كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد استمر كتاب الأغاني لقرون ولأجيال مرجعًا لأهل الأخبار والروايات الأدبية والقصص والحكايات، والشعر وقصائد الغناء، وذاع صيته بين العرب والعجم؛ وذلك لكونه مَصْدرًا واسع الأرجاء غزير المادة كثير الأمثال، يلبي ويستوفي حاجة الكثيرين من طالبي الشعر والأدب والباحثين عن المتعة والتسلية والمؤانسة؛ فقد بذل كاتبه جهدًا كبيرًا حتى حشد وجمع في كتابه هذا -الذي بلغ بضعة وعشرين مجلدًا (24 مجلدًا)- كل ما هو متداول في عصره بين الناس من روايات أدبية وشعر وغناء وقصص وحكايات، حتى صار كتابه يغني عن غيره، وغيره لا يغني عنه، وصار له عشاق ومحبون عبر العصور.
وقد عمد الأصفهاني في كتابه إلى استقصاء كل خبر بجمع معظم رواياته؛ حرصًا منه على أن ينقل كل ما وصل إليه وعلمه، ليقدم للقراء عطاءً شاملًا في الأدب؛ لذا كان الكتاب ملاذًا لكل من يلجأ إليه من طالب الأدب والمتعة.
ورغم هذه المكانة التي بلغها كتاب الأغاني؛ إلا أنه يجب الانتباه إلى -والتحذير من- سقطات كاتبه وتجاوزاته بما رواه من مرويات وأخبار مكذوبة وموضوعة؛ خاصة في حق شخصيات وأفراد اتفق المؤرخون على حسن سيرتهم ونزاهتهم وهو على علم بحالها، بما يجر إلى مفاسد جمة وفساد مستطير، كفيلة بسقوط مكانة الكتاب من نفوس الأدباء، وضعف ثقة العلماء فيه، ويوجب عليهم التحذير من سقطاته وفلتاته.
ونظرًا لضخامة الكتاب، فسنقتصر على ذكر بعض تجاوزات الأصفهاني في حق بعض الصحابة وأهل البيت وفي حق بعض الخلفاء، الذين يعد تشويه سيرتهم أو التشنيع عليهم من تشويه تاريخ الأمة.
تجاوزات في حق جيل الصحابة:
لم يسلم جيل الصحابة -رضي الله عنهم- من تجاوزات كتاب الأغاني، ومنهم:
تجاوز في حق حسان بن ثابت -رضي الله عنه-:
ذكر أبو الفرج في الأغاني بسنده أن حسان بن ثابت -رضي الله عنه- حضر مأدبة في آل نبيط (بني نبيط)، فلما فرغوا من الطعام أتوا بجاريتين، إحداهما تسمى: (رائقة)، والأخرى تسمى: (عزة)، فجلستا وأخذتا مزهريهما، وضربتا ضرْبًا عجيبًا غنتا بشعر لحسان، فدمعت عيناه، فكان إذا سكتتا سكت عن البكاء، وإذا غنتا بكى. وهذا الخبر يبين (أن هذا الصحابي الجليل لم يكن مُلْتَزِمًا ذلك الالتزام الذي يبعده عن مجالس الهوى. فيظهر لنا في هذا الخبر متسامحا بعض الشيء بمجالس الهوى)، (فكيف يستقيم لنا أن مثل هذا الصحابي الذي أيده الله بروح القدس -جبريل- أن يرتاد في أواخر حياته مجالس اللهو والسمر، وينصت إلى غناء المغنيات، ويسترسل في جلوسه وهو يسمع الغناء، ويتأثر بأصوات المغنيات حتى تذرف عيناه؛ مثل هذا الخبر لا يليق بقدر هذا الصحابي الجليل) (ينظر: جولة في آفاق الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، تأليف نذير محمد مكتبي - ط. دار البشائر الإسلامية - بيروت - ط. أولى 1410 هجريا - 1990م، 83 - 85 بتصرف). والخبر في سنده (الواقدي) وهو متفق على ضعفه، متروك الحديث، ليس بثقة، بل هو كذاب عند بعض أئمة الحديث. (فلا ريب في أن تضعيف هذا الخبر من حيث سنده ووروده مؤذن برده، واحتمال كونه من أكاذيب الواقدي التي تسربت إلى أبي الفرج وغيره من كتب الأخبار والسير) (راجع المصدر السابق، ص 85 - 86).
