاوية التي يراها طبعًا- ومعرجًا على تاريخ جماعة الإخوان المسلمين ابتداءً من عصر المؤسس وانتهاء بواقعة عُرفت حينها بواقعة "ميليشيات الأزهر"، والتي يحار العقل في تفسير موقف البعض الذي انزعج حينها غاية الانزعاج من هذا العرض في حين يرى أن ظاهرة "البلاك بلوك" ظاهرة طبيعية جدًّا رغم عدوانيتها ودمويتها وتعطيلها لمصالح الناس، وإرهابها للمواطنين الذين يزعمون الدفاع عن حقوقهم في المترو وفي غيره من المرافق وهي أمور خلت منها جميعًا واقعة طلبة الإخوان في الأزهر!
لقد انزعج الأمن حينها من مقالات محدودة الانتشار أخاطب بها الإخوة السلفيين في الأعم الأغلب من خلال موقع سلفي؛ لأنه وجد فيها تطبيقًا لمَ كنا نردده حينها من حسن إدارة الخلاف بين الجماعات الإسلامية؛ لأننا يصعب بل يستحيل أن نصل إلى إجماع في كل القضايا، فلم يبقَ إلا مراعاة أدب الخلاف وفقهه، وللشيخ "ياسر برهامي" بحث في ذلك بعنوان: "فقه الخلاف"، ويتوفر على الإنترنت شرح صوتي لهذا البحث للشيخ نفسه وآخر لي.
الحاصل -حتى لا نستهلك وقتًا طويلاً في تلك النقطة-: أنه كان هناك خلاف بين جميع الفصائل حتى الإسلامية منها دون أن تتاح الفرصة الكافية -لا سيما في أوساط الشباب- للتعرف على حقيقة هذا الخلاف وجذوره، وجاءت ثورة "خمسة وعشرين يناير" لكي تصفُّ المصريين جميعًا خلف هدف واحد مشترك هو إسقاط النظام، ومِن ثَمَّ تلاشت الخلافات بين الجميع حتى بين الإسلاميين وغير الإسلاميين.
وبعد سقوط النظام كان لابد لكل طرف أن يدافع عن رايته، وأن يحشد الجهود في اتجاه بناء مصر بالطريقة التي يراها أفضل، والأمر هنا يخرج عن إطار الجدل النظري أو على الأقل الجدل الذي ينتهي إلى أن يتبنى كل فصيل إصلاحي أو حزب سياسي رؤيته الخاصة، بل الأمر هنا يتعلق برؤية عامة ينبغي أن تطبق في المجتمع.
ورغم وجود آلية متفق عليها نظريًّا بين الجميع عند الاختلاف وهي اللجوء إلى الصندوق إلا أن التيار العالماني حاول الانقلاب مبكرًا على هذه الآلية عبر طرحه لوثائق فوق دستورية تتبنى رؤيته الخاصة بشكل الدولة وموضع الدين منها؛ مما أوجد حالة من الاستقطاب بين المعسكر الإسلامي والمعسكر العالماني "أو المدني كما يحب أن يسمى نفسه".
وفي ظل هذا الاستقطاب تلاشت أيضًا الفروق بين الاتجاهات الإسلامية وتوحدت أكثر، وتمت عدة فاعليات مشتركة من أهمها المليونيات الحاشدة: "29-7-2011م"، و"1-12-2012م"، كما حدث احتشاد خلف الرئيس "محمد مرسي" في انتخابات الإعادة وفي الاستفتاء الدستوري في 19 مارس 2011م، وكذلك في الاستفتاء على دستور 2012م.
