الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 09 يناير 2025 - 9 رجب 1446هـ

الفرق بين حقوق الله وحقوق العباد مقارنًا بجرائم البلاغ والشكوى في النُّظُم القانونية المعاصرة مع تطبيقه على قضية الزنا

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ 

أولًا: الفرق بين حقوق الله وحقوق العباد في الشريعة:

صَحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (فَإِنَّ ‌حَقَّ ‌اللهِ ‌عَلَى ‌الْعِبَادِ ‌أَنْ ‌يَعْبُدُوهُ ‌وَلَا ‌يُشْرِكُوا ‌بِهِ ‌شَيْئًا) (متفق عليه)، والعبادة هي الطاعة؛ فحقُّ الله على العباد أن يطيعوه -سبحانه وتعالى-، وهو -عزَّ وجلَّ- وحده الذي له الطاعة المطلقة، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أيضًا مطلقة، ولكن باعتباره مبلِّغًا عن ربِّه -عز وجل- معصومًا في بلاغه، كما قال -تعالى-: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم: 3، 4).

ومن هنا أيضًا قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: 162، 163)، وبهذا الاعتبار، فإن امتثال كل الأوامر الشرعية هو من حق الله -عز وجل- على عباده.

وحتى إن تعلَّق أمر الله ونهيه بحق للعباد، فهو حق لله باعتبار أنه الآمر به، وحق للعبد باعتبار أن الله قد رتَّب له هذا الحق؛ فبرُّ الوالدين حق لله من جهة الأمر به، وحق للوالدين من جهة أنهما يستحقانه.

وهذه الحقوق التي للعباد، إن أعطاهم الله حق إسقاطها صارت من هذه الحيثية وكأنها حقوق خالصة لهم؛ كنفقة الزوجة على الزوج إن أسقطتها عنه وأنفقت من مالها، وكالدائن إذا أسقط السداد عن المدين.

وأما الحقوق التي للعباد والتي لم يُعطهم الله حق إسقاطها، فهي باقية على الأصل من اعتبارها حقًّا لله، فالمرأة المتبرِّجة قد تساهلت في حقِّ نفسها، ولكن هذا لا يُسقط حقها في وجوب غضِّ البصر عنها، لا سيما أن هذا الحق يخص كل ذويها، كما أنه تكليف شرعي على العبد في حدِّ ذاته.

ومن باب أولى: الزنا لا يُسقطه أن يكون بالتراضي، بل يبقى جريمة في حقِّ الله وارتكابًا لكبيرة من أكبر الكبائر؛ قال الله -تعالى- فيها: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا) (الإسراء: 32)، ويتضاعف إثمه لو كان اغتصابًا -والعياذ بالله-.

وقد اهتمَّ العلماء المعنيون بالقواعد والفروق الفقهية بهذا الأمر لشِدَّة حاجة القضاة إليه في الفصل بين الناس؛ قال الإمام القرافي -رحمه الله- في كتابه: "الفروق": "(الفرق الثاني والعشرون بين قاعدة حقوق الله -تعالى- وقاعدة حقوق الآدميين): فحق الله: أمره ونهيه، وحق العبد: مصالحه. والتكاليف على ثلاثة أقسام: حق الله تعالى فقط: كالإيمان، وتحريم الكفر، وحق العباد فقط: كالديون والأثمان، وقسم اختلف فيه: هل يغلَّب فيه حق الله أو حق العبد؛ كحد القذف. ونعني بحق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط، وإلا فما من حقٍّ للعبد إلا وفيه حق لله -تعالى-، وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه. فيوجد حق الله -تعالى- دون حق العبد، ولا يوجد حق العبد إلا وفيه حق الله -تعالى-. وإنما يُعرف ذلك بصحة الإسقاط، فكل ما للعبد إسقاطه فهو الذي نعني به حق العبد، وكل ما ليس له إسقاطه فهو الذي نعني بأنه حق الله -تعالى-. وقد يوجد حق الله -تعالى-، وهو ما ليس للعبد إسقاطه ويكون معه حق العبد، كتحريمه -تعالى- لعقود الربا والغرر والجهالات".