تجاوز في حق عمر بن الخطاب:
أورد أبو الفرج في الصفحة الرابعة من الجزء الرابع عشر من كتاب الأغاني أنه لما أسلم جبلة بن الأيهم الغساني، وكان من ملوك آل جفنة، كتب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يستأذنه في القدوم عليه، فأذن له عمر، فخرج إليه في خمس مائة من أهل بيته، حتى إذا كان على مرحلتين كتب إلى عمر يعلمه بقدومه، فسر عمر، وأمر الناس باستقباله، وبعث إليه بأنزال. وأمر جبلة مائتي رجل من أصحابه فلبسوا السلاح والحرير، وركبوا الخيول معقودة أذنابها، وألبسوها قلائد الذهب والفضة، ولبس (جبلة) تاجه، ودخل المدينة، فلم يبق بها بكر ولا عانس إلا تبرجت، وخرجت تنظر إليه وإلى زيه، فلما انتهى إلى عمر رحب به وألطفه وأدنى مجلسه... إلى آخر الخبر.
و(نحن لا نستغرب أن يأمر خليفة المسلمين عمر الناس بالخروج لاستقبال جبلة بن الأيهم؛ وذلك تأليفا وطمعا في إيمانه، فهو ملك، وقد روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أنزلوا الناس منازلهم"، ولكن نستغرب أن تخرج النساء متزينات لاستقباله مع الرجال، ويزيدنا غرابة: أن يختار راوي الخبر من النساء البكر والعانس، فهن اللواتي أخذن كامل الزينة وخرجن لينظرن إلى جبلة، ويتأملن زيه!)، ونستغرب في عهد عمر بن الخطاب أن تخرج النساء ذلك الخروج الذي تجاوزن فيه حدود آداب الدين الحنيف، ولا تتحرجن من الاختلاط وهن متبرجات، وإذا قرأنا سيرة عمر في خلافته ومدى تطبيقه لتعاليم الدين وتنفيذه لأحكام شريعة الله، نستبعد صحة هذا الخبر.
(ولنا في خبر نصر بن حجاج شاهد على ما نقول، فقد جاء من أمره أنه كان جميلًا ذا فتنة في وجهه، فقالت إحدى نساء المدينة:
يا ليت شعري عن نفسي أزاهقة مني ولم أقض ما فيها من الحاج؟
هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم من سبـيـل إلى نـصـر بن حجاج
وسمع البيتين أمير المؤمنين عمر، فقال: لا أرى رجلًا في المدينة تهتف به العواتق في خدورهن، وطلبه فجاء، فأمر به فحلق شعر رأسه، ثم نفاه إلى البصرة)، (ولما قتل عمر -رضي الله عنه- عاد نصر إلى المدينة)، (فنفي رجل من المدينة لا ذنب له إلا أنه جميل الوجه، ولكن جماله يفتن النساء، دليل قاطع على رفض كل خبر يقول بظهور التفلت والتبرج على الرغم من شدة أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه-) (راجع المصدر السابق، ص 86 - 91 بتصرف).
تجاوز في حق ابنة الحسين:
أورد الأصفهاني في الأغاني خبَرًا عن تحاكم السيدة سكينة بنت الحسين -رضي الله عنهما- من أهل البيت وضرتها عائشة بنت طلحة إلى الشاعر عمر بن أبي ربيعة، إذ طلبتا منه أن يقضي بينهما أيتهما أجمل! و(لا نتصور امرأة كسكينة بنت الحسين المشهود لها بالصلاح والعلم، وحسن الأخلاق وسلامة الدين يمكن أن تتصرف كهذا التصرف المتهتك!)؛ خاصة وأن عمر بن أبي ربيعة -كما هو معروف عنه- شاعر متهتك.
