الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 01 فبراير 2025 - 2 شعبان 1446هـ

حماس ومراجعة التصريحات وضبط القواعد (1)

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قدَّمنا المقالة الأولى من سلسلة مقالات "السياسة فن الممكن.. وعلاقتها بقاعدة المصالح والمفاسد"، حيث تناولنا أهمية هذه القاعدة لمحوريتها في السياسة الشرعية؛ كما أن نظائرها هو قبل كل الممارسات السياسية.

ثم قدمنا في المقالة الثانية تعليقًا على الأداء السياسي لجماعة الإخوان عبر قرن من الزمان.

وحماس رغم كونها فصيلًا إخوانيًّا في الأساس؛ إلا أن تكرار دخولها في اشتباكات قصيرة مع العدو الصهيوني ثم سرعة دخولها في اتفاقيات تبادل أسرى وعقد هدنة مع العدو الصهيوني، أعطى انطباعًا بوجود نضج خاص في هذا الفصيل، وبالطبع لكونه يجاهد العدو الصهيوني، وغالبًا ما كانت الأمور تبدو أنه قد تمَّ فيها مراعاة ما يجب مراعاته في قضية المصالح والمفاسد، فقد كانت عمليات حماس تحظى بتأييد سلفي، ربما لا يُستثنى من هذا إلا فصيل المداخلة، وهم لهم أصول يخالفون بها أصول السلفية من معرفة الحق ورحمة الخلق، وتكثير الخير، وتقليل الشر قدر الإمكان.

حتى جاءت عملية السابع من أكتوبر عام 2023، والتي شنَّ الكيان الصهيوني على إثرها حربًا ضروسًا على قطاع غزة امتدت أكثر من 15 شهرًا.

وهنا دار سؤال بين مؤيدين لحماس، بل ومنتمين لها:

هل كان حجم الضربة في 7 أكتوبر مذعرًا لليهود؛ مما دفعهم إلى خوض حرب شاملة ضد قطاع غزة؟

وهل أخطأ متخذ قرار 7 أكتوبر، أم أنها أفلتت منهم؟

والمنصفون الذين طرحوا هذا السؤال لم يكونوا يريدون إثبات خطأ لحماس، وإلا لما تكرَّر منهم تأييدها، وإنما كان الغرض إرسال رسالة مفادها: أنه إذا كان تعطيل اتفاق الهدنة راجعًا لشروط حمساوية، فينبغي أن يعيدوا النظر في حال شعبهم. والأهم هو التأكيد على أهمية دراسة أسباب تغير رد الفعل الصهيوني في هذه المرة.

وقد قدَّمت لك: كيف أن الإخوان في كثيرٍ من البلاد كانوا يحققون مكاسب ثم يصفِّرونها بمواجهات لم تراعَ فيها المصالح الشرعية.

والأمة بالفعل تشعر أن قوة حماس قوة لها أمام اليهود، وليست مجرد فصيل إسلامي ستنصحه، فإن انتصح ستتركه وشأنه... ومن هنا كان الاهتمام.

طُرحت أسئلة من هذا النوع، وأغراضها كما ذكرنا: رسالة للمفاوض الحمساوي، ورسالة أخرى للمخطط الإستراتيجي الحمساوي، ورسالة لتدوين فقه الجهاد، وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأجيال القادمة؛ إلا أن الأمر قد ازداد سوءًا بتصريحات لبعض قادة حماس صادمت كثيرًا من ثوابت السياسة الشرعية؛ مما دفع البعض، وعلى رأسهم: الدكتور "سلمان الداية" -وهو فقيه غزَّاوي من مدينة غزة ما زال فيها إلى يومنا هذا، وما زال أهل غزة، ومنهم حمساويون وغير حمساويين، يثنون على علمه وورعه- أن ينشر نصائح كان قد كتبها أكثر من مرة، لكنه لم يكن قد توسَّع في نشرها.

والمفاجأة أنه بدلًا من توجيه الشكر للرجل والانتصاح بنصيحته، أو مناقشتها مناقشة علمية رصينة، خرجت ردود منسوبة لبعض أهل العلم لا تمت للعلم بصلة؛ فالشيخ محمد الحسن الددو يقرِّر أنه لا اعتبار للمصالح والمفاسد في جهاد الدفع، مع أنه في كلِّ مرة كان يؤيد قرار الهدنة، وقد أيَّد قرار الهدنة الجديد -وهذا صواب بلا شك-؛ إلا أنه لا يتمشى مع ما قرَّره ونَسَبَه للشرع.

وعلى دربه سار الدكتور وصفي أبو زيد في ردٍّ له مطول على الدكتور سلمان الداية!

