الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 06 فبراير 2025 - 7 شعبان 1446هـ

الوحدة الإسلامية في مواجهة إملاءات "ترامب" بشأن غزة

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالإملاءات في عالم السياسة الدولية انتهت -على الأقل بتلك الصورة الفجَّة- منذ نشأة عصبة الأمم، والتي كان لأمريكا دورٌ بارزٌ فيها.

وباعتبارها دولةً حديثةَ التحرر من الاحتلال الإنجليزي آنذاك؛ كانت أمريكا صاحبة مصطلح: "حق الشعوب في تقرير المصير"، لكن سرعان ما تناست أمريكا هذا المبدأ بدءًا من الحرب العالمية الثانية واستعمالها القنبلة النووية ضد اليابان.

ومن ساعتها، وأمريكا تستبطِنُ حقَّها في إعادة هندسة العالم الذي تمَّت رسم معظم خرائطه قبل أن تتحول هي إلى دولة عظمى، ثم إلى الدولة الأقوى تسليحًا في العالم.

نعم، كانت الرئاسة معها الخارجية الأمريكية تفترضان دائمًا أنهما صاحبتا حقٍّ أصيلٍ في التدخل في كل مشكلات العالم، ولكن كان دائمًا ما يكون التدخل باسم الأمم المتحدة والشرعية الدولية، مع الحرص على الشكل القانونيِّ له، ثم تبنَّت أمريكا سياسة تصدير الفوضى الخلَّاقة إلى العالم العربيِّ.

ولو كانت دولة أخرى هي التي أعلنت أنها تصدِّر "فوضى" إلى بلاد أخرى، لتنادت أمريكا وحلفاؤها لعقد اجتماع في مجلس الأمن يخوِّل لها حقَّ شنِّ حرب عليها، ولكنها أمريكا!

ثم جاء ترامب، وانتقلت الفوضى إلى أفكاره هو، حتى أعلنت كثير من مؤسسات أمريكا أنها تتمنَّى ألا ينجح لمدة ثانية، وقد كان. ولم يجد ترامب أيَّ غضاضة في أن يطعن أكبر إنجاز حضاري قدَّموه للعالم في عمر حضارتهم القصير -من وجهة نظر الأمريكيين-؛ وهو: تداول السلطة بطريقة سلمية، والاحترام البالغ الذي يسلِّم به الرئيس مقاليد الحكم لمن بعده، ولو كان يغادر البيت الأبيض لخسارته الانتخابات أمام الرئيس الجديد؛ فشنَّ ترامب حربًا لا هوادة فيها على الانتخابات، واصفًا إياها بالمزوَّرة.

ثم بعد مدة الرئيس السابق بايدن، والتي بالغ فيها في دعم نتنياهو، أملاً في أن يسانده اليهود في النجاح لمدة ثانية، لكنهم دعموا ترامب، والذي ينتظر مساندتهم في أمرٍ من الصعوبة بمكانٍ في النظام الأمريكيِّ (وهو كسر قاعدة أن الحد الأقصى لشغل شخصٍ ما منصب الرئيس هو مدتين رئاسيتين).

دخل ترامب البيت الأبيض وعينه على مدة الرئاسة الثالثة، وبالتالي يريد تحقيق شيء غير مألوف: ضم أراضٍ، وتغيير خرائط، إلخ.

والخلفية التاريخية لترامب: أنه من نوعية رجال الأعمال الذين يجمعون بين الثراء الفاحش والنفوذ الواسع؛ فإذا أراد عقد صفقةٍ ما، فإنه يغرق الأطراف الأخرى بسيلٍ من الاقتراحات المتناقضة، والتي لا يبدو شيءٌ منها نابعًا من أسسٍ قانونيةٍ أو أخلاقيةٍ؛ فهو كمن يأتي يطالبك أن تبيعه ما لم تعرضه للبيع أصلًا، ثم يقول لك: "سأشتريه منك بمبلغ كذا، إذا لم يعجبك فسأمنحك مكانًا كذا، وإذا لم يعجبك فسأقنع طرفًا ثالثًا أن ينازعك الملكية وسأدعمه، إلخ"، وهكذا يخرج عليك كل يوم بعرضٍ، وهو ليس عرضًا بالمفهوم الطبيعيِّ لكلمة "عرض"، يعني إما أن تقبله وإما أن ترفضه، لكنها إملاءات!

وعلى العالم أجمع أن يدرك: أن اقتراح تهجير أهل غزة خطرٌ داهمٌ على الجميع، وأن شهية ترامب لا يمكن أن تقف عند حدٍّ؛ فقد رأينا في أيامٍ قليلةٍ كيف قد جال بعينه من كندا إلى جرينلاند إلى قناة بنما إلى غزة! ولو نجحت تجربةٌ واحدةٌ، فلينتظر العالمُ كلَّ مَن سيقع عليه الاختيار ليقضم منه القضمة التالية.