قال ابن خلكان في الجزء الثالث من كتابه وفيات الأعيان في ترجمة عمر بن أبي ربيعة: (وهو كثير الغزل والنوادر والوقائع والمجون والخلاعة، وله في ذلك حكايات مشهورة)، فـ(نجد من الواجب علينا أن ننزه السيدة سكينة بنت الحسين عن مثل هذا الخبر الشنيع المسقط لقدرها، والمحطم لمنزلتها في ميزان الفضليات من النساء). ويزيد من تضعيف الخبر وجود مجهول في سنده، ففي السند: (قال الزبير: وحدثني عمي، عن ابن الماجشون، قال: ... ثم ذكر الخبر)، (و(لا ننكر الثقة بالزبير بن بكار ولا بابن الماجشون، ولكن جهلنا بعم الزبير، وعدم معرفتنا اسمه وجهلنا بحقيقته تجعلنا لا نثق بهذا الخبر ونقول بضعفه) (راجع المصدر السابق، ص 103 - 106).
تجاوزات في حق الخلفاء العباسيين:
تجاوز في حق الخليفة العباسي المهدي:
أورد الأصفهاني في الصفحة 142 من الجزء الخامس من الأغاني بسنده أن الخليفة المهدي أعطى دحمان في ليلة واحدة خمسين ألف دينار، وذلك أن دحمان غنى له من شعر الأحوص ما أعجبه وطرب له. والمعروف من سيرة المهدي ملاحقة المتعهرين والإصغاء إلى مواعظ الصالحين من أمثال مالك بن دينار -رحمه الله-؛ فكيف يصدر عنه هذا التبديد الفاحش والتبذير الضخم من أموال الأمة المؤتمن عليها في سبيل أغنية سمعها من مغن أعجبه صوته أو ألحانه. (راجع المصدر السابق، ص 8 - 9).
تجاوزات في حق الخليفة هارون الرشيد:
أورد الأصفهاني في صفحة 88 من الجزء التاسع من كتاب الأغاني أن الخليفة هارون الرشيد بن المهدي طرب ذات يوم لغناء الجواري له بقصيدة غزلية، فأمر بألا يبقى في بيت المال درهم إلا نثر، فكان مبلغ ما نثر يومئذ ستة آلاف ألف درهم، وما سمع بمثل ذلك اليوم قط.
فهل يستقيم لعاقل أن يصدق هذا الخبر الذي يظهر فيه خليفة المسلمين هارون الرشيد يبذخ كل هذا البذخ مستهترا بأموال الخلافة إلى هذا الحد، فينثر كل ما في بيت مال المسلمين جملة واحدة وفي يوم واحد على حاشيته وندمائه؛ لأنه طرب لغناء جواريه بقصيدة غزلية. (راجع المصدر السابق، ص 9 - 11).
وأورد الأصفهاني في الصفحة 159 من الجزء الثالث من الأغاني خبَرًا مفاده أنه جبي لهارون الرشيد مال عظيم من بقايا الخراج، فأمر بصرفه كله إلى بعض جواريه حتى استعظم الناس ذلك وتحدثوا به، وهذا ينافي ما عرف عن الرشيد؛ فكيف يبدد مال الأمة في مثل هذا البذخ؟!
ويزيد من رد هذا الخبر قول الأصفهاني في مطلع سند الخبر: (ونسخت من كتاب هارون بن علي)، وعلماء الإسناد يحكمون بضعف مثل هذا الخبر (لأن النسخ من الكتب) -كتب الوراقين في زمانهم- (ليس دليلًا على يقين العلم، بل هو دليل على الوهن والضعف؛ ذلك أن الكتاب قد يطرأ عليه تحريف وتبديل في عبارة أو جملة، أو يتعرض إلى زيادة كلمة أو نقص أخرى أو غموض عبارة أو انطماس حرف، ويرجع هذا إما إلى عامل الزمن المؤثر في ورق الكتاب، وإما إلى غفلة الناسخ وسهوه عن جملة أو سطر كامل، أو غفلة للمؤلف نفسه)؛ (لهذا فإن من اعتمد الكتب فنقل منها وأعرض عن التلقي قراءة أو سماعًا من العلماء ضعفت الثقة بعلمه ونقله، لما قدمناه من أسباب، وأنه لا يزيد على أن يكون وراقا يقرأ كل ما يصل إليه دون أن يميز الخبيث من الطيب).
