كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
(ملاحظة مهمة: هذه المقالة شديدة الارتباط بمقالة: "الفرق بين حقوق الله وحقوق العباد مقارنًا بجرائم البلاغ والشكوى في النُّظُم القانونية المعاصرة مع تطبيقه على قضية الزنا"، فننصح بقراءتها أولًا).
مقدمات ضرورية لفهم القضية:
1- كل التكاليف الشرعية يجب على العباد الامتثال لها، وبالتالي فكلها من حق الله على عباده؛ رغم أن كثيرًا منها يتعلق بحقوق فرضها الله للعباد كحق الوالدين؛ إلا أن بعض حقوق العباد قد أَذِن الله لأصحابها في إسقاطها، وتلك التي اصطلح العلماء على تسميتها بحقوق العباد.
2- القوانين الوضعية تعتبِر باب المحاذير أو الجنايات كله حقًّا للمجتمع من حيث الأصل، حتى ما كان منه متعلقًا بحق الغير؛ كالمنع من السرقة، والاغتصاب. والقوانين الوضعية أيضًا تراعي أمر "القابلية للإسقاط" فتجعل ما يقبل الإسقاط حقًّا شخصيًّا.
3- ورغم هذا التشابه الظاهري بين الشريعة الإلهية والقوانين الوضعية؛ إلا أن البون شاسع؛ فالله الذي اختار لنا الحقوق التي لا قابلية لإسقاطها، وتلك التي يمكن إسقاطها، والعلماء استقرأوا هذا وعبَّروا عنه، في حين تتبع القوانين الوضعية أهواء الناس؛ فلما عجزوا عن منع الخمر قرَّروا عدم إدراجها في المنهيات القانونية! وكذلك العلاقة الجنسية التي اعتبر القانون الفرنسي أن الأصل فيها الإباحة، ولما منعها، منعها لحق الزوج أو الزوجة، وجعلها جريمة شخصية، ولم يطلق على هذه العلاقة اسم: "الزنا" إلا في تلك الحالة فقط.
4- عَرَفَ النظام القضائي الإسلامي سلطة كبيرة للقاضي، فهو ممثل المجتمع أمام المتهم الماثل أمامه في القضايا التي هي من حقوق الله، والقاضي تأتيه المعلومات من الشهود؛ سواء من عموم الناس أو من رجال الحسبة أو رجال الشرطة، فهم يشهدون على المتهمين، ويتولى القاضي مناقشتهم أو طلب مَن يحتاج إلى شهادته، ومِن ثَمَّ يقضي على المتهم بالبراءة أو الإدانة، وإذا أدانه فيقضي بالعقوبة المقررة، ويأمر الشرطة بتنفيذها.
بل إن العقوبة التعزيرية يمكن أن يأمر بها الإمام مستندًا إلى فتاوى المفتين (أو ما يناظر في زماننا أن يكون تقرير التعزير بواسطة السلطة التشريعية)، ومع هذا كان للقاضي أن يقضي بعقوبة تعزيرية بناءً على اجتهاده في الحالة التي أمامه.
5- وفي النظم المعاصرة تنص كافة الدساتير على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص؛ فأغلقوا مبدأ اجتهاد القاضي، بل ينصون صراحة في شروحهم على أن قياس الأولى -وإن بدا واضحًا وضوح الشمس في كبد السماء- ممنوع أيضًا في حق القاضي.
كما أن الإجراءات القضائية المعاصرة تقوم على وجود دور للنيابة العامة -وهي جهة قضائية مهمتها إقامة الدعوى العامة ومباشرة إجراءاتها أمام الجهات والمحاكم المختصة بذلك-، فتقوم النيابة العامة بتحريك الدعوى باستدعاء المتهمين والشهود ومناقشتهم.
وإذا رأت أن أركان الجريمة قائمة، ومِن ثَمَّ رأت أن الأمر يقتضي أن ترفع الأمر للقضاء ليحاكم المتهم، فإنها أثناء المحاكمة تلعب دور الخصم للمتهم أمام المحكمة، ولكن النيابة لا تلعب دور الخصم الذي يريد أن يعاقب المتهم بأي وسيلة، ولكن دورها الحرص أن يتعرض المتهم لمحاكمة عادلة.
