كتبه/ طلعت مرزوق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمِمَا استدل به أهل السُّنة والجماعة على عدم فناء النار ما يلي:
- إخباره عزَّ وجلَّ أن أهلها مِمَن ماتوا على الشرك مِن غير توبة خالدين فيها أبدًا: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (النساء: 168، 169)، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (الأحزاب: 64)، وقال: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (الجن: 23).
وتَأبيدُ الخالِدِ يَدُلُّ على تَأبيدِ مَكانِ الخُلُودِ ضَرُورةً، وإلَّا فكيفَ يَكُونُ خالِدًا في غيرِ مَحَلٍّ؟! هذا مُستَحيلٌ.
- إخباره تعالى بعدم خروجهم منها: قال تعالى: (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة: 167)، وقال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) (المائدة: 37)، وقال تعالى: (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) (الحِجر: 48)، وقال تعالى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا) (السجدة: 30).
وما أخرجه أحمد وابن ماجه -واللفظ له- وابن حبان من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (يُؤْتَى بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوقَفُ عَلَى الصِّرَاطِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَطَّلِعُونَ خَائِفِينَ وَجِلِينَ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَطَّلِعُونَ مُسْتَبْشِرِينَ فَرِحِينَ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ، فَيُقَالُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْفَرِيقَيْنِ كِلَاهُمَا: خُلُودٌ فِيمَا تَجِدُونَ، لَا مَوْتَ فِيهَا أَبَدًا) (قال الألباني: حسنٌ صحيح).
وقال تعالى: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) (النساء: 56)، وقال تعالى: (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) (فاطر: 36)، وقال تعالى: (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (الزخرف: 75)، وقال تعالى: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) (الزخرف: 77).
ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (يُدْخِلُ اللهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَيُدْخِلُ أَهْلَ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ فَيَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، كُلٌّ خَالِدٌ فِيمَا هُوَ فِيهِ)، وحديث أنس -رضي الله عنه- المتفق عليه الذي ورد في شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيه قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ القُرْآنُ)، وكان قتادة يقول عند هذا: "أي: وجب عليه الخلود".
وما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ - أَوْ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ- فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا، أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ).
وأما قوله تعالى: (قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) (الأنعام، 128)، وقوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ . خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (هود: 106، 107)، فليس المراد بالاستثناء في الآيتين الإخراج، وإنما هو استثناء معلق بالمشيئة.
وقد قيل في هذا الاستثناء: أن المقصود به مُدة لبثهم في الدنيا، أو ما دامت سماوات الآخرة وأرضها إلا مقدار وقوفهم في القيامة، أو ما شاء أن يُخرجهم مِن أهل التوحيد، وقيل: غير ذلك.
ومِن أقوالِ أهلِ العِلمِ في مَسألةِ بَقاءِ الجَنَّةِ والنَّارِ دُونَ فَناءٍ:
- قال أبُو حاتِمٍ وأبُو زُرعةَ الرَّازيَّان: (أدرَكْنا العُلَماءَ في جَميعِ الأمصارِ -حِجازًا وعِراقًا وشامًا ويَمَنًا- فكانَ مِن مَذْهَبِهم ... الجَنَّةُ حَقٌّ والنَّارُ حَقٌّ، وهما مَخلُوقانِ لا يَفنيانِ أبَدًا) .
- قال الآجُريُّ: (الإيمانُ والتَّصديقُ بأنَّ الجَنَّةَ والنَّارَ مَخلُوقَتانِ وأنَّ نَعيمَ الجَنَّةِ لا يَنقَطِعُ عَن أهلِها أبَدًا، وأنَّ عَذابَ النَّارِ لا يَنقَطِعُ عَن أهلِها أبَدًا) .
- قال ابنُ أبي زمنين: (أهلُ السُّنَّةِ يُؤمِنُونَ بأنَّ الجَنَّةَ والنَّارَ لا يَفنيانِ، ولا يَمُوتُ أهلُوها) .
- قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (قال أهلُ السُّنَّةِ: إنَّ الجَنَّةَ والنَّارَ مَخلُوقَتانِ، وأنَّهما لا تبيدانِ) .
- قال أبُو القاسِمِ الأصبهانيُّ: (أهلُ السُّنَّةِ يَعتَقِدُونَ أنَّ الجَنَّةَ والنَّارَ خُلِقَتا لِلبَقاءِ ولا يَفنيانِ أبَدًا) .
- قال ابنُ باز: "ابنُ تيميَّةَ وغيرُه مِنَ السَّلَفِ، كُلُّهم يَقُولُونَ: إنَّ أهلَ الكُفرِ مُخَلَّدُونَ في النَّارِ، وأهلَ الجَنَّةِ مُخَلَّدُونَ في الجَنَّةِ؛ هذا بإجماعِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: أنَّ أهلَ الجَنَّةِ مُخَلَّدُونَ أبَدَ الآبادِ، ولا مَوتَ فيها ولا فَناءَ، بَل هي دائِمةٌ وأهلُها دائِمُون، وذَهَبَ بَعضُ السَّلَفِ إلى أنَّ النَّارَ لَها نِهايةٌ، وأنَّها بَعدَ مُضيِّ الأحقابِ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا لَها نِهايةٌ تَفنى، ولَكِنَّه قَولٌ ضَعيفٌ ساقِطٌ مَردُودٌ، والَّذي عليه جُمهورُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّ النَّارَ باقيةٌ ومُستَمِرَّةٌ ولا تَفنى أبَدًا، وأهلُها كَذَلِكَ أهلُها مِنَ الكَفَرةِ، مُعذَّبُونَ فيها دائِمًا، نَسألُ اللهَ العافيةَ، كَما قال اللهُ -جَلَّ وعلا- في كِتابه العَظيمِ، في سُورةِ البَقرةِ: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)، وقال عَزَّ وجَلَّ: (يُريدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) وقال تعالى: (لَاِبِثينَ فِيهَا أَحْقَابًا) إلى أنْ قال: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا) يَعني: أحقابًا، كُلَّما مَضى أحقابٌ جاءَ بَعدَها أحقابٌ، قال تعالى: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) فهي مُستَمِرَّةٌ نَسألُ اللهَ العافيةَ.
وأهلُها كَذَلِكَ يُقيمُونَ فيها أبَدًا وهمُ الكُفَّارُ، أمَّا العُصاةُ فلَهم أمَدٌ، عُصاةُ المُوحِّدينَ لَهم أمَدٌ، إذا دَخَلُوها يَخرُجُونَ مِنها بَعدَما يُطَهَّرُونَ، العُصاةَ مِنهم مَن يُعفى عَنه ولا يَدخُلُها، ومِنهم مَن يَدخُلُها وإذا طُهِّرَ أَخرَجَه اللهُ مِنها، وصارَ إلى الجَنَّةِ، ولا يَبقى في النَّارِ ويُخلَّدُ فيها أَبَدَ الآبادِ إلَّا الكُفَّارُ الَّذينَ ماتُوا على الكُفرِ باللهِ، نَسألُ اللهَ العافيةَ".