وبين هذا لم يحدث حالة خلاف تذكر داخل الحركة الإسلامية إلا الانقسام بشأن المرشح الرئاسي في الجولة الأولى حيث كان للإخوان مرشحهم في حين فضلت "الدعوة السلفية" و"الجماعة الإسلامية" دعم مرشح "إخواني سابق" من باب أن عدم الانتماء التنظيمي قد يعطيه فرصة قبول أفضل لدى التيار المدني، وهي الحالة التي شهدت خروجًا عن النص من بعض الرموز الذين تجاوزوا الرد الموضوعي حول وجهة نظرهم في الخلاف إلى الطعن والتجريح "وبأثر رجعي" في أناس كانوا معهم كتفًا بكتف قبلها بأيام قليلة إلا أن هذه الحالة سرعان ما زالت بتمخض الانتخابات عن الإعادة بين الدكتور "مرسي" والفريق "شفيق"؛ مما وحد الإسلاميين خلف الدكتور "مرسي"، وعاد الخارجون عن النص إلى سابق عهدهم وأثنوا على إخوانهم "وبأثر رجعي أيضًا".
ثم جاءت محاولات إسقاط شرعية الرئيس "مرسي" وهي المحاولات التي استنفرت الإسلاميين ليخرجوا في أكبر مليونية ليس في عمر الثورة فحسب، بل في الخمس عشرة سنة الأخيرة في العالم كله وفق تقديرات الـ "سي . إن . إن".
وانتهت تلك المرحلة بإقرار الدستور والذي كان شعار الإخوان في الترويج له بـ"الدستور العجلة تدور"، وبطبيعة الحال وجدت بعض القوى نفسها خارج حسابات الحكم في مرحلة ما بعد الثورة؛ مما دفعهم إلى محاولة استنساخ ثورة جديدة "سلمية هي الأخرى"، ولكنها "سلمية" من باب تسمية الخمر "مشروبات روحية" وغيرها من الحيل اللفظية، "سلمية" تذكرنا بحروب اليهود التي خاضوها تحت مسمى: تحقيق السلام!
- "سلمية" لا بأس فيها ببعض المولوتوف، وكثير من التحرش تزداد حدته أحيانًا فينقلب اغتصابًا!
- هي "سلمية" نعم... ولكنها تهدد الموظفين العموميين إذا ما قاموا بأعمالهم بالويل والثبور وعظائم الأمور... !
المهم أنه جرى ويجري محاولات دءوبة لإعادة إنتاج تلك الثورة، وهنا حدث خلاف في التعامل مع هذه المعضلة:
- هل يوجد في أداء الحكومة خلل استغله البعض أم أنه لا يوجد أدنى خلل؟
- وهل إذا وجد خلل مستثمَر: هل الواجب إزالة الخلل قطعًا للألسنة أم يكفي القول بأن الخصم يغالي في تقدير الخطأ لأغراض سياسية؟
- هل يمكن لمن في الحكم أن يبدي بعض المرونة في المواقف وليست في المبادئ؟
كل هذه أسئلة تحتاج إلى حوار واع يؤصل الأصول الشرعية ويسقطها على الواقع ويُراعى فيه في النهاية أدب الخلاف إلا أن الحاصل أن كثيرًا من الشباب "وربما بعض الكبار للأسف" ربما ترك الموضوع وطوح بالحوار بعيدًا في الخلاف المنهجي وفي الخبرة السياسية، وربما على الطريق في النيات والأهداف والتاريخ وكل شيء غير النقاش في موضوع الخلاف الأصلي!
ولذلك قررت أن أخوض تلك التجربة وأطرح الأسئلة التي يطرحها بعض إخواننا من الإخوان، وهي بالطبع ليست أسئلة رسمية، وبالطبع لا يرغب كل الإخوان في طرحها على السلفيين، ولكن لا بأس بطرح كل ما يطرح والإجابة عنه؛ لعل هذا أن يساهم في أن يكون الحوار في أية مشكلة أخرى موضوعيًّا منصبًا على "موضوع الخلاف".
س: لماذا أسستم جماعة جديدة رغم أن الإخوان كانت قائمة بالفعل؟
ج: لو كان هذا المنطق سليمًا لتوجه هذا السؤال إلى الأستاذ "حسن البنا" -رحمه الله- والذي أسس جماعته يوم أسسها وفي مصر عدة جمعيات، منها:
1- أنصار السنة.