ثم قال: "كذلك تحريمه -تعالى- المسكرات صونًا لمصلحة عقل العبد عليه، وحرم السرقة صونًا لماله، والزنا صونًا لنسبه، والقذف صونًا لعرضه، والقتل والجرح صونًا لمهجته وأعضائه ومنافعها عليه. ولو رضي العبد بإسقاط حقه من ذلك لم يُعتبر رضاه ولم ينفذ إسقاطه".

ثانيًا: القابلية للصلح في قانون الإجراءات الجنائية المصري:

قانون العقوبات يصف الجرائم ويُبيِّن العقوبة المقرَّرة لكلٍّ منها، ويُبيِّن أيضًا في بعض مواده مدى قابلية الجريمة للصلح أو التنازل بين المدَّعي والمدَّعى عليه؛ إلا أن هذا الموضوع الأخير، وهو مدى القابلية للصلح، يُذكر بشكل أكثر تفصيلًا في قانون الإجراءات الجنائية، وهو قانون يرسم الإجراءات التي يمكن للمجتمع ككل أن يقيم دعواه على الخارجين على نظامه (قانونِه)، ويرسم هذه الإجراءات من إقامة الدعوى إلى التحقيق فيها إلى إحالتها للقضاء، إلى تنظيم ما يتم في نظر القضية أمام القضاء.

والملاحظ هنا: أن المعيار الذي أخذ به القانون هو عين المعيار الشرعي "القابلية للإسقاط"؛ إلا أن هناك فرقًا جوهريًّا؛ وهو: أن الشريعة جاءت أحكامها مفصَّلة، ومِن استقرائها علمنا ما يقبل الإسقاط وما لا يقبل، وهو في كلِّ الأحوال حكم لله -عز وجل-، فلا يجوز نقل مسألة ما من هذا القسم إلى ذلك القسم، بينما القوانين الوضعية أعطت البشر حقَّ التشريع من دون الله -والعياذ بالله-، وهذا مستقر في القوانين الأوروبية، وللأسف غزانا ذلك قهرًا مع الاحتلال، أو مع ضغوط ما قبل الاحتلال بإدخال المحاكم "الأجنبية" بقوانينها "الأجنبية" (وهي هنا أجنبية تمامًا عن الأمة وشريعتها ودينها، وقيمها وتقاليدها).

وإلا، فهل يقبل مصري -مسلمًا كان أو غير مسلم- أن تزني ابنته -والعياذ بالله- متى جاوزت الـ 18 عامًا، وألا يملك لها أمام القانون شيئًا على الإطلاق؟  

بالطبع، الأصل هو تربية الأبناء على الدِّين ومكارم الأخلاق، لكن نقول: حال حدوث الانحراف -وهو يحصل- هل يوجد مَن يقبل هذا؟  

إذًا، من أي مستنقع غزانا هذا القانون، وهو أجنبي عنا بكل ما تحمله كلمة "أجنبي" من معانٍ؟  

المهم أن القانون الوضعي في بيئته الأوروبية أو في البيئة التي وفد عليها في بلادنا، وفي ظل لحظة انعدام وزن حضاري، جاءنا كحق تشريع مطلق (وقد تداركت الأمة في بلادنا -مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي- فسارعوا إلى كتابة دساتير تقيد سلطات الدولة الثلاث بمرجعية الشريعة الإسلامية؛ إلا أن قوانين كانت قد أفلتت واعتُذر عن إعمال الأثر الفوري لهذه المواد الدستورية بأن الإبطال الفوري لكل القوانين المخالفة للشريعة من شأنه أن يُحدث فراغًا دستوريًّا وقانونيًّا هائلًا).  

