الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 14 يوليه 2025 - 19 محرم 1447هـ

(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) (2) (من تراث الدعوة)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

لقد أمَرَنا الله -عَزَّ وَجَلَّ- بتذَكُّر أيام الله التي ظهر فيها للخلق جميعًا أن ما تعودوا عليه من ليل ونهار، وشمس وقمر، واستقرار أحوال وملك بعضهم، وعجز آخرين واستضعافهم؛ أن ذلك كله ليس بأيديهم، وأن جريان العادة لا يعني أن الأمور تظل كذلك؛ بل تأتي أيام يظهر فيها ملكوت الله في السماوات وفي الأرض؛ يأمر بأوامر فتنقلب موازين الكون، وتتغير عادات الخلق؛ ويملك الضعيف، ويهلك الجبار المتكبر، فتظهر آثار إرادة الله لمَن عقلها، وشهد ملكوت السموات والأرض لمن يكون، وبالتالي يكون مِن الموقنين.

أيام الله -عز وجل- ينبغي أن يتذكرها الإنسان:

كان الطوفان مِن أيام الله، وكان يوم عاشوراء مِن أيام الله، وكان يوم عرفة، ويوم النحر من أيام الله، وهكذا كان يوم فتح مكة من أيام الله، وكان يوم إكمال الإسلام بالوحي المنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة في حجة الوداع من أيام الله، ويوم فتح الله على المسلمين يوم قتل مسيلمة الكذاب، ويوم القادسية، ويوم اليرموك، ويوم فتح بيت المقدس، ويوم إعادة فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين، كانت من أيام الله -تعالى-.

إن هذه الأيام التي تغيَّر فيها التاريخ، وتغيرت فيها العوائد، دائمًا يشهد المؤمن مِن خلالها أمر الله -سبحانه- وإرادته؛ كما قال الله -عز وجل- في قصة موسى -عليه السلام- وهلاك فرعون -قبل أن يولد موسى-: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ  . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:5-6).

الأمور ظَلَّت مستقرة لسنواتٍ وعقود -بل والبعض يقول لقرونٍ-، ولا شك أن دولة الفراعنة مرَّت بقرون مِن الزمان وإن تتابع الملوك عليها، قرون وهم يشيدون فيها المباني والمعابد والأهرامات، يشيدون فيها ويرسمون على جدرانها تاريخ ملكهم؛ فتأمل اليوم.. ماذا يملك الفراعنة؟! صاروا محبوسين في توابيت، ينظر الناس إلى أجسادهم المحنطة وهم لا يملكون لأنفسهم شيئًا -لا نفعًا ولا ضرًّا-، صاروا مزاراتٍ سياحية بعد أن كانوا يُسَخِّرُون البَشَر لإرادتهم ويحشرونهم في غايتهم، ويبنون الصروح بلا هدف ولا غاية إلا صرف الناس عن حقائق الإيمان التي جاء بها الرُّسُل الكرام -صلوات الله عليهم أجمعين-، ثم لنعلم أن هذا الأمر أيضًا ينتظر مَن بعدهم ممَن ترونهم ملوك الأرض، وممن ترونهم أغنياءَها وكبراءَها، الذين يَأمرون فيُطاعون، ويسفكون الدماء، ويذبحون الأبناء، ويستحيون النساء، ويظلمون الخلق، ومع ذلك فالله -عز وجل- مِن ورائهم محيط، ويبقى دين الأنبياء دين التوحيد.

أين ذهبت أديان الفراعنة وعجولهم وتماثيلهم التي نحتوها تشهد أنهم كانوا يشركون بالله، لهذه الآلهة الباطلة؟! ماذا يُعبد منها اليوم؟

صارت مسارًا لفكر المتفكرين وعبرة المعتبرين، وبقيت عبادة الله وحده -لا شريك له- التي جاء بها نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد -صلى الله عليهم وسلم-.

لقد كان يوم عاشوراء مِن أيام الله -سبحانه وتعالى-؛ نَصَر اللهُ فيه موسى وقومَه، وأهلَك فرعون وجندَه؛ ذُكِر عن ابن عباس أن يوم عاشوراء كان أيضًا يوم الزينة، اليوم الذي ظهرت فيه الحُجَّة قبل ظهور القوة والتمكين، فإن ظهور الحُجَّة مقدمة لظهور التمكين في الأرض بالقوة، كان يوم غرق فرعون قبل أن يغرق ببدنه؛ يوم غُلِب في حجته عندما ألقى موسى عصاه: (فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ . فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ . وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) (الأعراف:117-120).

رأى جَمعٌ من الخَلق كبيرٌ -قد حُشِروا في هذا اليوم- رأوا نفس الآية، ومع  ذلك اختلفت المواقف اختلافًا عجيبًا، رأى فرعون وهامان وجنودهما عصا موسى تأكل كل الحيات تلقفها بسرعة عجيبة في لحظات معدودة، وكانوا -فيما يُذكر- عشرات الألوف من السحرة، كُلٌّ منهم معه حبله وعصيه، جُمعوا في ميدان واسع وصعيد أفيح، وكل منهم يُلقي عصاه وحبله حتى خُيِّل لموسى نفسه مِن سحرهم أنها تسعى، وأوجس في نفسه خيفة موسى أن يقتنع الناس بهذا الباطل، كما يوجس أهل الحق إذا جاءت شبهات وشهوات لأهل الباطل أن ينصرف الناس إليها ويتركوا الحق، ويأتي التثبيت من الله، (قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى . وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (طه:68-69)، لما قال الله له ذلك واجَهَهم قبل أن يُلقي فقال: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس:81).

