كتبه/ علاء الدين عبد الهادي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإذا نظرت إلى حال النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، وسلفنا الصالح -الذين ننتسب إليهم-، وجدتَ طريقهم طويلاً مضنيًا تملؤه العقبات والتحديات، ولكنهم كانوا يَسْتَعذبون -في سبيل الله- ما يلاقونه، وتصدق عزائمهم في تخطيها، ولم يسيروا على أرض ممهدة مفروشة بالحرير، ومحاطة بالأزهار من كل جانب (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:2-3).
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو خير من وطأ الثرى، لاقى في حياته ما ينوء بالجبال الراسيات، وأصابه في سبيل (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) (الحجر:94)، الكثير من الجراح والأتراح، والمصائب المتعاقبة، وشماتة الأعداء فيما أصابه في نفسه وأهله وصحبه، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعلمنا أن نستعين بالله ولا نعجز، وأن نقوم بحق الدعوة والعبودية إلى آخر رمق (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99).
ففي معركة أحد -مثلاً-: قتل مِن المسلمين سبعون، منهم حمزة -رضي الله عنه- عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، قتله وحشي بأمر من هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان بن حرب، ومثلت هند بشهداء المسلمين؛ فقطعت الآذان والأنوف، وبقرت بطن حمزة -رضي الله عنه- ولاكت كبده لتأكل منه، فلم تقدر عليها فرمتها وذهبت.
فماذا حدث؟!
أما حمزة -رضي الله عنه- فأصبح سيد الشهداء، ولم يضره ما صنعت به هند.
وأما هند نفسها فأسلمت وجهها لله -تعالى-، وانشرح صدرها للإسلام لما رأت المسلمين يصلون ليلهم عند الكعبة عشية الفتح، وحسن إسلامها، وكانت تخرج مع المسلمين في الجهاد، وتبلي بلاءً حسنًا.
وأما زوجها أبو سفيان فأسلم أيضًا وحسن إسلامه، وكان من شأنه أنه كان أول من يدخل المسجد، وآخر من يخرج منه، ولم تعرف له خطيئة قط بعد إسلامه.
وأما وحشي -قاتل حمزة- فقد أسلم أيضًا وحسن إسلامه، وثبت وقت الردة، بل خرج محاربًا للمرتدين، فقتل شر الناس مسيلمة الكذاب؛ تكفيرًا عن قتله خير الشهداء حمزة -رضي الله عنهم أجمعين-.
ولله في خلقه شئون!
أوَتدري أخي الحبيب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر المسلمين صبيحة أُحد -وقد أصابهم ما أصابهم- أن يخرجوا لملاحقة أبي سفيان وجيشه، وفوق ذلك أمرهم ألا يخرج في هذا اليوم إلا من خرج أمس بأُحد؟!
فما كان للصحابة -رضي الله عنهم- إلا أن يسمعوا ويطيعوا لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-, فخرجوا وقد ملأتهم الجراحات والآلام، ولم تخر قواهم، يحدوهم الشوق لله -تعالى- وحب التضحية للإسلام، وإن رمتهم الدنيا عن قوس واحدة! (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران:173-174).
فسلوا الله من فضله.. يمنحكم ويغنيكم ويكفيكم.
وهل أتاك نبأ عضل والقارة -بعد أُحد بفترة وجيزة-: حينما غدروا بستة نفر من خير الصحابة بعثهم معهم النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ليعلموهم القرآن بعد ما تظاهروا بالدخول في الإسلام؟!
أم أتاك نبأ بئر معونة: الذي راح ضحيته أيضًا سبعون من قراء الصحابة دفعة واحدة غدرت بهم عصيّة ورِعل وذَكوَان؟!
وحينما دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم في صلاته، قال الله -تبارك وتعالى- لنبيه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران:128)، فترك الدعاء عليهم.
ويوم الأحزاب: حينما تكالب كل أعداء المسلمين عليهم، ومالأ بعضهم بعضًا، أضف إلى ذلك خذلان المنافقين وتربص اليهود في الداخل (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا) (الأحزاب:11)، ولكنهم ثبتوا وما اهتز إيمانهم، بل (قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيمًا) (الأحزاب:22)، فكان هذا الابتلاء وهذا التكالب علامة عندهم على صحة الطريق وصدق الدعوة.
أيها الكرام:
لم يُقتل من شيوخكم سبعون، بل هم -بحمد الله- معافون أصحاء، يبذلون علمهم سائغًا للطالبين، وينعم بسماعهم عامة المسلمين.
ولم يمثـِّل أعداؤكم بأجسادكم ولا مضغوا أكبادكم، ولا أصابكم معشار معشار ما أصاب الأولين الذين تنتسبون إليهم، وكثير منهم مات أو قتل ولم يرَ معشار معشار ما في أيديكم من نصر وتمكين.
وإن فاتكم شيء فقد فات كارهيكم أضعافه، ولقد عوضكم الله عما فقدتم بكثير مما منحكم، (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا) (آل عمران:165).
وإن شَمتَ بكم بعض سفهاء الأحلام فعلى العاقلين تجاوز ذلك، وترك الانشغال بتفاهاتهم؛ حتى تسير القافلة، وحتى لا يصير الصخر مثقالاً بدينار.
وإن أبوا إلا اللجاجة في الخصومة، وإظهار الفرح فيما أصابكم، فأبشروا فقد جمعكم الله مع نبيه -صلى الله عليه وسلم- في بعض أحواله: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ) (التوبة:50).
أيها الكرام:
العمل العمل.. يرحمكم الله.
والطريق لا يزال طويلاً، ولن يخلو من متربصين وحاقدين وشامتين، فامض ولا تلتفت.
فأنتَ بين شكر وصبر.
وإنما الراحة في الجنة.
واعبدوا الله مخلصين له الدين، رافعين له الراية ولو كره مَن كره.
وفي الختام أهديك أخي هذه الآيات: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ . وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ . وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ . إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) (النحل:125-128).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.