الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 04 ديسمبر 2024 - 3 جمادى الثانية 1446هـ

بطلان القول بفناء النار (2)

كتبه/ طلعت مرزوق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قرَّر ابن القيم -رحمه الله- في معرض استدلاله، أو إيراده لاستدلال من يقول بفناء النار -وهو قول خاطئ-: أن دوام عذاب النار إلى الأبد لا مصلحة فيه -لا للمعاقِب، ولا للمعاقَب، ولا لغيرهما-؛ فلزم أنه يبقى إلى أجل يوافق الحكمة، وهي إنقاء أهل النار من الكفار من دنس كفرهم؛ فتبقى النار إلى هذا الأجل، ثم تفنى؛ فيكون عذابها مصلحة للمعاقَب؛ لما يترتب عليها من زوال خبثه، ومن ثم؛ فناء عذابه!

وقد دندن ابن القيم حول هذا المعنى في عدة مواضع من كتبه؛ منها كتاب: (الصواعق المرسلة)، فقال: -كما في مختصر البعلي-: "العقوبة الدائمة إما أن تكون مصلحة للمعاقِب، أو للمعاقَب، أو لهما، أو لغيرهما، أو لا مصلحة فيها البتة، والأقسام كلها باطلة؛ أما المعاقِب: فإنه إنما تكون العقوبة مصلحة في حقه إذا كان محتاجًا إليها لشفاء غيظه، وإطفاء نار غضبه التي يتأذّى ببقائها، والله تعالى منزَّه عن ذلك كله، فلم يبلغ العباد ضرّه فيضروه، ولا نفعه فينفعوه... وأما أنه لا مصلحة للمعاقَب، ولا لغيره في ذلك فظاهر؛ فتعيّن القسم الأخير، وهو أنه لا مصلحة فيها، وما كان كذلك؛ فهو عبث، يتعالى الله عنه...

وهذا بخلاف ما إذا قيل: وضعت العقوبة لمصلحة، وتقدّرت بقدرها، فإذا حصلت الحكمة، والغاية المطلوبة منها، وترتب المصلحة التي قصدت بها؛ عاد الأمر إلى الرحمة، والجود" (انتهى).

وتناول بيان سعة رحمة الله، وأنها شاملة، وأنها تسبق غضبه، وتغلبه، ثم قال: "وكل هذا ينفي أن يخلق خلقًا لمجرد عذابه السرمدي الذي لا انتهاء له، ولا انقضاء، لا لحكمة مطلوبة، إلا لمجرد التعذيب، والألم الزائد على الحدِّ، فما قدَّر الله حق قدره مَن نسب إليه ذلك، بخلاف ما إذا خلقهم ليرحمهم، ويحسن إليهم، وينعم عليهم، فاكتسبوا ما أغضبه وأسخطه، فأصابهم من عذابه وعقوبته بحسب ذلك العارض الذي اكتسبوا، ثم اضمحل سبب العقوبة، وزال، وعاد مقتضى الرحمة؛ فهذا هو الذي يليق برحمة أرحم الراحمين، وحكمة أحكم الحاكمين...

وهذا يدل على أنها خلقت لمصلحة من دخلها؛ لتذيب فضلاته، وأوساخه، وأدرانه، وتطهره من خبثه، ونجاسته، كالكير الذي يخرج خبث الجواهر المنتفع بها، ولمصلحة من لم يدخلها؛ ليردعه ذكرها، والخبر عنها عن ظلمه، وغيِّه؛ فليست الداران عند الله سواء في الأسباب، والغايات، والحكم، والمصالح؛ يوضح ذلك: أن الله -تعالى- لا يعذّب أحدًا إلا لحكمة، ولا يضع عذابه إلا في المحل الذي يليق به... وكيف يخلو أعظم العقوبات عن حكمة، ومصلحة، ورحمة، إن مصدرها عن تقدير أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين. والجنة طيبة، لا يدخلها إلا طيب؛ ولهذا يدخل النار من أهل التوحيد من فيه خبث وشر؛ حتى يتطهّر فيها، ويطيب...

ومعلوم أن النفوس الشريرة الظالمة المظلمة الأثيمة، لا تصلح لتلك الدار التي هي دار الطيبين، ولو ردّت إلى الدنيا قبل العذاب؛ لعادت لما نهيت عنه، فلا تصلح لدار السلام التي سلمت من كل عيب، وآفة؛ فاقتضت الحكمة تعذيب هذه النفوس عذابًا يطهّر نفوسهم من ذلك الشر، والخبث، ويكون مصلحة لهم، ورحمة بهم ذلك العذاب، وهذا معقول في الحكمة، أما خلق النفوس لمجرد العذاب السرمدي لا لحكمة، ولا لمصلحة؛ فتأباه حكمة أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين" (انتهى).