ويسبق دور النيابة: وجود الدعوى ذاتها، وهذا قد يحدث من أخبار صحفية، ولكنه غالبًا ما يحدث من ضابط شرطة، أو بصفة عامة أحد مأموري الضبط القضائي؛ حيث يجمع المعلومات ويقوم بتحريات يدونها في محضر يرسله إلى النيابة، وهنا يتحول ضابط الشرطة إلى شاهد أمام النيابة، وأمام القضاء إذا طلبه.
كما أن المادة 25 من قانون الإجراءات الجنائية تعطي الإذن لآحاد الناس أن يخطر النيابة بمعلوماته بصدد أي جريمة، سوى جرائم الشكوى والطلب.
تقول المادة 25 من قانون الإجراءات الجنائية: "لكلِّ مَن علم بوقوع جريمة -يجوز للنيابة العامة رفع الدعوى عنها بغير شكوى أو طلب- أن يبلِّغ النيابة العامة أو أحد مأموري الضبط القضائي عنها".
وهاهنا لا بد من ملاحظة أن ضابط الشرطة -ومن باب أولى المبلغ- يعتبر شاهدا أمام النيابة، وبالتالي لا يقبل في البلاغ أن يتضمن تكييفًا للجريمة، وإنما لا يتضمن إلا شهادة بوقائع سمعها ورآها.
وقانون الإجراءات الجنائية المصري يقسم الجرائم على هذا النحو:
- جرائم البلاغ: وهي الجرائم التي يرى واضعو القانون أنها جرائم في حق المجتمع.
وهذه الجرائم لها خاصيتان متلازمتان:
الأولى: أن النيابة من حقها تحريك الدعوى متى علمت بوجود موضع اتهام جدي بأي وسيلة كان هذا العلم.
الثانية: أنه يحق لغير المتضررين ضررًا مباشرًا من الجريمة من تقديم بلاغ إلى النيابة العامة بشأن وجود تهمة.
ويعتبر مقدم البلاغ شاهدًا أمام النيابة، ولها أن تناقشه في شهادته أو تناقشه المحكمة لاحقًا، بل الضباط وكل مَن معه ضبطية قضائية يكون دوره في القضية أمام النيابة والمحكمة أنه شاهد.
- جرائم الشكوى: وهي الجرائم التي يرى واضعو القانون أنها جرائم في حق شخصية عادية.
ويترتب على هذا انتفاء خاصيتي جرائم البلاغ، فيد النيابة تكون مغلولة، كما أنه لا يجدي تقديم البلاغ لمن هو مغلول اليد. ولو افترضنا أن القانون غل يد النيابة عن تحريك الدعوى لا عن قبول البلاغ؛ فستكون المحصلة تقديم بلاغ لمن لا يملك إلا رفضه وحفظه، وهو مما لا يقدم عليه عاقل، بل الذي يستفاد من المادة 25 من قانون الإجراءات الجنائية جعل الإذن بتقديم البلاغ فرع على أن تكون الجريمة مما يجوز للنيابة أن ترفع فيها دعوى بغير شكوى أو طلب.
حيث تقول المادة: "لكل مَن علم بوقوع جريمة -يجوز للنيابة العامة رفع الدعوى عنها بغير شكوى أو طلب- أن يبلغ النيابة العامة أو أحد مأموري الضبط القضائي عنها".
- جرائم الطلب: وهي الجرائم التي يرى واضعو القانون أنها جرائم في حق شخصية اعتبارية.
5- قدمنا أن الشرع اعتبر الزنا هو إقامة علاقة جنسية خارج إطار الزواج (أو ملك اليمين، وهو غير موجود في زماننا)، بينما إقامة العلاقة الجنسية في القانون الفرنسي مباح، وقد يدخل عليه المنع لسبب آخر -ويكون ارتباط المنع بهذا السبب ارتباط السبب بالمسبب يدور معه وجودًا وعدمًا-، وبالتالي فالمنع منصب على وجود أجرة في الدعارة، وإكراه في الاغتصاب، وكون الزنا من متزوج أو متزوجة مع عدم رضا الطرف الآخر أو تلبسه بمثل ما تلبس به صاحبه، وهذه الجريمة هي التي تسمى عندهم بالخيانة الزوجية، وهي بعينها التي تسمى الزنا (وعدم الإلمام بهذا المصطلح يورث الكثير من التداخل).
6- رغم أن الذهن قد ينصرف إذا وردت كلمة الزنا في قانون في بلد إسلامي أنه يعني الزنا بمعناه الشرعي؛ إلا أن استعمال القوانين لكلمة الزنا في حالة المتزوجين وسكوتها عن باقي الحالات يجعل تفسير الزنا بحالة المتزوجين فقط لازما، بل صرحت به المحكمة الدستورية في أحد حكمها على الدعوى رقم 238 لسنة 30 دستورية.