2- الجمعية الشرعية.
3- الشبان المسلمين، وغيرهن كثير...
فإن قال قائل: ولكنه وجد أن أسلوب عمل هذه الجمعيات لا يتماشى مع ما كان يراه من ضرورة التحرك في كل أوساط الشعب من أجل حشد الناس للالتفاف حول المشروع الإسلامي لا سيما بعد سقوط الخلافة.
قلنا: وهذا لا يمنع أن يوجد غيره ممن يرى أن هناك رؤية تكون من وجهة نظره جديرة بالتطبيق، ثم إذا استصحبنا الواقع فسنجد أن الجماعة الإسلامية في السبعينات قد نشأت في فترة وجود الإخوان في السجون وأن اختيار مؤسسي "المدرسة السلفية" عدم الانضمام إلى الإخوان تاركين باقي إخوانهم في الجماعة الإسلامية لينضموا هم للإخوان كان راجعًا إلى أنهم كانوا قد بدأوا بالفعل مشروعًا قائمًا على "التصفية والتربية"، وإن كانت على حساب الانتشار الجماهيري والذي طورته الجماعة تدريجيًّا عبر مراحل كان أبرزها: التحول من "المدرسة السلفية" إلى "الدعوة السلفية".
كما أن هناك دعاة فضلوا أن يمارسوا دورًا دعويًّا أقرب لما كان يمارسه جيل أساتذة الشيخ "محمد حامد الفقي" والأستاذ "حسن البنا" مؤسسي أنصار السنة والإخوان المسلمين، أعني جيل الأستاذ "محمد رشيد رضا" والأستاذ "محب الدين الخطيب"، فيوجد في عصرنا دعاة آثروا الحركة الفردية الدءوبة معظمهم من التيار السلفي مثل: الشيخ "محمد حسان" والشيخ "محمد حسين يعقوب"، وهؤلاء يتكاملون مع الجماعات العاملة، ولربما أدوا في بعض الأمور أدورًا لا يحسن القيام بها إلا هم.
س: إذا كان كذلك فيجب -على الأقل- أن يراعى الفروق في السبق الدعوي؟
ج: وهذا سؤال يحتاج إلى أن يرد عليه بسؤال وهو: هل تراعي جماعة الإخوان السبق الدعوي لجماعة أنصار السنة مثلاً؟ ثم في أي أمر سوف يراعى السبق الدعوي؟ هل يراعى في خلاف فقهي والحجة فيه قال الله، قال الرسول، قال الصحابة... وليس منها أن فلانًا أسبق كما يعلم الجميع؟
أم في خلاف واقعي قال في مثله القائل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر: "ليس هذا بمنزل، ولكن انزل ببئر بدر..." ثم أخذ يسوق الحجج "الواقعية" في وجهة نظره فأخذ بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
س: وما نقطة الخلاف الأبرز بين السلفيين والإخوان؟
ج: من الناحية المنهجية: قاعدة: "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه" وهي القاعدة الموسومة بقاعدة المنار الذهبية من كثرة ترديد الأستاذ "رشيد رضا" لها في المنار، وهي القاعدة التي توسع الأستاذ "البنا" فيها جدًّا، وهي قاعدة صحيحة في نطاق "الخلاف السائغ"، وأما في الأمور التي تخالف الأصول فيحتاج الأمر فيها إلى درجة إنكار أوضح وإلى تطهير الصف ممن يرى هذه الأقوال الشاذة وهذا ما تفعله جماعة الإخوان بشأن بعض البدع: كالتكفير مثلاً، بينما "وجد ويوجد من رموزها" من يطبق قاعدة الخلاف السائغ في غير موضوعها كالموقف من الشيعة عند بعض رموز الإخوان السابقين والحاليين.