ومع هذا، فلا يكاد يوجد تحرك حقيقي لتنقية القانون مما يخالف الشريعة إلا عرضًا عند تعديل قانون، فتجد البرلمانات ملتزمة بأن يكون القانون موافقًا للشريعة لكي يكون دستوريًّا.  

المهم أن معيار القابلية للتصالح وإن كانت القوانين المعاصرة قد سارت فيها على خطى الشريعة إلا أن التفاصيل في القانون الوضعي وضعها البشرُ المشرِّعون من دون الله، ومِن ثَمَّ فقد حدث ما أخبر الله به: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (النساء: 82).  

وغالبا ما يستعمل في الكلام القانوني مصطلح "جريمة شخصية" في مقابل "جريمة في حق المجتمع".  

ثالثًا: دور النيابة العامة:

النيابة العامة جهة قضائية مهمتها إقامة الدعوى العامة ومباشرة إجراءاتها أمام الجهات والمحاكم المختصة بذلك، وتنتهي مهمتها، بالنسبة للدعوى العامة، بصدور حكم بات فيها من المحاكم؛ سواء بالإدانة أو بالبراءة.  

ومن المعلوم أن القانون المدني قانون خاص ينظم العلاقة بين أطراف العمليات المدنية، وبالتالي عند وجود خلاف، فأحدهما هو من يرفع دعوى على خصمه إلى المحكمة المختصة، بينما قانون العقوبات قانون عام يعبر عن التزام الدولة واحتكارها لحق إيقاع العقوبة على المخالفين للقانون، وبالتالي فلا بد من وجود جهة ما في الدولة تكون هي المسؤولة عن رفع الدعوى أمام القضاء، حتى في الوقائع التي فيها اعتداء على آخرين؛ مثل: السرقة، والاغتصاب، ونحوها، وهذه الجهة هي النيابة العامة. فهي من تملك المراحل الثلاثة التي تمر بها الدعوى:  

الأولى: تحريك الدعوى أو مباشرة التحقيقات الأولية مع المتهمين.

الثانية: رفع الدعوى إلى المحكمة المختصة في حالة أنها رأت وجود أركان جريمة، ومِن ثَمَّ فهي تطالب المحكمة باتخاذ اللازم تجاه المتهم.

الثالثة: مباشرة الدعوى، وهو: الحضور كخصم للمتهم في جلسات المحاكمة.

ويمكن للمجني عليه أن ينضم في جانب النيابة ضد المتهم لكي يتسنى له المطالبة بالتعويضات المناسبة أمام القضاء المدني في حالة إدانة المتهم أمام محكمة الجنايات؛ كما أن ضباط الشرطة وغيرهم ممَّن لهم حق الضبطية القضائية يكون توصيفهم بمجرد تسليم المتهم إلى النيابة وحتى انقضاء الدعوى، أنهم شهود على الواقعة، وبالتالي تأخذ النيابة أقوالهم وتناقشهم فيها بهذا الاعتبار، وكذلك أمام القضاء. 

رابعًا: طرق معرفة النيابة العامة بوجود محل للتهمة بجريمة ما:

لم يقصر القانون طريقة معرفة النيابة بوجود محل للتهمة على وسيلة واحدة، فبأي وسيلة انتهى علم النيابة إلى وجود مظنة للجريمة يمكنها تحريك الدعوى بالأمر باستدعاء المتهمين ومباشرة التحقيق معهم، ونحو ذلك، كما تقدَّم من المراحل الثلاثة لدور النيابة في الدعوى (التحريك - الرفع - المباشرة).  

وقد ذكر القانون من جملة الوسائل (البلاغ إلى النيابة العامة من المواطنين).  

وكانت هناك وسيلة أخرى في القانون تسمى الحسبة، وهي حق رفع الدعوى إلى القضاء من غير ذي صفة، أخذًا من المبدأ الشرعي بمشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.  

