الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 17 ديسمبر 2024 - 16 جمادى الثانية 1446هـ

وقفات مع حديث الشفاعة العظمى (4) موقف إبراهيم -عليه السلام-

كتبه/ محمد سعيد الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (فَيَأتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَنتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، اشفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى: فَإِنَّهُ عَبْدٌ آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ، وَكَلَّمَهُ، وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا)، وفي رواية: (وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ).

يذهبون إلى إبراهيم -عليه السلام- لعلَّ الفَرَجَ يكون على يديه؛ فيطلبون منه أن يشفع إلى الله -عز وجل- لبدء الحساب، ويذكرون له المؤهلات التي تؤهله لهذا المقام، فهو: "خليلُ الرحمن"، كما قال تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 125)، والخُلة أعلى أنواع المحبة، وهذه المرتبة حصلت للخليلين محمد وإبراهيم -عليهما الصلاة والسلام-، وأما المحبة من الله فهي لعموم المؤمنين، وإنما اتخذ الله إبراهيم خليلًا؛ لأنه وفَّى بما أُمر به؛ فجعله الله إمامًا للناس واتخذه خليلًا.

ومع ذلك اعتذر لهم إبراهيم -عليه السلام-، وذكر لهم الأسباب، فقال: (إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ).

وقد بيَّن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هذه الكَذَبَات الثلاث، فقال: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ -عليه السلام- إِلَّا ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ -عز وجل--أي لأجله-، قَوْلُهُ: (إِنِّي سَقِيمٌ)، وَقَوْلُهُ: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)، وَوَاحِدَةٌ فِي شَأنِ سَارَةَ، وَهي قَولُهُ لامْرَأَتِهِ حِينَ أَتَى عَلَى الْمَلِكِ: إِنَّهَا أُخْتِي) (متفق عليه).

وهذه الثلاث ليست كذبًا في حقيقة الأمر؛ لأنها من المعاريض، وحتى لو كانت كذبًا لكانت جائزة؛ لأنَّ الشرع أذِن في مثل ذلك، وهذه الكذَبَات الثلاث هي:

الأولى: قَولُهُ: (إِنِّي سَقِيمٌ): أي مريض، وذلك بعدما نظر في النجوم والكواكب التي كانوا يعبدونها مع الأصنام، قال ذلك لقومه حتى لا يخرج معهم في يوم عيدهم خارج البلد ويبقى ليُكسِّر الأصنام، بعد ما خلا مكان الأصنام من الحراس والزوَّار.

الثانية: قَولُهُ: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا): قالها لهم عندما كسَّر أصنامهم، كما قال تعالى عنهم: (قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ)؛ فأشار إلى إصبعه نحو الصنم الكبير الذي علَّق به الفأس قائلًا: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)، وَوَرَّى بإصبعه تحاشيًا للكذب، أو أنه ذكر ذلك على سبيل التحدي لهؤلاء الذين يعبدون الأوثان.

الثالثة: فِي شَأنِ سَارَةَ، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (قَدِمَ إِبْرَاهِيمُ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْ عَلَيْكِ؛ فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الإِسْلاَمِ؛ فَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِى وَغَيْرَكِ...)، وفي رواية في المسند: (فَإِنِّي مُخْبِرُهُ أَنَّكِ أُخْتِي).

ففي الحقيقة: أنَّ هذه الأمور ليست من الكذب المحرم؛ لكنه لشدة ورعه وحيائه وخشيته من ربِّه اعتذر لهم بها، كما في رواية ابن حبان: (فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ؛ فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا)، وفي روايةٍ لمسلم: أنَّ إبراهيم -عليه السلام- قال لهم: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ)، أي: من وراء حجاب، أمَّا اليوم فنحن نقفُ عَيانًا أمام الجبار -عز وجل-، وهذه الكلمة: (مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) تذكر على سبيل التواضع، أي: لستُ بتلك الدرجة الرفيعة.

ثم يقول لهم إبراهيم -عليه السلام-: (نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي)، وفي روايةٍ: (لا يُهِمُّنِي اليَومَ إِلَّا نَفْسِي)؛ ولكنه مع ذلك دلَّهم على موسى -عليه السلام- لعلَّه يستطيع أن يشفع لهم عند الله -عز وجل-.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.