من الناحية الدعوية: نتفق مع الإخوان في العمل بقوله -تعالى-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن:16)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (متفق عليه)، والمعبر عنه بالقاعدة الفقهية القائلة: "ما لا يُدرك كله لا يُترك جله"، ولكننا نختلف في لزوم بيان وجوب الجزء المتروك اضطرارًا وبيان أنه من الشريعة لولا الاضطرار، مثل: "موقف البعض من قضية القروض الربوية الأخيرة" ففرْق بين أن أدعي الاضطرار وبين أن أصف ما أجمع الفقهاء على أنه ربا -"الزيادة في القرض نظير الأجل"- بأنه غير ربوي.
بل حتى دعوى الاضطرار هذه قد يميل البعض إلى التسليم بها دونما مبرر حقيقي "وفي المثال نفسه هل توجد ضرورة لقرض من أجل تطوير البنية الأساسية في مدينة نصر مثلاً؟!".
س: ولكن المواقف الأخيرة للإخوان أكثر شدة من مواقف "الدعوة السلفية" حتى إن بعض الدعاة السلفيين الفرديين قد انحازوا لموقف الإخوان؟
ج: لابد هنا من التفريق بين المداهنة المحرمة المنهي عنها في قوله -تعالى-: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً) (الإسراء:74)، وفي قوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9)، وبين المداراة التي استعملها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع من وصفه بأنه بئس أخو العشيرة.
والفرق بين الأمرين:
أن المداهنة المحرمة هي: أن تتنازل عن شيء من "الدين" بلا "إكراه معتبر ولا مفسدة متحققة" من أجل مصلحة غالبًا ما تكون في "الدنيا".
وأما المداراة المباحة والتي قد تجب بحسب الأحوال فهي: أن تتنازل عن شيء "من الدنيا" من أجل مصلحة من "الدين" أو "الدنيا".
ولابد من مراعاة المآلات والمصالح والمفاسد، والتي من أجلها أمسك النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتل زنديق أظهر خبيئة قلبه وما فيه من كفر بقوله: "يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ!" وهي جريمة ردة تستوجب القتل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن أراد قتله: (مَعَاذَ اللهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي) (متفق عليه).
والذي نراه أن استبدال رجل بآخر في هذا المنصب أو ذاك هو مما توجبه السياسة الشرعية وأن مجال إدارة الدولة يحتاج صنوفًا من تلك المداراة أو من مراعاة فقه المآلات، ولا ندعي العصمة لما نرى، ولكن نطرحه على مائدة البحث والحوار.
ونرى أن "البعض" قد يبدي مرونة حيث يجب إبداء الصلابة، ويبدي الصلابة حيث يسع الكثير من المرونة! وهو أمر ربما احتجنا إلى العودة إلى تفصيله في مقال مستقل -إن شاء الله تعالى-.
س: ولكن "أمن الدولة" سمح لكم بالدعوة من أجل أن يضرب بكم الإخوان... !
ج: ملاحظة: صغت السؤال هنا بالصيغة الأكثر أدبًا؛ لأني أربأ بإخواني من استخدام الصيغة الأخرى التي تتضمن الفرية بغير بينة، بأنكم ما تحركتم في الدعوة إلا مساندة للأمن علينا!
وعلى أية حال فإن هذه الشبهة تتسرب إلى البعض كفرع على تصور أنه من غير المستساغ إنشاء جماعة بعد الإخوان، فكل من أنشأ جماعة بعدهم فلابد له من غرض أو على الأقل فهو ساذج مستعمل ممن له غرض، وبالتالي فإن إجابة السؤال الأول تصلح إجابة عن ذلك السؤال، وأيًّا ما كان الوضع فأريد أن أطرح سؤالاً: هل سمح الأمن للإخوان بالفوز بـ 88 مقعدًا في انتخابات 2005م؟ وبعبارة أخرى: هل كان يمكنه أن يمنع ذلك؟
الإجابة: أنه منع بالفعل في انتخابات 2010م.
إذن لماذا سمح أي ترك أصوات من صوتوا إلى الإخوان تذهب إليهم على الأقل في بعض الدوائر؟
الإجابة: أنه كانت هناك ضغوط وحركة في الشارع واحتقان وانتشار لدعوة الإخوان و... و...