(وعندما تناول علماء مصطلح الحديث ودرسوا الأسانيد وموضوع الرواية عن طريق الوجادة والنسخ من الكتب، قيدوا صحة النقل من هذه الطريق بقيود، ووضعوا لها بعض الشروط والحدود التي تستوجب الثقة بالمنقول، والاطمئنان إلى العلم به، فقالوا: وإذا نقل شيئًا من تصنيف فلا يقل: (قال فلان) بصيغة الجزم؛ إلا إذا وثق بصحة النسخة بأن قوبلت على أصل المصنف أو على نسخة مقابلة بالأصل، فإن لم يكن شيء من ذلك فليقل: بلغني عن فلان، أو وجدت في نسخة من كتابه، ونحو ذلك بدون جزم. قال النووي -رحمه الله-: (وتسامح أكثر الناس في هذه الأعصار بالجزم في ذلك من غير تحر، والصواب ما ذكرناه. فإن كان المطلع متقنا لا يخفى عليه الساقط أو المغير، رجونا جواز الجزم له، وإلى هذا استروح كثير من المصنفين في نقلهم).
وننبه هنا إلى أن عملية الطباعة في زماننا أكثر دقة وإحكاما مما كان عليه نسخ الوراقين في الماضي، فهم (كانوا يعتمدون على النسخ باليد، التي تتعرض إلى التعب والقلق والشرود أحيانًا، والتأثر بالمؤثرات والعوامل الخارجية أو الداخلية النفسية بالنسبة للناسخ. ومهما كان الناسخ دقيقا فإنه إذا لم يراجع ما نسخه مرات ويقابله بالأصل يبقى في حيز احتمال الثقة فيما نقل لا في يقينها. وأما الطباعة فهي وسيلة دقيقة ومضمونة في نسخ الكتاب، ولا تخضع للأعراض المؤثرات التي تتعرض لها نفس الناسخ، إضافة إلى أن النسخة المطبوعة تخضع لعملية تمحيص وتهذيب وتنقيح عدة مرات قبل أن يستقر تمام عملية الطبع وإصدار النسخ. وهذا ما يسمى بالتصحيح)، (نعم قد تقع بعض الأخطاء المطبعية في الكتاب المطبوع، ولكن هذه الأخطاء ليست بشيء إذا ما قيست بتلك الأخطاء التي كان يقع فيها الناسخون، ثم يتناقلها من بعدهم لتثبت في الأصل كجزء منه، كما أن الخطأ المطبعي يصحح في تعدد الطبعات؛ إذ يرجع في كل طبعة إلى نسخ الأصول، ويقابل فيما بينها، أما هناك فالأمر يختلف؛ إذ يبقى الخطأ نفسه مستمرا في بقية النسخ التي تأتي تباعا؛ لأنها تعتمد على النسخة التي وقع فيها الخطأ) (راجع المصدر السابق، ص 11 - 17).
وذكر الأصفهاني في صفحة 80 من الجزء الخامس عشر من كتابه أن الرشيد وهب لوصيفه (حمويه) جارية اسمها (ذات الخال) وكان قد اشتراها بسبعين ألف درهم، فلما اشتاق بعد فترة من جديد لسماع غنائها، ذهب إليها عند وصيفه، فاشترى جواهر قيمتها اثنا عشر ألف دينار ووهبها لها، وحلف ألا تسأله في يومه حاجة إلا قضاها، فسألته أن يولي وصيفه (حمويه) الحرب والخراج بفارس سبع سنين، ففعل ذلك، وكتب له عهْدًا بذلك.
فـ(في هذا الخبر لا يبدو الرشيد مبذرًا للمال فحسب، بل إنه يبدو مستهترًا بوظائف الدولة، فيجعل المناصب خاضعة لرأي الجواري وشهواتهن). (ولكن التاريخ أخبرنا أن الرشيد ثبت سلطانه قويًّا في الخلافة مدة يعتبرها المؤرخون من أبرز عهود الخلافة الإسلامية تقدمًا ورقيًّا وازدهارًا، إذ غدا عصر الرشيد العصر الذهبي في تاريخ العرب والمسلمين) (راجع المصدر السابق، ص 17 - 19).