وأما المسلمون فقد جاءتهم الحروب الصليبية -وهم ليسوا في أحسن أحوالهم-؛ فسقطت القدس، ولكنهم سرعان ما استيقظوا وطردوا الصليبيين شرَّ طردة.

وعلى سبيل العلاوة: فتحت القسطنطينية من قِبَلِ المسلمين، وقامت الدولة العثمانية، ثم كان البحث العلميُّ والتطور العسكريُّ منذ القرن السابع عشر الميلاديِّ، والذي أخذت الدولة العثمانية في التأخر عنه شيئًا فشيئًا، حتى سقطت، وسقطت كثيرٌ من دول المسلمين في براثن الاحتلال، والذي رحل عن جميعها إلا فلسطين، فقد سلَّمها لليهود ليقيموا دولتهم؛ فأعلنوها في عام 1948، وجيوش العالم الإسلامي واقعةٌ تحت سيطرة جيوش الاحتلال؛ فلا تسليح ولا إعداد، ولا معرفةٌ بمسالك الحرب الحديثة، ولكن فقط بطولاتٌ فرديةٌ من أفرادٍ يحملون أسلحةً صدئةً، بل كثيرٌ منها فاسدٌ!

ومع هذا، كادت الجيوش الإسلامية أن تحسم المعركة؛ لولا هدنة الأمم المتحدة، والتي التزم بها العرب وحدهم، فغيَّر اليهود الكثير من معالم المعركة!

والآن، قد تطور إدراك الدول الإسلامية بدهاليز السياسة وبفنون القتال، وتطورت قدراتها العسكرية، وتعاظمت قدراتها الاقتصادية من إنتاج البترول وغيره. فسيكون من العار على هذا الجيل أن تتمكن أمريكا من تمرير هذا المخطط بعد أن ملكت دولنا مجتمعةً أسباب قوةٍ -بفضل الله-.

فعلى الجميع أن يمتثل لقوله -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران: 103)؛ فلا بد من موقف إسلاميٍّ موحَّدٍ معضَّدٍ لمن اتخذوا مواقف بالفعل.

وأولهم: الشعبُ الغزاويُّ الصابر المحتسب، الذي يتمسك بحماية أرضه، وهذا حقه، ولكنهم أمام إغراءات ترامب بنقلهم إلى مواطن يجدون فيها رغد العيش، يعلمون أنهم يؤدون جميلًا رائعًا تجاه أمتهم؛ حتى اعترف ترامب أنهم لا يوافقون على الهجرة، ولكنه استدرك معللًا هذا بأنهم لم يجدوا البديل، وأنه حين يوجد لهم البديل سيقبلون.

وما أجمل ما قاله اللواء "خالد مجاور" محافظ شمال سيناء، في تدوينة على منصة إكس: "رغم أني خدمت في العسكرية المصرية لأكثر من أربعين عامًا كمقاتل؛ إلا أن جسمي وكياني كله كان ينتفض وأنا أستقبل أطفال غزة المصابين تقديرًا واحترامًا لصمودهم طوال هذه الفترة".

وأضاف: "أحسستُ أنني أقابل أبطالًا حقيقيين، وليس أطفالًا".

ثانيًا: دولة مصر الشقيقة الكبرى للعرب عامةً وللفلسطينيين خاصةً، وقد جاء الرفض المصريُّ قاطعًا على لسان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مؤكدًا على أن فلسطين قضية أمةٍ، وواصفًا تهجير الفلسطينيين بالظلم الذي لا يمكن لمصر كدولةٍ ولا كشعبٍ، ولا له هو شخصيًّا أن يشارك فيه.

لقد كان الموقف المصريُّ واضحًا وحاسمًا، ولم تكتفِ مصر بهذا، بل قدَّمت خطةً لإعادة تعمير غزة في خمس سنواتٍ، ونحن على يقين أن رجال القوات المسلحة -بعون الله تعالى- يقدرون أن يضغطوا هذه الفترة بمعاونة الشركات المدنية في مصر، والتعاون مع الأشقاء في غزة.

وأن مصرَ قادرةٌ -بينما هي تعيد البناء- أن توفِّر خيام إيواءٍ تحقق قدرًا مناسبًا من متطلبات الحياة.

وبهذا الجد والاجتهاد، مع الصبر والمصابرة من إخواننا في غزة، لا نحتاج إلى أي خططٍ بديلةٍ لو كان دافعها الشفقة -كما يدعي ترامب!-.

ثالثًا: موقف دولة الأردن، والذي لم يختلف -بفضل الله- عن موقف مصر في رفض تهجير الفلسطينيين تحت أيِّ مسمًّى.