وقد واصلت الجمعيات الحقوقية التي تنطلق من أسس عالمانية ضغوطها حتى تم إلغاء مبدأ الحسبة من القوانين، ومع هذا قلنا أن البلاغ إلى النيابة العامة يقوم مقامه. صحيح أنه لم يجعل أن من حق المحتسب أن يرفع الدعوى إلى القضاء، وإنما إلى النيابة باعتبارها جهة تحقيق، وهي يمكنها أن تحرك الدعوى أو لا.  

خامسًا: (جرائم البلاغ - جرائم الشكوى - جرائم الطلب - جرائم الإذن):

بعد أن رسم القانون طريقًا وحيدًا يمكن من خلاله أن يقوم المواطنون بمساعدة النيابة في التصدي للخارجين عن القانون "وهو البلاغ"؛ عاد فوضع القانون قيدًا على النيابة العامة ذاتها في التعامل مع بعض الجرائم، وبالتالي صارت الجرائم الأخرى التي لا تغل فيها يد النيابة تسمَّى: جرائم بلاغ، وفيها يمكن للنيابة العامة أن تحرِّك الدعوى بناءً على علمها بأي وسيلة أو بناءً على بلاغ من مواطن، ولا يشترط أن يكون ذا صفة، أو يكون متضررًا ضررًا مباشرًا من الجريمة. 

وهي بالاصطلاح الآخر: الجرائم التي اعتبر فيها القانون أن حق المجتمع فيها أظهر من حقِّ المجني عليه.  

وأما الجرائم التي رأى واضعو القانون أنها جرائم شخصية، فلم يعطوا النيابة العامة الحق في التعامل مع الدعوى (تحريكًا ولا رفعًا، ولا مباشرة من باب أولى)؛ إلا إذا قُدِّمت لهم شكوى من ذي صفة، فإذا كانت الجريمة في حق شخص عادي؛ فقد اصطلح القانون على تسمية ما يقدمه للنيابة العامة: شكوى، وسميت هذه الجرائم: بجرائم الشكوى.  

وإن كانت الجريمة في حق شخصية اعتبارية؛ فقد اصطلح القانون على تسمية ما تقدمه هذه الجهة: بالطلب، وسميت هذه الجرائم: بجرائم الطلب.  

وبالتالي تنقسم الجرائم في القانون إلى ثلاثة أنواع:  

- جرائم البلاغ: وهي الجرائم التي يرى واضعو القانون أنها جرائم في حقِّ المجتمع.  

- جرائم الشكوى: وهي الجرائم التي يرى واضعو القانون أنها جرائم في حقِّ شخصية عادية.  

- جرائم الطلب: وهي الجرائم التي يرى واضعو القانون أنها جرائم في حقِّ شخصية اعتبارية.  

وكلٌّ من هذه الأنواع الثلاثة، لو كان المشكو في حقه يتمتع بحصانة، فلا تملك النيابة أيضًا تحريك الدعوى، ولا رفعها ولا مباشرتها إلا بعد الحصول على إذنٍ من الجهة التي يشترطها القانون لكلِّ نوع من أنواع الحصانة. 

وبهذا يتضح أن واضعي القوانين الوضعية قد فرقوا بين الجرائم التي في حق المجتمع والجرائم التي في حق الأشخاص، وأنهم ساروا فيها من حيث الأصل على ما قرَّره الفقهاء، ولكن الآفة الكبرى تظهر في ثنايا تشريعاتهم، والتي ذهبوا في بعضها إلى ما يخالف الشريعة والفطرة، ولعل من أبرزها: قضية اعتبار المعاشرة الجنسية مباحة الأصل ولا تُمنع إلا لسبب إضافي يدور معه المنع وجودًا وعدمًا، ومن ذلك: حالة الخيانة الزوجية التي يقْصِر القانون الفرنسي الصادر سنة 1883 مصطلح "الزنا" عليها قبل أن ينتهي به الحال في عام 1975 إلى أن يحذف حتى هذه الحالة "حالة الخيانة الزوجية" من القانون.