إذن لماذا تستبعد أن يمتلك اتجاه آخر أدوات مشابهة تمنع الأمن من تتبعه ومنعه من كل شيء؟! علمًا بأن المجال الأبرز الذي يحتج به من يردد تلك العبارة هو الظهور في الفضائيات، وقد كان هذا الأمر محظورًا حظرًا تامًا على دعاة "الدعوة السلفية"، وإن سمح لشيوخ سلفيين أفاضل اضطر الأمن أيضًا بنفس النظرية للسماح لهم من باب الاستجابة للضغوط وخوفًا من تحول أتباعهم إلى العمل المنظم.
س: ولكنكم كنتم تقفون في وجه الإخوان في الانتخابات؟
ج: كانت لنا رؤية في عدم جدوى الاشتراك في الانتخابات كديكور سياسي وفقط؛ لا سيما مع التنازلات الشديدة التي كانت تُقدم في هذا الجانب "للأسف بعضها ما زال يتكرر حتى بعد الثورة، ولكن جاءت من عدد من الرموز قد لا يمثلون عددًا كبيرًا، ولكن المشكلة في أنهم يشغلون مناصب قيادية كبرى في حزب الحرية والعدالة".
وعلى أية حال رؤية مقاطعة الانتخابات كانت جماعة الإخوان تراها أحيانًا، وآخرها انتخابات الإعادة في 2010م، وحينها أغلظت الجماعة جدًّا على من خرق قرار الجماعة "وفي ذلك وقائع مشهورة".
وأما "الدعوة السلفية" فكانت تساند الإخوان في الانتخابات التي ترى مشروعيتها في الاتحادات الطلابية والنقابات، كما أنها كانت تنصح من لم يقتنع برؤيتها في مقاطعة الانتخابات البرلمانية أن يصوت للإخوان، وهذه الأمور مثبتة كتابة وصوتًا وصورة.
"لا أظن أنني في حاجة إلى تنبيه إخوة فضلاء أنه لا يمكن أن يؤخذ أحد بجريرة بعض الدعاة الذين يسمون بسلفية ولاة الأمور بينما يضعنا هؤلاء نحن والإخوان في خندق واحد هو خندق الخوارج على ولاة الأمر".
س: في حين أنكم دعوتم إلى طاعة "مبارك" ونعتموه بأنه ولي أمر نهيتم عن انتقاده ولكنكم تنتقدون الرئيس "مرسي" ولا تنعتونه بولاية الأمر؟
ج: لسنا من قلنا هذا الكلام في حق "مبارك"، وكلامنا في كفر الحاكم المبدل للشريعة معروف مشهور "ولكن كنا ننهى عن تكفير المعين".
وأما الرئيس "مرسي" فنراه ولي أمر بالمعنى اللغوي، ولكن عقده مختلف عن عقد الإمامة المذكور في كتب السياسة الشرعية فهو مقيد مكانًا ومدة، ومن جهة الصلاحيات، وغرضنا بهذا ألا ننسب إلى الرئيس ما لم ينسبه لنفسه؛ مما يوقع البعض في فتاوى توقع الرئيس في حرج وتضطره إلى التبرؤ منها والوقائع في ذلك مشهورة، وقد تبرأ من إحداها الدكتور "عبد الرحمن البر" في مقال نشره موقع "إخوان أون لاين" بعنوان: "هل المتظاهرون خوارج؟".
ونحن نقول: إنه رئيس إسلامي، ومِن ثَمَّ فتعرف صلاحياته وحقوقه وواجباته بمقتضى عقد الرئاسة، وكونه إسلاميًّا يوجب علينا النصرة الشاملة بمعناها الشرعي "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، فتؤيده في الحق وتنكر عليه الخطأ بصورة لا توغر صدور الناس عليه ولا تهز هيبته وتلك هي وصية الصديق ومن بعده الفاروق -رضي الله عنهما-، وبهما تأسى الرئيس فقال: "إن أصبت فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني"، وأظن أننا ما دام قد وعدنا الناس بالزمان الذي يقول فيه الحاكم ردًا على امرأة صوبت له خطأه: "أصابت امرأة وأخطأ عمر"، وقد تناولتُ هذا في مقالي السابق فراجعه، ولي مع هذا الموضوع عودة -إن شاء الله-.