رابعًا: موقف السعودية؛ لأن الكثيرين قالوا: إن ترامب ربما يعوِّل على الخلاف بين السعودية وحركة حماس، ولكن السعودية أيضًا تصرفت كما تصرفت مصر من قبل، كدولةٍ عربيةٍ كبرى عليها مسئولياتٌ تجاه الأمة ككلٍّ، وجاء بيانها الأخير ليقطع الطريق أمام التكهنات.

خامسًا: ومن قبل بيان الخارجية السعودية، خرج البيان العربي المشترك الذي أكَّد على هذه الثوابت.

سادسًا: نناشد حركة حماس: دراسة الموقف جدِّيًا، وتقدير الدور الذي تلعبه كل الدول العربية في صالح القضية الفلسطينية، وقيادة الأمور في اتجاه إبراز المعاناة التي يعيشها الغزاويون؛ كما أعلنوا قبل أيامٍ: "غزة منطقة منكوبة"؛ فحسابات المصالح والمفاسد في هذه المرحلة في غاية الدقة.

ومن العجيب: أن ترامب قد تعمَّد التوقيع على خطة عقوبات ضد إيران لإجبارها على توقيع اتفاقٍ نووي وأتبعه بتصريح غير "ترامبي" بالمرة، بل تصريح صادر من قاموس الحوار السياسي: أنه يتمنى أن تتجه إيران إلى توقيع اتفاق نووي، وأنه لا يفضِّل الوصول إلى تطبيق عقوبات.

وهذا له أحد احتمالين:

الأول: أن ترامب يرسل رسالة إلى بلاد الخليج، خاصة السعودية، أنهم إن لم يساعدوه في تهجير أهل غزة، فسوف يدعم إيران.

الثاني: أن مستشاري ترامب أخبروه أنه لا يمكن أن يخسر العرب وإيران في وقت لاحق، وأن هذا قد يعرقل مصالح إستراتيجية كبرى لأمريكا، من أهونها إمدادات البترول والغاز.

وعلى كلٍّ من الاحتمالين، فسيكون هذا دليلًا على أن أمريكا، وإن كانت القوة العسكرية الأولى في العالم؛ إلا أن لديها توازناتٍ، وهي توازنات معلومةٌ ومعروفةٌ، ومارسها كل رؤساء أمريكا.

والأهم: أن هذه التوازنات باقيةٌ موجودةٌ في رأس ترامب، "وإن كان كلامه يوحي بأنه ليس عنده حسابات"، أو -على الأقل- عند مستشاريه.

وفي النهاية: هذا يعني أن بلاد السُّنة تستطيع أن تجبر ترامب، أو -على الأقل- مستشاري ترامب، أو منافسي ترامب، على إعادة الحسابات.

وسيبقى اختبارٌ جديدٌ لإيران: هل ستقبل الترضية المنفردة، وتتعامل مع قضية تهجير غزة وكأنها نقل سكان أمريكيين من ولايةٍ لأخرى، أم تقبل الترضية المنفردة، وتكتفي بإدانة باهتةٍ لعملية التهجير؟

أم تُثبِت -ولو لمرةٍ-: أن الشيعة وإن كانوا يكرهون السُّنة؛ إلا أنهم يمكن أن "يجاملوهم" مجاملةً ذات قيمةٍ، ويقولوا لخصومهم: لا نقبل رشوة الترضية المنفردة، بينما أنت تقضم قطعة من بلاد المسلمين؛ لا سيما أن هذه القضمة تمهِّد لهضم القدس التي ما تفتأ إيران تزعم أنها تجعلها على رأس أولوياتها!

عمومًا، لا بأس أن يشمل التحرك العربي الضغط الدبلوماسي على إيران أن تأخذ موقفًا لا يضعف الإجماع الإسلامي على رفض إملاءات ترامب.

وبالتوكل على الله -تعالى-، وتوحيد الموقف العربي والإسلامي، والحشد الدولي لرفض هذه الاقتراحات، والإصرار على الرفض "فقط الرفض ثم الرفض ثم الرفض" مع عدم التورط في إشعال الموقف على الأرض، والشروع في رفع الأنقاض وإعادة البناء ولو بأيسر الأدوات، وإدخال الخيام والكرفانات؛ بإذن الله تمر بذلك هذه الأزمة؛ لأن الطرف الثاني ينتظر منا: إما الرضوخ تحت وطأة الإلحاح، أو التهور؛ ليعطي ذريعةً لإشعال الموقف، ولو تجنبنا الأمرين، فسوف تنتهي هذه الأمور -بإذن الله تعالى-.

ونحن في شهر شعبان، وعلى أعتاب شهر رمضان؛ فليهْرَعِ المسلمون إلى سلاح الدعاء، مستجيرين بالله.

اللهم يا منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم.

اللهم احفظ القدس وغزة، وكل فلسطين، وكل بلاد المسلمين.

اللهم اجعل مصر دائمًا ذخرًا للعرب والمسلمين. اللهم آمين.