دفاع واجب عن هارون الرشيد:
لقد كانت مجالس هارون الرشيد تضم كبار الفقهاء والقراء والأدباء والشعراء واللغويين، وتجري فيها المباحثات والمناقشات العلمية، وكان الرشيد يصغي إليها بعقل راجح ورأي سديد وذكاء مرهف. وكان يحسن رعاية العلماء والفقهاء واللغويين، فظهر في عهده علماء أجلاء من أمثال الشافعي والقاضي أبي يوسف والكسائي والأصمعي -رحمهم الله- وغيرهم من فحول العلماء. وكان كثير الصلاة وتعلم الحديث، وقد روى عددًا من الأحاديث النبوية، وكان كثير الصلاة والحج والجهاد، فكان يحج عامًا ويغزو عامًا، ويتتبع أثر الوعاظ: كالفضيل بن عياض وابن السماك -رحمهما الله- وغيرهما، فيصغي إليهم بعين دامعة، فمن كان هذا حاله وتلك محامده وهذه تلك إدارته للدولة، فكيف ينكب على الدنيا وشهواتها ويستهين بحدود الدين.
قال ابن خلدون في مقدمته دفاعًا عن هارون الرشيد: (وأين هذا من حال الرشيد وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة، وما كان عليه من صحبة العلماء والأولياء ومحاوراته للفضيل بن عياض وابن السماك والعمري -رحمهم الله-، ومكاتبته سفيان الثوري -رحمه الله-، وبكائه من مواعظهم، ودعائه بمكة في طوافه، وما كان عليه من العبادة والمحافظة على أوقات الصلوات وشهود الصبح لأول وقتها)، وهو الذي أشار على الإمام مالك -رحمه الله- بتأليف كتاب (الموطأ). و(حكى الطبري -رحمه الله- وغيره أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة، وكان يغزو عامًا ويحج عامًا). (ولقد ثبت عنه أنه عهد بحبس أبي نواس لما بلغه من انهماكه في المعاقرة حتى تاب وأقلع) (راجع المصدر السابق، ص 55 - 58 نقْلًا عن ابن خلدون في مقدمته بتصرف).
وقال ابن خلدون أيضًا في دفاعه عن الرشيد بشأن الخمر: (إنما كان النبيذ، ولم يكن محظورًا عندهم، وأما السكر فليس من شأنهم). والنبيذ: هو أن يؤخذ شيء من الزبيب أو التمر ويطرح في ماء، ثم يترك مدة فيتحلل ويذوب في الماء، فإن غلى وقذف بالزبد صار مسكرًا، وإلا فيبقى شرابًا عاديًا لا أثر له مسكرًا.
قال ابن خلدون: (وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق وفتاويهم فيها معروفة، وأما الخمر فلا سبيل إلى اتهامه بها، ولا تقليد الأخبار الواهية منها) (المصدر السابق، ص 73، نقْلًا عن ابن خلدون). وجاء في كتاب الأشربة لابن قتيبة: (وأما النبيذ فاختلفوا في معناه، فقال قوم: هو ماء الزبيب وماء التمر من قبل أن يغليا) (المصدر السابق، ص 73).
(وإن كان قد وردت بعض الأخبار الصحيحة في حبه للغناء واللهو فهي مبالغ فيها، ولا تمثل الواقع الصحيح لحياة الرشيد) (المصدر السابق، ص 24).
وبالجملة: (أيمكن لشهوات الحياة وزينة الدنيا إذا انفتحت على إنسان فأقبل عليها شغفًا، أن تصنع منه عالمًا فذًّا وفارسًا بطلًا وعابدًا صالحًا؟!)، (والدين لم يحرم على الإنسان التمتع بزينة الحياة الدنيا ما دام لا يتعدى بذلك حدود الله ويخالف آداب الدين الحنيف؛ فإن اتهم بعض خلفاء بني أمية وبني العباس بالتمتع بالجواري الروميات وغيرهن فالدين لم يحرم ذلك، بل أباحه؛ لقوله -تعالى-: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (النساء: 3)، (وإن اتُّهِمُوا بالأكل والشُّرب من الطيب اللذيذ والفاخر الجميل فقد أباح الدِّينُ ذلك؛ لقوله -تعالى-: (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) (البقرة: 168).