وقال بعد ذلك: "ولنرجع إلى المقصود؛ وهو: أن الذين قالوا: عذاب الكفار مصلحة لهم، ورحمة لهم، حاموا حول هذا المعنى، ولم يقتحموا لجته؛ وإلا فأي مصلحة لهم في عذاب لا ينقطع، وهو دائم بدوام الرب -تعالى-؛ فتأمل هذا الوجه حق التأمّل، وأعطه حقّه من النظر، واجمع بين ذلك وبين معاني أسمائه وصفاته، وما دلَّ عليه كلام الله، وكلام رسوله، وما قاله الصحابة، ومن بعدهم، ولا تبادر إلى القول بلا علم، ولا إلى الإنكار، فإن أسفر لك صبح الصواب، وإلا فردّ الحكم إلى ما ردّه الله إليه بقوله: (إِنَّ رَبَّكَ ‌فَعَّالٌ ‌لِمَا ‌يُرِيدُ) (هود: 107)، وتمسك بقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وقد ذكر دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ووصف حالهم، ثم قال: ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء" (انتهى).

وفي هذا الكلام الأخير نوع توقّف، أو بيان للإشكال الكبير في مسألة فناء النار!

وقد اضطرب فيها قول ابن القيم نفسه، فقوَّى هذا القول، وتوسع في الاستدلال له في بعض كتبه، ككتاب: الصواعق الذي نقلنا منه، وكتاب: (حادي الأرواح)، وكتاب: (شفاء العليل).

وله قول آخر، وهو الموافق لمذهب أهل السنة في أبدية النار، وعدم فنائها، وذكر ذلك في كتابيه: (الوابل الصيب)، و(طريق الهجرتين)؛ فقد قال في الوابل الصيب: "وأما النار فإنها دار الخبث في الأقوال والأعمال والمآكل والمشارب ودار الخبيثين، فالله -تعالى- يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه كما يركم الشيء المتراكب بعضه على بعض ثم يجعله في جهنم مع أهله، فليس فيها إلا خبيث، ولما كان الناس على ثلاث طبقات: طيب لا يشينه خبث، وخبيث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب، كانت دورهم ثلاثة: دار الطيب المحض، ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان، ودار لمن معه خبث وطيب وهي الدار التي تفنى، وهي دار العصاة، فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد، فإنه إذا عذبوا بقدر جزائهم أخرجوا من النار فأدخلوا الجنة ولا يبقى إلا دار الطيب المحض ودار الخبيث المحض" (انتهى).

وعلى هذا، فإن إطلاق القول بأن ابن القيم يقول بفناء النار غلط عليه؛ إذ تبيَّن لك أن له قولين، وإنما البحث هو في أي القولين هو المتأخر الناسخ للأول؟

ولقد غلَّب بعض الباحثين الظن بأن ما قاله ابن القيم في (الوابل الصيب) و(طريق الهجرتين) ناسخ لما ذكره في (حادي الأرواح)، و(شفاء العليل)، و(الصواعق المرسلة)، وأيَّد هذا الاستنتاج ببعض الحجج (انظرها في: كتاب كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار لعلي الحربي، طبعة دار طيبة).

أما القول بأن فناء النار أُثِرَ عن بعض السلف كعمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، فهذه الآثار إما لا تصح نسبتها إليهم، أو أنها محمولة على وجهٍ أخر غير القول بفناء النار. (حاشية شرح العقيدة الطحاوية لابن أبى العز بتحقيق الأرناؤوط).