(وحيث إن الأصل التاريخي للنص المطعون فيه يعود إلى نص الفقرة الثالثة من المادة (338) من قانون العقوبات الفرنسي القديم، الذي حصر الأدلة التي تقبل وتكون حجة على المتهم بالزنا في حالة التلبس بالزنا، وحالة الإثبات بالرسائل والمستندات المنسوب كتابتها للمتهم، وهو عين ما نصت عليه المادة (254) من قانون العقوبات الأهلي المصري الصادر سنة 1883، وقد تبنى المشرع في قانون العقوبات الأهلي الصادر بالقانون رقم 3 لسنة 1904، القاعدة ذاتها، في المادة (238)، وأضاف إلى هاتين الحالتين، حالة اعتراف المتهم، وحالة وجوده في منزل مسلم في المحل المخصص للحريم. وهو النص عينه الذي تبناه قانون العقوبات الحالي الصادر بالقانون رقم 58. لسنة 1937، في المادة (276) منه.
وحيث إن مفهوم جريمة الزنا -على النحو الذي أورده المشرع في المواد من (273) إلى (277) من قانون العقوبات- هي تلك التي ترتكبها الزوجة إذا اتصلت جنسيًّا برجل غير زوجها، أو يرتكبها الزوج إذا اتصل جنسيا بامرأة غير زوجته...).
7- وحيث إن جريمة الزنا في القانون ليست إلا جريمة الخيانة الزوجية، ومِن ثَمَّ اعتبرها القانون جريمة شخصية، فلا تحركها النيابة إلا بشكوى من الزوج وحده، بل جعلوها أخص جريمة شخصية، مما لا يوجد له مثيل في الجرائم؛ فالزوج هو وحده من يملك تقديم الشكوى ويملك إيقاف التحقيقات ويملك أثناء نظر القضية إيقاف المحاكمة ويملك بعد الحكم التنازل عن تنفيذ الحكم، وإذا مات أثناء نظر الدعوى تنقضي الدعوى بوفاته.
8- ومن الآثار المترتبة على توصيف جريمة الزنا بأنها إقامة أحد الزوجين علاقة جنسية مع طرف آخر: أن القانون الوضعي قرر أنه لو كان ثبت رضا الشريك عن زنا شريكه، فلا جريمة ولا عقوبة؛ لأن كلًّا من الزوجين يزني فلا وجه لأن يشتكي أحدهما الآخر.
9- كما ترتب على ذلك أثر عجيب يضر بكثير من النساء، وذلك أنه يمكن أن تتساهل المتزوجة في دخول رجل أجنبي إلى مكان خاص في بيتها، وهذا انحراف ولكنه من الناحية الشرعية لا يعطى لزوجها ولا لغيره أن يتهمها بالزنا، ولكن لأن الزنا في القانون هو الخيانة الزوجية؛ فقد اعتبروا وجود رجل في مكان الحريم دليل كاف على الخيانة الزوجية، والقانون يطلق عليها وصف الزنا، والزنا له معنى محدد متى أطلق.
وبالتالي قد يوجد من يشتكيها زوجها بأنها أدخلت رجلًا غريبًا إلى البيت، فيقضي عليها بأنها ارتكبت الزنا وفق المفهوم المضطرب للزنا، المأخوذ عن القانون الفرنسي.
10- الستر في الشريعة وموقعه في المنظومة المتكاملة جاءت الشريعة في المنكرات بمنظومة متكاملة، فلا ينبغي أن نطبق واحدة دون الأخرى، أو نخلط بين مجال تطبيق كل منها، وإذا أخذنا جريمة الزنا سنجد في هذه المنظومة:
أ- بيان تحريمها ووصفها بما ينفر الناس منها؛ قال -تعالى-: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) (الإسراء: 32).
ب- ترتيب عقوبة عليها ومخاطبة المؤمنين أن يقيموا الحد على فاعلها: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور: 2). وهذه الحدود قد دلَّت سائر النصوص على أن الموكل بتنفيذها الحاكم.
ج- مخاطبة الأفراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) (رواه مسلم).