ثم إن عامة ما صدر منا إلى الرئيس هو تنبيه إلى تقصير نراه من بعض من استعملهم، ومن يرى غير ذلك فهذا رأيه.
ومن الناحية السياسية: فإن شعور المواطن "غير المؤدلج" بأن الإسلاميين يجامل بعضهم بعضًا على حساب مصالح الناس أمر في غاية الخطورة على استقرار البلد جميعًا، ومِن ثَمَّ ففي إعلان النصيحة طمأنة للناس على أن هناك من يرفع مطالبهم، وهذا أمر يفعله كثير من رموز الإخوان أحيانًا.
س: ولكنكم لا خبرة لكم بشئون السياسة، وكان الأجدر بكم تركها للإخوان... !
ج: أولاً: مارس الإخوان سياسة المعارضة، بل والمعارضة المقهورة، وهذه لا تكسب صاحبها خبرات ذات بال في مجال الحكم، وقد أثرت تلك الثقافة في بعض رموز الإخوان في انتخابات مجلس الشعب الماضي فقال معترضًا على ترشح السلفيين: كيف يترشحون وهم لا يعرفون الفرق بين الاستجواب وبين طلب الإحاطة؟ وهي تصريحات مشهورة وبتحليلها تعرف طغيان ثقافة آليات المعارضة على قائلها!
ومن جهة أخرى: تعرف أن هذه المعرفة المشار إليها "يمكن للإنسان أن يتعلمها بمجرد مطالعة لائحة المجلس كما فعل كل من دخل المجلس لأول مرة".
وكنا نظن أن هذه الشبهة قد ولَّى أمرها، ولكن يبدو أن البعض يعتبرها من المسلَّمات أن السلفيين ليس لهم إلا في الدعوة "وبالمناسبة فإن البعض يطلق هذا على الإسلاميين ككل".
ثانيًا: إذا كان المقصود بالسياسة التنظير للنظم السياسية فاهتمام السلفيين بذلك قبل وبعد الثورة معروف ومشهور؛ لأن التعرض "للنظم الإسلامية" مقارنة بالنظم الوضعية جزء من المناهج في المعاهد العلمية التابعة للدعوة السلفية.
وأما إن كان المقصود هو فن "سياسة الأمور" فهو فن في المقام الأول تغذيه علوم، منها: التاريخ والجغرافيا، والاجتماع، والاقتصاد "وهي علوم مبذولة لمن طلبها"، وأظن أن كل اتجاه يملك بعض من يجيدون ابتكار عدة حلول للمشكلة الواحدة ويجيدون التحرك المرن حول محور ثابت من المبادئ والبعض يكون على النقيض من ذلك، وهناك من هو متوسط الحال بين هذا وذاك مما ينفي امتلاك حزب ما أو جماعة ما لـ"مفتاح عالم السياسة".
س: وماذا عن مبادرة "حزب النور"؟ وألا تعد تحالفًا مع جبهة الإنقاذ؟ وألا تعتبر إضعافًا للرئيس؟!
ج: ليست تحالفًا، بل حوارًا "ومن المشكل أن يأتي هذا الاعتراض ممن سبق له قبول التحالف!".
وليست إضعافا للرئيس استجابة لدعوته للحوار، ومساهمة في إنجاح حوار كرر الرئيس مرارًا أنه يريد نجاحه -وقد كتبتُ عن هذا الموضوع في المقالين السابقين فراجعه-، وإن كنت أظن أن قبول الرئيس لجعل هذه المبادرة محورًا للحوار يغني عن إعادة الكلام في هذه المسألة.