الزنا بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي:

أولًا: العلاقات الجنسية بين الشريعة الإلهية والقوانين الوضعية:

من أكثر موارد اللبس في هذه القضية أننا عندما نتحدث عن الزنا بين الشريعة الإلهية والقوانين الوضعية "وبالأخص القانون الفرنسي"؛ الذي أصبح هو المصدر الرئيسي للقوانين المعاصرة حتى في بلاد المسلمين -للأسف الشديد-؛ أقول من أكثر مواطن اللبس: هو الظن بأننا نتحدث عن دلالة متطابقة أو متقاربة لكلمة الزنا، ولكن الواقع أن الأمر ليس كذلك.

فإذا رجعنا إلى الخلف خطوة؛ سنكتشف البون الشاسع بين شريعة رب العالمين وحثالة أفكار الفرنسيين، وذلك بطرح سؤال حول حكم العلاقة الجنسية في الإسلام وفي القانون الفرنسي، وسنجد الإجابة هي: أن الإسلام قد منع العلاقة الجنسية، بل منع الوسائل التي يمكن أن يجعلها تطرأ على الذهن أصلًا، إلا من خلال عقد زواج، أو ما يشابهه من ملك اليمين؛ كما قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (المؤمنون: 5-7).

ومن ثَمَّ فالزنا هو وجود تلك العلاقة بغير هذا الميثاق الغليظ، الذي يجعلها مباحة بعد ما كانت ممنوعة، هي وحزمة كبيرة من الأمور التي ما منعت إلا لكونها مظنة تهييج تلك الرغبة، في حين سنجد أن العلاقة الجنسية في الفلسفة الغربية هي متعة ولذة يسعون إلى الحصول عليها وتوسيع نطاقها، ولا يحتملون الاقتراب منها بالضبط أو التقييد.

وفي فلسفة اللذة عند المدارس العالمانية والليبرالية، والتي ينطلق منها القانون الفرنسي؛ فإن العلاقة الجنسية مباحة لا تحرَّم إلا لمعنى يتعارض مع الليبرالية، وهذه المعاني هي: الإكراه، وهنا يكون المصطلح الذي تسمَّى به هذه الجريمة هو: "الاغتصاب".

مواقعة قاصر: وهذه أيضًا لا تسمى -عندهم- زنا؛ بل تسمى بهذا الاسم: العلاقة الجنسية مقابل أجر، وهذه تجرمها بعض القوانين الأوروبية، ويبيحها البعض الآخر، وهذه تسمى: "دعارة".

الإتيان بأفعال جنسية في موقع غير ملائم: وهي أمور تتفاوت من قانون إلى آخر، والجريمة هنا ليست العلاقة الجنسية، وإنما في هذه الأوصاف الإضافية؛ يعني لو فعل اثنان متزوجان هذه الأمور فسوف يعاقبان بنفس ما يعاقب به غير المتزوجين.

وأخيرًا: فإنهم اعتبروا أن زنا أحد المتزوجين دون عِلْم الآخر جريمة في حقِّ هذا الطرف الآخر، وأن هذه الجريمة تسقط متى كان الطرف الثاني يقع في ذات الجريمة! وهنا ولأن الزواج بقيت له ظلال دينية، فمعظم الناس يعقدونه في الكنيسة، ولأن مصطلح "الزنا" أيضًا مصطلح له ظلال دينية؛ فقد تفتق ذهنهم عن أن يسموا تلك الجريمة: بالزنا، ومن هنا فمصطلحي: الزنا، والخيانة الزوجية مصطلحان مترادفان، وكلاهما جريمة، وهي حالة خاصة جدًّا من جريمة الزنا في الشريعة الإسلامية، بل وفي كتب أهل الكتاب الموجودة حتى الآن، ولقد جاء في الموسوعة الكبيرة الفرنسية "مورداس BORDAS أن الزنا هو علاقة، وهو زنا يرتكبه شخص متزوج مع شخص متزوج".