د- إرشاد أفراد المجتمع إلى أن العقوبة ليست مقصودة لذاتها، وأنهم حينما يواجهون متلبسا بمعصية -حتى تلك المعاصي التي رتَّب الشرع عليها حدودًا أو رتب عليها الحاكم تعزيرًا-؛ فلو غلب على الظن توبة العاصي متى وعظ، فيستحب أن يستر عليه ويكتفى بوعظه ولا يبلغ القضية إلى الحاكم.
وأما إذا وجد منه جرأة واستهتارًا فحينئذٍ يكون المشروع هو تقديمه للحاكم لإيقاع العقوبة الزاجرة عليه.
هـ- وأما السلطان (أو أي سلطة من سلطات الدولة) فلا تملك خيار الستر؛ لكونه يفتح بابًا للتلاعب والتساهل، وأقصاها أنه يشرع أن يعرض على من أتى معترفًا من تلقاء نفسه يريد أن يطهر نفسه بإقامة الحد عليه أن يرجع؛ لأنه أصلًا هو مَن أتى دون أن يضبطه أحد، ورغبته في التوبة ظاهرة.
قال ابن رجب -رحمه الله- بعد أن ساق جملة من الأحاديث الدالة على ستر صاحب المعصية وعدم فضحه: (واعلم أنَّ النَّاس على ضربين: أحدهما: من كان مستورًا لا يُعرف بشيءٍ مِنَ المعاصي، فإذا وقعت منه هفوةٌ، أو زلَّةٌ، فإنَّه لا يجوزُ كشفها، ولا هتكُها، ولا التَّحدُّث بها؛ لأنَّ ذلك غيبةٌ محرَّمة، وهذا هو الذي وردت فيه النُّصوصُ، وفي ذلك قد قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) (النور: 19). والمراد: إشاعةُ الفَاحِشَةِ على المؤمن المستتر فيما وقع منه، أو اتُّهِمَ به وهو بريء منه، كما في قصَّة الإفك. قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمرُ بالمعروف: اجتهد أن تستُرَ العُصَاةَ، فإنَّ ظهورَ معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب، ومثل هذا لو جاء تائبًا نادمًا، وأقرَّ بحدٍّ، ولم يفسِّرْهُ، لم يُستفسر، بل يُؤمَر بأنْ يرجع ويستُر نفسه، كما أمر النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ماعزًا والغامدية، وكما لم يُستفسر الذي قال: (أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ) (متفق عليه). ومثلُ هذا لو أخذَ بجريمته، ولم يبلغِ الإمامَ، فإنَّه يُشفع له حتّى لا يبلغ الإمام. وفي مثله جاء الحديثُ عَنِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ). خرَّجه أبو داود والنَّسائي مِن حديث عائشة.
والثاني: مَن كان مشتهرًا بالمعاصي، معلنًا بها لا يُبالي بما ارتكبَ منها، ولا بما قيل له، فهذا هو الفاجرُ المُعلِنُ، وليس له غيبة، كما نصَّ على ذلك الحسنُ البصريُّ وغيره، ومثلُ هذا لا بأس بالبحث عن أمره، لِتُقامَ عليه الحدودُ، صرَّح بذلك بعضُ أصحابنا، واستدلَّ بقولِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا)، ومثلُ هذا لا يُشفَعُ له إذا أُخِذَ، ولو لم يبلغِ السُّلطان، بل يُترك حتّى يُقامَ عليه الحدُّ؛ لينكفَّ شرُّه، ويرتدعَ به أمثالُه. قال مالك: من لم يُعْرَفْ منه أذى للناس، وإنَّما كانت منه زلَّةٌ، فلا بأس أنْ يُشفع له ما لم يبلغ الإمام، وأمَّا من عُرِفَ بشرٍّ أو فسادٍ، فلا أحبُّ أنْ يشفعَ له أحدٌ، ولكن يترك حتى يُقام عليه الحدُّ، حكاه ابن المنذر وغيره..." (جامع العلوم والحكم، 1/341).
وهاهنا نحن نرى كيف أن الإمام ابن رجب -رحمه الله- بالغ في الترغيب في الستر مع من يرجى منه التوبة حتى أوهمت عبارته وجوب الستر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاتب من أغرى ماعز بالاعتراف فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ) (رواه أحمد وأبو داود، وقال الألباني: "صحيح لغيره").
الشاهد: أن الاستحباب في هذه الحالة متأكد ومتقرر، وهو لا ينافي إعلام الخلق بالعقوبة (وتقريرها كقانون) لا سيما في الأنظمة التي تنص على كتابة الجرائم على وجه الحصر في قانون. وأيضًا تطبق الأجهزة العامة -وهي الآن الشرطة والنيابة والقضاء (وبالأخص القضاء)- العقوبات المقررة، ولا يشرع لها خيار الستر حينئذٍ.