س: كيف يمكن لـ"حزب النور" أن يدعي أن الإخوان خالفوا الشريعة في قضية القروض الأخيرة رغم أنهم خدموا الشريعة لمدة 83 سنة وعُذبوا من أجلها؟
ج: أولاً: من ناحية الشرع: نذكركم بمن اعترض على ابن عباس -رضي الله عنهما- بأنه خالف في قوله في متعة الحج أبا بكر وعمر فقال: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقولون قال أبو بكر وعمر!".
ويقول مالك -رضي الله عنه-: "كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر" -يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ثانيًا: من ناحية السياسة: هذا الكلام أحد الأخطاء السياسية الكبرى حيث يعيد إلى الأذهان قصة "الضربة الجوية الأولى"؛ فليس من الحكمة مطلقًا لا سيما وأنت في موقع الحكم أن ترد على انتقاد ما بذكر إنجازاتك!
ثالثًا: إن هذا الكلام هو كلام الدكتور "محمد مرسي" عندما كان نائبًا برلمانيًّا، وهو كلام الشيخ "سيد عسكر" عندما عرض القرض على البرلمان في ظل حكومة "الجنزوري".
رابعاً: الضرورة منتفية هنا لا سيما أن القروض التي عرضت على مجلس الشورى لن تحل المشكلة، ثم إن "حزب النور" طالب بإعطاء مهلة لمناقشة مدى وجود ضرورة من عدمها فتمت إحالة الأمر إلى التصويت؛ ادعاءً بأنه ليس في الأمر شبهة أصلاً، بينما صورة الزيادة في القرض هي صورة الربا الذي لا يختلف عليه اثنان!
وأما ما ذُكر بأنه مصاريف إدارية فكان "حزب النور" قد عوَّل عليه عندما طرحت المسألة فور تولي الرئيس "مرسي"؛ إلا أن وزير المالية -حينها- خرج ليؤكد أن اتفاقية القرض منصوص فيها على المصاريف الإدارية وعلى الفائدة، وحينئذٍ تكون الفائدة ربًا محضًا مهما قلَّتْ نسبتها.
س: ولماذا طالب "حزب النور" بإحالة القرض إلى "هيئة كبار العلماء" رغم أن هذا غير دستوري؟
ج: من راجع مضابط الجمعية التأسيسية والجدل المثار حول المادة (4)، وجهود "حزب النور" فيها إلى أن خرجت المادة مطلقة تنص على: "يجب أخذ رأي هيئة كبار العلماء في كل ما يخص الشريعة الإسلامية"، وهو خطاب عام لكل من يمارس سلطة في الدولة أنه إذا وجد شبهة في حل أو حرمة القضية التي يتعرض لها أن يستطلع فيها رأي "هيئة كبار العلماء"، وقصر هذا الأمر على المحكمة الدستورية تَحكُّم يأباه اللفظ وترده مناقشات الجمعية التأسيسية.
وهذه المادة نحتاج إليها جدًّا خاصة إذا قُدِّر تحت أي ظرف من الظروف أن الأغلبية ليست من الإسلاميين "بغض النظر عن سنوات عمر أفرادهم وسنوات عمر تنظيماتهم"؛ ولذلك كنا نتمنى من الإخوة في "الحرية والعدالة" إن كانوا مطمئنين إلى شرعية موقفهم ألا يخدشوا مرجعية هذه المادة.
س: ......................................... ؟
ج: الظلم ظلمات يوم القيامة، ومن الظلم سوء الظن ومن أشده "البهتان"، وليكن سلاحنا جميعًا مع البواطن التي لا يعلمها إلا الله هو الدعاء.
فلنسأل الله جميعًا الإخلاص في القول والعمل، والسر والعلن، ثم نسأله -تعالى- أن مَن أراد عز الإسلام خالصًا من قلبه أن يجعل عز الإسلام على يديه، ومن أراد فسادًا أو إفسادًا أن يكفيناه الله بما شاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.