وأما شبهة انتفاء العدل بخلود أهل النار، فقال الشيخ العلامة الشنقيطي في مجالسه في التفسير: "جواب هذه الشبهة الباردة الملحدة أن الخبث والكفر الذي انطوت عليه قلوبهم، وتمرَّدُوا بِسَبَبِه على الله منطوية عليه قلوبهم أبدًا، لا يزول منها أبدًا، فكان العذاب أَبَدِيًّا سرمديًّا؛ لأن سبب ارتكابه كان في القلب أبدي سرمدي، والآيات الدالة على هذا كثيرة؛ كَقَوْلِهِ -تَعَالى- عنهم أنهم لما عاينوا النار ورأوا عذاب الله، وعظمة النار، وهول ذلك الموقف، وتمنَّوا الرجوع إلى دار الدنيا مرة أخرى ليطيعوا الرسل، ويعودوا إلى رضا الله، وتمنوا ذلك فقالوا: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الأنعام: 27)، بيَّن الله أن ذلك الخبث الذي كان في قلوبهم في دار الدنيا لم يَزُل أبدًا حتى بعد الموت، ومعاينة النار، ومعاينة العذاب، قال وهو أصدق من يقول: (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (الأنعام: 28)، فهو يبيِّن أنهم كلما ردوا إلى الدنيا رجعوا إلى الكفر، وأن أصل ذلك الكفر كامن في قلوبهم لا يزول.

ومما يوضحه قوله في الأنفال: (وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاَّسْمَعَهُمْ) (خيرًا) نكرة في سياق الشرط، فهي تعم. معناه: أنّ الله لا يعلم في قلوبهم خيرًا أبدًا في وقتٍ من الأوقات كائنًا ما كان، ولا زمن من الأزمان. ثم قال على الفرض: (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ) (الأنفال: 23)، فتبيَّن أن ذلك الشر الذي عصوا به الرسل، وتمردوا به على الله دائم لا يزول، فكان جزاؤه دائمًا لا يزول، فتطابق الجزاء والعمل؛ ولذا قال -تعالى-: (جَزَآءً وِفَاقًا) (النبأ: 26) أي: جزاءً موافقًا لأعمالهم، وهذا معنى قوله: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (الأعراف: 36).

فالله -تعالى- هو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وأفعاله -سبحانه- كلها عدل وحكمة، ومن ذلك حكمه بخلود الكفار في النار، فالنية والقصد والعزيمة لها أثر في حصول عذاب الآخرة، نحو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا ‌الْتَقَى ‌الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: (إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ) (متفق عليه).

قال النووي -رحمه الله-: "فيه دلالة للمذهب الصحيح الذي عليه الجمهور أن مَن نوى المعصية وأصر على النية يكون آثمًا، وإن لم يفعلها ولا تكلم" (شرح النووي على مسلم).

وبهذا أجاب كثيرٌ من أهل العلم عن علة خلود الكفار في النار؛ رغم أن مدة بقائهم ومعصيتهم في الدنيا كانت محدودة؛ قال أبو بكر الحصني في دفع شبه مَن شبه وتمرد: "لأن العذاب يدوم بدوام سببه بلا شك ولا ريب، وهو قصد الكفر وبقاء العزم عليه، ولا شك أنهم لو عاشوا أبد الآباد لاستمروا على كفرهم، وكذلك المؤمن يستحق الخلود".

وقد ذكر ابن القيم هذه العلة في معرض بيان حجة من قال بعدم فناء النار فيما نقله في حادي الأرواح: "سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان السبب عارضًا كمعاصي الموحدين؛ أما إذا كان لازمًا كالكفر والشرك فإن أثره لا يزول كما لا يزول السبب، وقد أشار -سبحانه- إلى هذا المعنى بعينه في مواضع من كتابه؛ منها: قوله -تعالى-: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)؛ فهذا إخبار بأن نفوسهم وطبائعهم لا تقتضي غير الكفر والشرك، وأنها غير قابلة للإيمان أصلًا.

ومنها قوله -تعالى-: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا)؛ فأخبر -سبحانه- أن ضلالهم وعماهم عن الهدى دائم لا يزول حتى مع معاينة الحقائق التي أخبرت بها الرسل، وإذا كان العمى والضلال لا يفارقهم، فإن موجبه وأثره ومقتضاه لا يفارقهم.

ومنها قوله -تعالى-: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (الأنفال:23)، وهذا يدل على أنه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة، ولو كان فيهم خير لما ضيع عليهم أثره، ويدل على أنهم لا خير فيهم هناك أيضًا قوله: "أخرجوا من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من خير"؛ فلو كان عند هؤلاء أدنى أدنى مثقال ذرة من خير لخرجوا منها مع الخارجين.

ثم قال: لعمر الله إن هذا لمن أقوى ما يتمسك به في المسألة، وأن الأمر لكما قلتم، وأن العذاب يدوم بدوام موجبه وسببه، ولا ريب أنهم في الآخرة في عمى وضلال كما كانوا في الدنيا، وبواطنهم خبيثة كما كانت في الدنيا والعذاب مستمر عليهم دائم ما داموا كذلك. (انتهى).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.