11- لقد حاول معظم شراح القانون الوضعي أن يعللوا لواضعي قانون 1938 أنهم انطلقوا من معنى نابع من الشريعة الإسلامية، مع أن النص مأخوذ كما بين حكم المحكمة الدستورية من قانون 1883 الذي كان ترجمة حرفية للقانون الفرنسي.
المهم أنهم قالوا: إن القانون لما جعل جريمة الزنا جريمة شخصية قد أعطى الزوج الفرصة في عدم انهيار الأسرة إن رضي بمعاشرة زوجته رغم ما تلبَّست به. (وبالطبع الزوج ولا أحد إلا الزوج بناءً على أنهم لا يسمون العلاقة الجنسية زنا إلا في حالة المتزوج أو المتزوجة بالشروط التي ذكروها كما نوهنا مرارًا).
أ- ولم يبيِّن لنا شراح القانون: هل من الشريعة إسقاط حق المجتمع تمامًا في حالة الأسرة التي تلبس فيها كلٌّ من الطرفين بالفجور بعد ما نص على أنه يسقط حق كل منهما؟
ب- ذكر هذا الكلام في معرض سن القانون غير ملائم؛ فكما قدمنا يجب أن يتضمن القانون التجريم والعقوبة ووسائل المجتمع في إبلاغ السلطة حال وجود الجريمة، ويبقى كل من اطلع على الجريمة أمامه الخيار (الذي ينبغي أن يكون مبنيًّا على مصلحة المجتمع): هل يكتفى بوعظ المخطئ؟ أم يبلغ السلطات؟
وجريمة الزوجة إذا كانت الجريمة سرية ولم تثبت لا أمام النيابة ولا أمام الناس، واطلع عليها الزوج وحده؛ جاز له أن يستر عليها ويمسكها إذا غلب على ظنه توبتها، وليس لاشتراكهما في الفجور كما تنص القوانين الوضعية.
ج- أما إذا علمت به النيابة (وهذا لا يكون في جرائم الزنا إلا بمجاهرة فاحشة كما يحدث في زماننا في وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها) أو بشهادة شهود وهم لا يشاهدون الزنا -الذي هو الزنا شرعًا- إلا في حالات الاستهتار البالغ، ومع هذا فالقانون لم يعمل الشرط الشرعي لإثبات الزنا بالشهود، وهو أن يشهد أربعة شهود (علمًا بأن الزوج قد يتقدم بشكوى ضد زوجته، ويقدِّم شهودًا وتعتد بهم المحكمة وهم دون أربعة شهود).
المهم متى انتقلت الجريمة إلى هذه الدرجة من الشيوع فلم تعد جريمة في حق الزوج ليقدِّر هو وحده مدى قابلية زوجته للتوبة، فضلًا عن أن يقايضها فجورًا بفجور، ومِن ثَمَّ يسقِط القانون الوضعي الجريمة عن كلٍّ منهما!
12- خلاصة المآخذ على تعامل القانون الوضعي مع جريمة الزنا:
1- اعتبار أن الأصل في العلاقة الجنسية الإباحة، ومنعها في أحوال لأسباب يدور معها المنع وجودًا وعدمًا، وسميت كل جريمة من هذه الجرائم باسمٍ؛ مثل: الدعارة، والتحريض على الفسق والفجور.
2- من بين هذه الجرائم التي يمنع فيها القانون العلاقة الجنسية: العلاقة الجنسية من متزوج دون رضا الطرف الآخر، ودون تورطه في نفس الجريمة، وهذه خصها القانون بوصف "الزنا"، وهو ما يسبب لبسًا شديدًا لدى مَن يقرأ القانون.
3- ترتب على هذا التساهل بإثباتها؛ فتم إثبات تلك التهمة المسماة: زنا "بوجود رجل في مكان الحريم"، وهذا قد يكون مقبولًا لإثبات ما يسمى بعدم الوفاء للزوج، ولكن تسمية ذلك زنا وهي كلمة لها دلالتها المستقرة عند المسلمين، مع أن الشرع لا يثبت الزنا إلا بأربعة شهود يرون المواقعة بين الطرفين، وليس مجرد مقدمات الزنا أو توابعه.