ثم وأثناء وجود القائد الحمساوي موسى أبو مرزوق في القاهرة؛ في الحفل الذي أقامته مصر لدفعة الأسرى الذين تضمَّن الاتفاق الإفراج عنهم من سجون الكيان الصهيوني، ولكن إلى خارج فلسطين، وكانت مصر هي المحطة، وقد أحسنت حينما نظَّمت لهم حفلًا في فندق الماسة؛ الذي يُعتبر في حدِّ ذاته مؤسسة مصرية لها رمزيتها، ودعت قادة الفصائل ليحتفلوا مع أسرهم في القاهرة، وحرصت على ظهور الأسرى في أبهى صورة (وبلا شك نحن كمصريين نفرح حينما نجد حكومة بلادنا أو أحد أفراد شعبنا وهو يقدِّم نيابة عنا واجبًا تجاه إخواننا في غزة، فالحمد لله، ثم الشكر لكلِّ مَن ساهم في هذا الحدث الذي له قيمة رمزية كبيرة).

وقد أدلى موسى أبو مرزوق بحوارٍ مع قناة العربية، بدا فيه أكثر عقلانية ومنطقية، وعالج فيها الكثير من التصريحات التي كان هو نفسه قد قال بعضها، والبعض الآخر قالها غيره من قيادات حماس.

أما التصريحات المنتقدَة؛ فقد ذكرها الشيخ سلمان الداية في بداية رسالته: "أيها السَّاسة أوقفوا هذا المدَّ"، فقال: "عَرَضَتْ وَسَائِلُ الْإِعْلَامِ تَصْرِيحَاتٍ لِبَعْضِ سَاسَةِ بَلَدِنَا، بَعِيدَةٌ عَنِ الْهُدَى؛ فَرَأَيْتُ أَنْ أُعَلِّقَ عَلَيْهَا؛ لِيَسْتَبْصِرَ النَّاسُ بِمَا أَظُنُّهُ الْحَقَّ، وَاللَّهَ أَسْأَلُ السَّدَادَ".

ثم عدد هذه النقول فقال: "قَالَ أَحَدُهُمْ: أَيُّهَا الْإِخْوَةُ، أَيَّتُهَا الْأَخَوَاتُ: قَدْ يَتَحَدَّثُ الْبَعْضُ مِنَ الْجُبَنَاءِ وَالضُّعَفَاءِ: أَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَسْلَمِ أَلَّا نُقَاتِلَ، وَأَنْ نَقْبَلَ بِالْوَضْعِ الَّذِي كَانَ قَائِمًا بَدَلَ أَنْ نَفْقِدَ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ؟ قَدْ يَقُولُ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُغَفَّلِينَ. لَكِنَّنِي أُصَارِحُكُمُ الْقَوْلَ: إِنَّ مَنْ يُطْلِقُونَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا تُحَرِّكُهُمْ غُرَفٌ سَوْدَاءُ تَرْتَبِطُ بِعَدُوِّنَا، رُبَّمَا تَسْتَقِرُّ فِي بَعْضِ عَوَاصِمِنَا، لَكِنَّهَا تَرْتَبِطُ بِعَدُوِّنَا، وَمَهَمَّتُهَا أَنْ تُضْعِفَ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَعُلُوَّ هِمَّتِهَا، وَفِيهِمْ، يَقُولُ اللهُ -تَعَالَى-: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) (التوبة: ??).

وَخَلَّيْنَا نَتَكَلَّمْ بِوَاقِعٍ بَسِيطٍ: عَامَ ????م؛ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ عَمَلِيَّةُ طُوفَانِ الْأَقْصَى، وَلَمْ تَكُنْ تُقَاتِلُ الْمُقَاوَمَةُ فِي الضَّفَّةِ، فِي هَذَا الْعَامِ وَحْدَهُ ??? شَهِيدٍ عَلَى حَوَاجِزِ جَيْشِ الِاحْتِلَالِ فِي الضَّفَّةِ فَقَطْ؛ بِمَعْنَى: أَنَّ الضَّرِيبَة تُدْفَعُ، لَكِنْ عَلَيْكَ أَنْ تَخْتَارَ أَنْ تَدْفَعَهَا حُرًّا مُجَاهِدًا مُقَاوِمًا مُنْتَصِرًا -بِإِذْنِ اللَّهِ-، أَوْ أَنْ تَدْفَعَهَا ذَلِيلًا خَائِبًا خَاسِرًا".

وهذا نقل يسفه من مبدأ أن يطرح سؤال: هل كان السابع من أكتوبر فيه مصلحة أم لا؟ واصفًا من يطرح هذا السؤال بالجبن (وهذا وصف شنيع لشيء دلَّ الشرع على اعتباره لو تبصَّر القائل!).

نعم هو اعتذر بعد ذلك بأن الأذى الإسرائيلي قائم دائمًا، ولكن لا يشك عاقل في اختلاف النسبة تمامًا بين الذي كان قبل 7 أكتوبر وبعدها؛ فإذا كان من أهم أسباب 7 أكتوبر هو سوء أحوال الأسرى؛ فكيف بسوء أحوال كل سكان غزة إلى فقد كلِّ مقومات الحياة؟!

