كتبه/ علاء الدين عبد الهادي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ففي أوقات الأزمات يأوي المسلم إلى كتاب ربه؛ يلتمس فيه الهداية إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، فيستبصر بأنوارها في ظلم الليالي، ويسترشد بها في مفترق الطرق، ويهرع إليها يلتمس بَرْدَ السكينة، ويحتمي بها من نار الحيرة والضلال، يفعل ذلك كل حين لا سيما إذا ألمت به الخطوب، وحاقت به الكرب، وماجت بأصحابها الأهواء؛ فكأني به حينها يقرأ تلك الآيات العظيمات المباركات فيجدها غضة كأول ما نزلت، منيرة كأروع ما يكون؛ فإذا به يتلوها في ضوء ما يمر به وكأنها لم تنزل إلا له ولم تخاطب إلا إياه.
ما أبصره لطريقه! وما أشد تمسكه به! وما أصبره عليه! وما أسعده بسلوكه له! كيف لا وهو من أتباع النبي المؤيد من السماء -صلى الله عليه وسلم- الذي قال له ربه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108)؟!
وكيف لا؟! وهو المتمسك بهذا الكتاب العظيم وحبل الله المتين؛ فيكون له هداية ونورًا: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (النور:40).
معرفة الطريق:
فيعرف المؤمن طريقه جيدًا، ومن أين جاء ولماذا جاء وإلى أين المصير، ويلزم هذا الطريق الحق -طريق الاستقامة- الذي وصفه له ربه أيَّما وصف وجلاه، فهو له مبصر، فيصغي سمعه لقول ربه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153)، ويسأل الله -تعالى- من قلبه في كل صلاة فيقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) ويدعو في مناجاته دعاء الخاضع اللاجئ: "اللهم أرني الحق حقًا وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه".
يعرف أن الناس بالنسبة إلى هذا الطريق فريقان: (فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ) (الأعراف:30)، و(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف:178)، وأن الناس لا شك واحد من هذين: (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:26)، قد أقام الله عليهم الحجة البالغة وتبين لهم الليل من النهار والهدى من الضلال والحق من الباطل: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (يونس:32).
حقيقة الصراع:
وفي ذلك الخضم يعلم المؤمن أن الصراع على حقيقته إنما هو بين الحق والباطل وأن هناك معسكر الكفر ومعسكر الإيمان؛ لذا فهو يعرف في أي جانب يقف، ومع مَن يقاتل وتحت أي راية يموت، فالهدى في صدره مستقر، والإيمان في قلبه راسخ والحق له واضح، يقولها بلا تردد في وجوه أعدائه: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ:24)، يصدع بالحق غير هياب: (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ . وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (هود:121-122)، محتميًا بربه، معتمدًا عليه، واثقًا فيما عنده، لا يضره من خالفه أو خذله إلى يوم الدين، بل يبرأ منهم ومن كل شرك، فيقول: (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (هود:54-56).
أقسام الناس في الطريق:
وفي طريقه نحو ربه يجد موافقين ومخالفين، فيعرف كلاً بسمته، ويميزهم بصفته التي أخبر الله بها؛ فخذ وصفهم مِن خالقهم: (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر:14).
فالمؤمنون هم الغرباء.. شذاذ الآفاق.. صالحون مصلحون، قابضون على دينهم رغم الشدائد، كالقابض على الجمر تتألم يداه ويصبِّره إيمانه، وانتظارُ ما عند الله من جزاء: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ) (آل عمران:198)، (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة:5).
والكافرون جاحدون مستكبرون معاندون؛ يرون الحق باطلاً والباطل حقًا: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) (البقرة:7)، (أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) (البينة:6).
وفي المعركة بين هؤلاء وأولئك يبرز أقوام لا خلاق لهم من إيمان ولا مروءة ولا هدى منير؛ منافقون يظهرون خلاف ما يبطنون: (إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ . وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (البقرة:13-14).
فهم مع المؤمنين في المغنم وحرب عليهم في المغرم، يوالون أعداء الله في الحقيقة وهم يدعون كذبًا أنهم من أوليائه: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا) (النساء:143)، وهم وإن استقلوا باسم النفاق إلا أنهم مع إخوانهم الكافرين في الحكم عند الله، وهم معًا في سواء الجحيم: (إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (النساء:140)، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (المنافقون:3).
سنة التدافع:
وفي دنيانا التي نحياها لربما اختلط الناس في المكاسب والمعايش وحرث الدنيا، ولكن حكمة الله -تعالى- اقتضت أن يقدر بينهم من الابتلاءات والاختبارات ما يتبين به أتباع الحق وأتباع الباطل؛ (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال:37)، فلله -تعالى- جنود هم حزبه المفلحون الغالبون، ولإبليس جنود هم: (شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) (الأنعام:112)، والفريقان ما يزالان في عداوة مستمرة واصطلام شديد منذ أن خلق الله آدم -عليه السلام- إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وقد حذرنا الله -تعالى- مِن هذه العداوة في مثل قوله -تعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ) (الأعراف:27)، وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) -يعني الشيطان- (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر:5-6) وإنما فعله هذا إبرارًا لقسمه؛ (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ) (ص:82-83).
لذلك ما فَتِئَ الشيطان يغوي الناس ويتخذ لنفسه منهم أتباعًا وملأً (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:27)، وما فتئ المؤمنون يستعيذون بالله من كيده ومن شره (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (النحل:99-100)، وما زالوا يجاهدونه وأولياءه جهادًا كبيرًا بالسيف والسنان والحجة والبيان: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة:54)، حيث أنعم الله عليهم بالهداية في الدنيا والآخرة (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).
وهكذا يظل الصراع قائمًا، وتظل المعركة حامية الوطيس يسقط فيها مَن يسقط، ويرتفع فيها من يرتفع: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251)، (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) (الحج:40).
ولقد وعد الله عباده المؤمنين بالنصر إن هم أخذوا بأسبابه: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:40-41).
نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من جنده الأوفياء، وأن يتقبلنا عنده مِن الشهداء، وأن ينصر دينه وكتابه وعباده الصالحين ويجعلنا منهم، وأن يقر بنصرهم أعيننا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.