4- ترتب على هذا جعل هذه الجريمة شخصية، وهذا يعني أمرين متلازمين:
- غل يد النيابة عن تحريك الدعوى.
- عدم الإذن لمن يعلم بالجريمة أن يقدم فيها بلاغا.
5- لو أننا تجارينا مع القانون في اعتبار أن هذه جريمة شخصية، ولكن نص القانون يجعل أنها متى كانت جريمتين لكلٍّ من: الزوج والزوجة فقد تلاشيا، وهاهنا الطامة الكبرى! ونحن نعلم بالاضطرار أن مثل هذه الأسرة التي يتبادل ويقدِم فيها كلٌّ من: الزوج والزوجة على الزنا تميل إلى الاستهتار والاستعلان؛ فنجد أن الزوجة يأتيها عشيقها جهارًا نهارًا، والزوج يصطحب عشيقاته كذلك.
وهنا بدلًا من أن يعتبر القانون أن هذه الحالة على الأقل جريمة في حق المجتمع ألغى التجريم بالكلية والعياذ بالله!
فهذه الحالة وغيرها، مثل كون الزوج هاربا من الإنفاق على زوجته، وهي تستثمر غيابه في الفجور، فمن أين نأتي به ليمنع عنا أذى زوجته؟ ومثل الزوج العربيد الذي يقهر زوجته، فمن أين لها أن تكون هي من تقاضيه؟
13- مقترح حزب النور بجعل جريمة الزنا جريمة بلاغ.
مما سبق يتضح: أن "قانون العقوبات" قانون موضوعي، وأن "قانون الإجراءات الجنائية" هو قانون إجرائي يخدم قانون العقوبات.
وبالتالي فالآفة الرئيسية هي في قانون العقوبات وجذوره الفرنسية، وأن قانون العقوبات اعتبر أن الزنا منحصر في علاقة جنسية يقيمها شخص متزوج دون رضا الطرف الآخر، ودون أن يتلبس هو الآخر في هذه الجريمة، وبالتالي عدها القانون الفرنسي من الجرائم الشخصية، ومِن ثَمَّ عَدَّها من "جرائم الشكوى" في قانون الإجراءات الجنائية.
والتعديلات المطروحة في البرلمان الآن تتعلق بقانون الإجراءات الجنائية ومحاولة إصلاح خطأ في الفرع (الذي هو الإجراءات الجنائية) دون إصلاح الخطأ في الأصل الذي هو قانون العقوبات؛ تبدو عملية شاقة، بل شبه مستحيلة، بل مستحيلة إذا كنت تطلب من ورائها كلامًا موافقًا للشريعة من كل وجه، ومن ثَمَّ فهل نترك القانون يخرج بعوار تشريعي مخالف للشريعة، فتكون سابقة لإصدار نص قانوني جديد مخالف للشريعة؟ حتى لو كان مستفادًا من نص سابق بعد ما تكرست مرجعية الشريعة في الدستور في عدة استفتاءات دستورية كانت الشريعة حاضرة فيها جدًّا، وفي كل مرة صوتت الأغلبية الساحقة لصالح الخيار الذي يحمي مرجعية الشريعة.
فلما طرحت كتابة قانون جديد للإجراءات الجنائية طالب حزب النور بضبط المواد المخالفة للشريعة.
وفيما يتعلق بجريمة الزنا فقد قدَّم حزب النور في هذه التعديلات طلبًا بحذف الجرائم الخاصة بزنا المتزوجين من قائمة جرائم الشكوى لتبقى على أصلها كباقي الجرائم أنها جرائم بلاغ، وهذا يترتب عليه أثرين لا انفكاك لأحدهما عن الآخر في النظام القانوني المعاصر:
- الأول أن يفك القيد عن النيابة العامة في تحريك الدعوى حتى ولو لم يتقدم صاحب الصفة بشكوى.
- أنه يجوز لآحاد الناس أن يقدم بلاغًا للنيابة العامة.
وهنا ثارت اعتراضات منها:
1- ادعاء أن حق البلاغ مكفول في كل الجرائم:
وقد قدمنا أن حق البلاغ كفلته المادة رقم 25 من قانون الإجراءات الجنائية،
وهي منحت الإذن مقيدا بألا تكون التهمة محل البلاغ من جرائم الشكوى أو الطلب، فجاء نصها كالتالي: (لكل من علم بوقوع جريمة يجوز للنيابة العامة رفع الدعوى عنها بغير شكوى، أو طلب أن يبلغ النيابة العامة أو أحد مأموري الضبط القضائي عنها).