وهكذا يقول كل مؤمن في ردِّ الشبهات المُشَوِّهة للحق والشهوات المُغوِية إلى الباطل يقول: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ)، (وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا) (رواه مسلم)؛ البيان الذي يُزَيِّن الباطل ويقبح الحق ويشوِّه صورة أهل الحق والإيمان حتى يُقال عنهم أنواع السب، كما قالوا: ساحر مجنون، ساحر كذاب، شاعر مجنون؛ كم شتموا الرسل الكرام واتهموهم بأدوائهم هم، وأمراضهم هم؛ فهم المسرفون الكذابون، وهم السحرة الأفاكون.

قضيةٌ كُلِّيَّة في كلِّ زمان ومكان: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)، لا في الدنيا يصلح، بل يَشقون بفسادهم ويُعذَّبون بأموالهم وأولادهم؛ (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة:55)، نعوذ بالله من ذلك؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، شقاءٌ عجيبٌ يقاسيه أهل الدنيا في لهثهم وراء شهواتهم وشبهاتهم، ولا يصلح الله عمل المفسدين!

(وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (يونس:82)؛ فبكلمات الله الكونية يأمر الله سماواته وأرضه، ويأمر أرواح عباده وأجسادهم، ويأمر قلوبهم بما شاء -سبحانه-، كما أمر السماء أن تمطر والأرض أن تنبع بالماء حتى طغى الماء وحمل نوحًا والمؤمنين ومَن شاء في الجارية، (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) (الحاقة:12)، وأمَرَ النارَ: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء:69)، وأَمَر -سبحانه- البحر: (فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (الشعراء:63).

وقال -تعالى-: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ) (الشعراء:64)؛ لولا أن الله طمس على عقل فرعون لما تحرك خطوة حين رأى البحر ينفلق بعدد أسباط بني إسرائيل، ويصبح اثني عشر طريقًا في البحر يَبَسًا بضربة مِن عصا موسى التي عهد منها قبل ذلك الأعاجيب، ولكن مع ذلك  سار!

كيف سار؟! (وَأَزْلَفْنَا)، فِعل الله؛ الله الذي جعل في عقله أنه ينبغي أن تسير وراءهم، وجعل جبريل -عليه السلام- بطريقة خفية يحث فرسه على التقدم والعميان -جنده وأتباعه- خلفه يسيرون، بسبب التقليد الأعمى الذي تعودوا عليه عبر سنين عمرهم أنهم يسمعون ما قال فرعون، ويطيعون ما قال فرعون، (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ . فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ... ) (الزخرف:45-46).

الله -سبحانه- قَرَّبَهم إلى وسط البحر: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ . وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) (الشعراء:64-65)؛ لم يُفقد منهم شيخٌ ولا صبي، ولا امرأة عجوز، ولا عاجز مريض، بعد سنين الاضطهاد -والتي لا شك تُورِث أنواع الأمراض والعجز- ومع ذلك نجوا جميعًا بما يحملون.

إنها أيام الله وأوامره: (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (الشعراء:66)، أمر البحر فالتطم، على فرعون وجنده مرة أخرى.

فكما فَقَد فرعون وجنده الحُجَّة يوم الزينة، يوم أن أَمَر اللهُ قلوبَ السحرة بالإيمان، رأى الناس حُجَّة واحدة، واختلفت القلوب اختلافًا بَيِّنًا، عندما أمر الله موسى أن يُلقي عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف:118)، في لحظاتٍ ساد الصمت الهائل الرهيب؛ الساحةَ كلها خلت إلا من الثعبان المهيب، أكل في لحظةٍ مئات الألوف من العِصِيِّ والحبال التي كان يبدو أنها ثعابين يخيل إليهم من سحرهم أنها تسعى؛ (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (الأعراف:116)، وزال ذلك في لحظة، (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وإذا وجوهٌ صاغرة منكسرة مغلوبة.

(فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ) (الأعراف:119)، انظر في هذا الجانب مِن صورة المشهد لترى وجوه فرعون وهامان وكبار القادة، في حيرة عجيبة، وانكسار شديد، وصَغَار في حجتهم؛ فماذا يصنعون؟! وماذا يقولون لهؤلاء الخَلق المجتمعين؟! وهم يبحثون عن الناس؛ لم يبحثوا عن الحق ولم يَطلبوه، (فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ).

وتأمل في جانب آخر... السحَرة الذين كانوا في أول النهار يبحثون عن الأجر من فرعون: (قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ . قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (الشعراء:41-42)؛ يَعرضون على موسى أن يُلقي أولًا أو يلقوا هم؛ ليقينهم أنهم منتصِرون! يريدون الأجر.

ولكن سبحان الله!  

تغيرت القلوب في لحظة: (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) (الأعراف:120)، ألقى الله في قلوبهم الإيمان، في تلك اللحظة العجيبة استقر الإيمان في قلوب بني إسرائيل بما أيد الله موسى، وتغيرت قلوب السحرة فصاروا من السحر إلى الإيمان (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) (الأعراف:121-122)، هو مُقَلِّب القلوب يقلبها كيف يشاء، كما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام-.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.