وكفرع على هذا التعريف؛ فالنتيجة الطبيعية أن يعتبر القانون الفرنسي الزنا (الخيانة الزوجية) جريمة خاصة، بل ويجعل وقوع كلٍّ من الطرفين فيها هو نوع من الإسقاط المتبادل لحقِّ كلٍّ منهما، بل وتنص كثير من شروح القانون الفرنسي على أن الغرض من جعل الزنا (الذي لا يعني عندهم إلا الخيانة الزوجية) جريمة؛ هو: أنهم يريدون أن يرتبوا عليها حق الطلاق، ولولا هذا لما عدوه جريمة أصلًا! ولعدوه من العادات التي توصف بعدم اللياقة، ولكنها لا ترقى إلى أن تدرج في القانون، كعلو الصوت مثلًا!

وقد انتهى القانون الفرنسي في نهاية المطاف في تعديلات سنة 1975 إلى عدم اعتبار الزنا (الذي هو عندهم الخيانة الزوجية) جريمة، وقالوا: إننا لن نقحم القانون في مادة غير ملائمة قانونًا لمجرد توفير الشروط اللازمة لإجراء كنسي، الذي هو الطلاق.

ثانيًا: الاحتلال الإنجليزي يكرهنا على تطبيق القانون الفرنسي، وإلى الآن لم نتخلص من بقايا ذلك، وإن تمت تحسينات طفيفة:

أخذ القانون المصري أحكام الزنا من قانون العقوبات الفرنسي الصادر سنة 1883م، وقد كانت المادة 239 من القانون المصري الصادر سنة 1883م، والمعدَّل بالقانون الصادر سنة 1904 لا تعاقب الزوج إلا إذا زنا أكثر من مرة بمنزل الزوجية بامرأة يكون قد أعدَّها لهذا، ثم عُدِّل هذا النص في سنة 1937م ، إلى النص المبين في المادة 277 من قانون العقوبات والذي ينص على عقاب كل زوج زنا في منزل الزوجية وثبت عليه الأمر بدعوى الزوجة!

وهنا نجد أن القانون يحدِّثنا عن زنا الرجل المتزوج وزنا المرأة المتزوجة؛ فتتوهم أن هناك زنا لغير المتزوجين، ولكن ستجد أن القانون قد سكت عنه! 

ومن المعلوم: أن القوانين تفسَّر على ضوء القاعدة التي أدرجت تقريبًا في كلِّ القوانين المعاصرة "لا جريمة ولا عقاب إلا بنص"، ومِن ثَمَّ فالمسكوت عنه في القانون الجنائي يعني عدم المؤاخذة.

نعم سنجد المحاولات المرتعشة للتخلص من الجذر الفرنسي للقانون؛ كان أولها هو تلك الإشارة إلى أن الزنا قد يكون أعم من زنا المتزوجين، ولكن المحصلة في النهاية أنه لا عقوبة على الزنا إلا في حالة زنا المتزوجين، وأما كل الحالات الأخرى فالمُجرَّم فيها شيء آخر: الإكراه أو التغرير أو احتراف البغاء، ونحو ذلك.

أيضًا كانت المادة لا تعاقب إلا بتكرار الواقعة، وتم تعديل هذا في قانون 1937، وهذه القوانين استهدفت، ومنذ التعديل الذي تم سنة 1937 بعدة تعديلات تقرِّب الأمر من الفطر السوية شيئًا ما، وإلا فإن كل انحراف عن الشريعة يعني انحرافًا عن الفطرة أيضًا.

ومن ذلك: اقتراح بجعل جريمة الزنا جريمة في حق أقارب الدرجة الأولى كلهم.

ومنها: اقتراح ذكره الدكتور محمد بهاء أبو شقة -رئيس اللجنة التشريعية في مجلس الشعب- والذي طالب بحذف حق الزوج في إيقاف عقوبة زوجته الزانية، كما نقلته عنه جريدة اليوم السابع في تحقيق نشر في تاريخ 4 يناير 2020م.