ولو تنزلنا وقلنا: إن حق البلاغ عام غير مخصص، فهو في النهاية بلاغ سيقدم للنيابة حال كون يدها مغلولة عن تحريك الدعوى بنص المادة 3 من قانون الإجراءات الجنائية؛ فأي عاقل سيقدم على فعل كهذا؟
ثم إننا نقول لمن ادعى وجود حق البلاغ: نقول: إن كان القانون يتضمن حق بلاغ مؤثر مثمر لثمرته في كل القضايا فبين لنا أين هذا؟ وإلا فيلزمك أن تسعى معنا إلى إقرار القانون لمثل هذه الحق.
2- ادَّعى البعض أن كلَّ الأحوال التي تضر المجتمع معدودة من جرائم البلاغ، من التحريض على الفسق والفجور والدعارة ونحوها.
والجواب: أن وجود امرأة تتخذ عشيقا يأتيها بيتها، أو رجل يأتي إلى بيت عشيقته أو يصطحبها إلى بيته، لن يدخلهم ذلك لا في جريمة الدعارة ولا في جريمة التحريض على الفسق والفجور. وإن كان حقيقة أمرهم أنهم يرتكبون منكرًا يجب أن نوجد المجال للأمة إلى إنكاره، التزامًا بما أمرها الله به وأن يكون هذا الإنكار قانونيًّا مشمولًا بحماية القانون، كما أن وجود هذه السلوكيات مدمر للنشأ الذين سيرون جيرانًا لهم وهم في عمر الآباء والأمهات، وهم يجاهرون بهذه الفواحش، مما يوجب على البرلمان أن يتحرك لحماية هؤلاء النشء.
علمًا بأن القانون الفرنسي نشأ في بيئة تعلم أبناءها أن هذا أمر لا إشكال فيه البتة، وبالتالي لم يجد المشرعون عندهم أي تناقض أو غضاضة أو ثغرة ينبغي سدها، ولكن عندنا تمسكنا بالستر! بينما القانون يضفي حماية على من يستعلن بجريمة الزنا طالما أنه برضا الزوج أو الزوجة وطالما لم يكن مقابل أجرة.
3- اعترض البعض أن الأصل في الشرع الستر:
والجواب أنه لا بد من تعريف الناس بالجرائم ليجتنبوها لا سيما في ظل الدساتير المعاصرة التي تقول لا جريمة ولا عقاب إلا بقانون، وبالتالي مهما كان الفعل مجرَّمًا في الدين، أو العرف، أو الطبع؛ فلن يكون جريمة قانونية إلا بالنص على ذلك في القانون، وبالتالي لا بد من التجريم، ولا بد من الوعظ والإرشاد.
فإذا وقع أحدٌ في الذنب فمن يراه عليه أن يجتهد إن غلب على ظنه أنه ينتفع بالوعظ ويتوب؛ فحينئذٍ يستحب أن يستره، وإلا رفع أمره إلى السلطات.
ونظير هذا العفو في الجرائم الشخصية، حيث لا يشرع العفو عمن ارتكب الجور إلا حال غلبة الظن أن العفو سوف يورث صلاحًا؛ قال -تعالى-: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40).
ولو كان الستر مانعًا من تجريم الجرائم لما وجدت في الشرع ولا في القوانين المعاصرة أية جرائم، ولاكتفينا بالستر!
ثم ألم تبح أصوات الناصحين لفتيات "التيك توك" فلم يجدِ هذا مع بعضهن حتى اضطرت النيابة أن تتحرك ضدهن مستندة إلى أن جرائم التحريض على الفسق والفجور من الجرائم التي عدها القانون من جرائم البلاغ.
4- اعترض البعض بأن المحكمة الدستورية أيدت المواد المتعلقة بها:
وهو كلام صحيح، ولكن -للأسف- فيه اختصار مخل، وهو: أن المحكمة الدستورية أقرت بمخالفة هذه المواد للشريعة، ولكنها بينت ما استقر عليه حكم المحكمة الدستورية أن المادة المخالفة للشريعة والتي شرعت قبل تعديل المادة الثانية تبقى معمولا بها إلى أن يتولى البرلمان تغييرها.