والسؤال المطروح: هل أذعرناهم؟ هل وُجِّهت لهم ضربة اضطرتهم إلى التحامل على كلِّ الحسابات وشن حرب بكل هذا العنف، وكل هذه المدة؟

وسوف نناقش تفصيليًا كل هذه الأقوال في مقالات قادمة -إن شاء الله-.

ثم قال الدكتور سلمان حفظه الله: "وَقَالَ أَيْضًا فِي تَصْرِيحٍ آخَرَ: مَا لَازِمْ حَدَا يَتَخَيَّلُ أَنَّ التَّضْحِيَاتِ أَنْ يُسْتَشْهَدَ الشَّعْبُ، أَوْ تُسْتَشْهَدَ النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ؛ التَّضْحِيَاتُ أَوَّلًا يَجِبُ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهَا فِي صُفُوفِ الْمُقَاتِلِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ، وَفِي صُفُوفِ الْقِيَادَةِ".

وهذا من أشنع ما قيل، بل تكرَّر ذكره في كلام كثيرٍ من النشطاء بما يوحي أنه تنظير لفكرة جديدة، مع أن الله -تعالى- أمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يؤخر عمرة كان قد حُرِم منها -صلى الله عليه وسلم- هو أصحابه سنوات، وكان في دخول مكة رغم أنف المشركين نكاية ما بعدها نكاية وكسر لقلوبهم، وكل هذا لما وضع في مقابل احتمالية قتل بعض المؤمنين المستضعفين في مكة جاء الأمر بتأجيل تلك العمرة، وبإتمام الصلح مع المشركين.

وهذا التنظير سيأتي أيضًا مناقشة له في المقالات القادمة -إن شاء الله-.

وقد ذكر الدكتور سلمان أقوال أخرى لقادة حمساويين سوف نذكرها في موضعها -إن شاء الله-.

إلا أننا في هذه المقالة، ومن باب الحرص على مصلحة المقاومة نثبِت أن حوار موسى أبو مرزوق الأخير فيه عقل واعتدال، ومراعاة للسنن الكونية والشرعية.

ومن ذلك:

- قوله: إن ? أكتوبر كان التخطيط لعملية محدودة، ثم فوجئنا أننا نواجه جيشًا هشًّا، فتوسعت العملية، ثم صارت فوضى.. ثم كان الرد بحرب إبادة!

(وهذا أيضًا يختلف عن ادِّعاء أنه حتى لو كنا نعلم بهذه النتائج مسبقًا، فكان الواجب الإقدام؛ لأنه جهاد دفع كما ادَّعى غير واحد! وهذا مكمن خطورة في نقل التجربة ونتائجها للأجيال القادمة).

- قوله: أهداف أكتوبر بعضها تحقق وبعضها لم يتحقق، وهكذا الطرف الآخر.. النتائج واضحة أنها كانت حرب إبادة، وليست حربًا بين طرفين وقوتين، وذكر مما لم يتحقق: كسر الحصار، ومنع الاستيطان. (مجرد وجود استعداد لعمل حساب ومراجعة أمر جيد بلا شك).

- قوله: صحيح خسائرنا كانت عظيمة، ولكن قضيتنا صارت واضحة للعالم، وصمود شعبنا أفشل خطط التهجير، وهذه المعركة ليست آخر الحروب.

(مهم جدًّا أن يدرك الشعب الفلسطيني أن المقاومة المسلحة لا تتخذه درعًا لها كما كان في الكلام الذي انتقده الدكتور سلمان الداية، وقد أكَّد هذا الشعور حينما سُئِل: هناك حالة حزن في غزة، وليست مباركة أو احتفالًا بانتصار؛ فأجاب: أنا من غزة وأهلي منهم مَن قُتِل وبيوتنا هدمت.. بالتأكيد البعض حزن لِمَا حدث، لكن الأغلب صابر ومحتسب".

- أبدى مرونة في التعاون مع السلطة الفلسطينية من أجل إغلاق الباب تهرب إسرائيل من التزاماتها، وأعلن الموافقة على لجنة الإسناد التي اقترحتها مصر (وهذه مرونة جيدة؛ دافعها إدراك حجم المأساة التي يعيشها سكان غزة).

- وأما قوله: (لن نترك المقاومة، ولا انفصال بينها وبين السياسة، ولن نفعل ما فعلته فتح من ترك المقاومة بدعوى السياسة)؛ فهو مما يحمدون عليه، ونسأل الله أن يثبتهم، وأن يلهمهم الرشد والصواب.

خاتمة:

نتمنى أن تسيرَ كلُّ تصريحات حماس، وكل تصرفاتها على أرض الواقع انطلاقًا من مراعاة السنن الشرعية والكونية.

وهذا لا يمنعنا أن نستكمل استعراض المناقشة بين الدكتور سلمان الداية، ومَن ردوا عليه؛ لا سيما الدكتور وصفي أبو زيد في المقالات القادمة -إن شاء الله-.