وأما الشراب فلم يكن الخمر، ولم يثبت عن واحد منهم أنه شرب الخمر أو أسرف في شربها، اللهم إلا الوليد بن يزيد والأمين بن الرشيد، فهْمًا الخليفتان الوحيدان اللذان كثرت الروايات عن معاقرتهما الخمر وإسرافهما في شربها، ومعظم هذه الروايات مكذوب مختلق) (المصدر السابق، ص 65)، (وإن اتهموا بكثرة الإنفاق فما في ذلك من عيب، بل الإنفاق فضيلة ما دام يجري وفق تعاليم الدين الحنيف وآدابه. وقد جاء في سير أولئك الخلفاء أنهم كانوا ينفقون من الأموال على العلماء والأدباء).
(وأما ما جاء عنهم في أخبار تبذيرهم وإسرافهم في صرف الأموال في غير الوجوه المشروعة فمعظم ذلك مختلق مكذوب عليهم) (المصدر السابق، ص 66، 67).
(وجدير بنا أن نذكر هنا ونحن في معرض تقييم أخبار الأغاني أن أبا الفرج كان يصرح أحيانًا باختلاق بعض هذه الأخبار وكذبها على الخلفاء، وهذا يؤكد صدقًا ما ذهبنا إليه فيما نقلناه وعالجناه من كون معظم هذه الأخبار مكذوبة على أصحابها.
ومن أمثلة تصريحه هذا قوله في معرض حديثه عن الغناء ونسبته إلى بعض الخلفاء في الجزء الثامن، الصفحة 144: (المنسوب إلى الخلفاء من الأغاني والملصق بهم منها لا أصل لجله ولا حقيقة لأكثره، ولا سيما ما حكاه خرداذبة) (انظر المصدر السابق، ص 41، نقْلًا عن الأغاني).
تجاوز في حقّ الخليفة المأمون:
ذكر الأصفهاني في الصفحة 182 من الجزء الثامن عشر أن المأمون قَبَّل -بفتح القاف وتشديد الباء- في أحد الأيام رجل المغنية (عُرَيب) -بضم العين وفتح الراء-. والخبر في الجملة ينافي سيرة المأمون، الذي عرف بالعقل والحزم والعدل وسعة العلم، حتى قال فيه السيوطي -رحمه الله-: (لم يل الخلافة من بني العباس أعلم منه). وسند هذا الخبر فيه (علي بن يحيى المنجم) مما يجعل الخبر لا يتخطى مرتبة الضعف. (راجع المصدر السابق، ص 25، 26).
تجاوز في حقّ الخليفة الوليد بن يزيد:
استفاض الأصفهاني في ذكر لهو الوليد بن يزيد وشربه وملذاته واستهتاره، ومن أشد ما ذكره في الصفحة 125 في الجزء السادس من خبر تمزيق الوليد للقرآن الكريم. و(مهما بلغ خليفة من خلفاء المسلمين من الاستهتار والانحراف والانغماس في الشهوات، فإنه بعيد عليه، بل يستحيل أن يصل إلى إعلان الكفر بهذا الشكل السافر!).
وقد تصدى عدد من المؤرخين لتكذيب الكثير من الافتراءات التي دست في حق الوليد بن يزيد على الرغم مما عرف عنه من حبه للملذات واللهو مما جعل سيرته مسرحًا للكذب والافتراء عليه، ومنها خبر تمزيق القرآن الكريم الذي هو من الكفر؛ قال الحافظ الذهبي -رحمه الله-: (لم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة).
وقد أثار خبر الوليد مع القرآن الكريم حفيظة ابن خلدون، وهو سيد المؤرخين؛ فكذَّب هذا الخبر. وقد صرح الأصفهاني (بنسخه ذاك الخبر من كتاب الحسين بن فهم، وقد تقدم أن النسخ من الكتب لا يكون دليلًا على الصحة إلا بشروط معينة، فإن فقدت أصبح النسخ من الكتب مؤذنا بضعف الخبر لا دليلًا على قوته) (راجع المصدر السابق، ص 34 - 39).
للاستزادة: راجع (جولة في آفاق الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني)، لنذير محمد مكتبي.