5- ذكر البعض أن تحويلها إلى جريمة بلاغ دون النص على أربعة شهداء يفتح باب الاتهام المرسل بالزنا، وهذا قائم الآن، بل قد تقع فيه المحكمة ذاتها فتقضي بالزنا على رجل وامرأة إذا تواجد في غرفة النوم (وإدخال رجل البيت بهذه الصورة جريمة، ولكنها قد تكون مجرد عدم التزام، وقد تكون من مقدمات الزنا، وفى كل الأحوال لا يجوز أن تسمى هذه الجريمة زنا كما يسميها القانون).
كما يمكن هنا أن يتهم الزوج زوجته بالمواقعة، مع كونه شاهد واحد ولا يطالب بالملاعنة.
ثم إن هذا المبلِّغ سيكون شاهدا، وغير مسموح له أصلًا بتوصيف الجريمة، بل يذكر ما رآه ولا يجوز له أن يتجاوز هذا.
6- ويجب أن ننتبه إلى أن عد الزنا من جرائم الشكوى غل يد النيابة عن تحريك الدعوى فيه، وكذلك عدم الإذن بتقديم بلاغات يعنى من باب أولى غلق باب البلاغ في شأن مواطن الريبة التي تحدث من مجيئ العشيق إلى الزوجة أو من اصطحاب الزوج لعشيقته؛ لأنه طالما كانت الغاية غير معدودة جريمة إلا في حق الزوج فمن باب أولى مواطن الريبة التي أقصاها أن تؤدي إلى هذا، مع أن مقدم البلاغ في حالات الريبة هذه لن يسمح منه إلا التصريح بما شاهده.
7- إذًا في حالة تقديم البلاغ للنيابة لا يوجد تشهير، والوضع القانوني ذاته لن يسمح له باستخدام كلمة زنا؛ لأنه تكييف للجريمة، وهذه من واجبات النيابة، ولكن ماذا لو تكلم بهذا الكلام خارج نطاق تقديم البلاغ للنيابة؟ نقول: لن يكون تقديمه للبلاغ في النيابة مانعا من أن يتهمه الطرف الآخر بالسب والقذف.
8- ثم إن هناك حالات تكون فيها امرأة مستهترة، فتشتهر بين الرجال -والعياذ بالله-، فيداهمها بوليس الآداب ظنًّا منه أنها تمارس الدعارة، ثم إذا وجد أن من عندها من الرجال لا يدفع أجرة تنتفي عنها جريمة الدعارة!
ولكن ماذا عن الزنا الذي ربما يثبت هنا بكونها ضبطت متلبسة وشاهدتها الحملة كلها ويكون عددهم فوق الأربعة، ويمكن أن تكون معترفة، ومع هذا لا يمكن أن تحرك دعوى ضدها؛ إلا أن يأتي الزوج ويقدم شكوى!
ولنا أن نتخيل مقدار الفساد الحاصل عندما يشتهر أمر امرأة كهذه، ويشتهر أن زوجها امتنع عن تقديم شكوى في حقها.
9- ثم إن المتاح في ظل نظام التصويت المتبع في البرلمان أن تقدم تعديلات على المادة، فكان تقديم تعديل على المادة 3 التي تذكر جرائم الشكوى والطلب، ليبقى ما عداها جرائم بلاغ، فكان اقتراح حزب النور بحذف المواد المتعلقة بالزنا من جرائم الشكوى، وفي حالة الرفض كما تم يكون الحزب قد أدَّى ما عليه (بالطبع دفاع من دافع بالتأويل بأنه لا يوجد ما يخالف الشريعة هو في حد ذاته تكريس لمرجعية الشريعة، وهذا أدنى المكاسب مع أنه مكسب مرجعي في غاية الأهمية -بفضل الله تعالى-)، وبالطبع كنا نتمنى أن لو كانت هناك استجابة.
وفي حالة الاستجابة كان سيلزم إعادة صياغة، وساعتها كان يمكن أن نضيف قيد الشهود الأربعة حال كون الاتهام الموجه هو بوجود زنا بمعناه الشرعي، وإلا فقد قدمنا لك: أن الزنا عندهم ليس هو الزنا الشرعي، وأنه جريمة الخيانة الزوجية، أو على حد تعبير المحكمة الدستورية جريمة "عدم الوفاء للطرف الآخر زوجا كان أو زوجة"، ومن ثم تثبت عندهم بمكاتبات ومراسلات ووجود رجل في مكان الحريم.
10- وفي الختام: نسأل الله -تعالى- أن يوفِّق كلَّ مَن يتعامل مع قضايا التقنين والتشريع أن يساهم بكلِّ جهده في تطبيق شريعة الله -تعالى- بين عباده.
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.