الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 17 ديسمبر 2024 - 16 جمادى الثانية 1446هـ

الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (24)

كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال العُقابُ في مُقدِّمةِ عملِه على كتابِ "دلائل الإعجاز" (ص: 3): (فمنذُ دهرٍ بعيدٍ، حين شَققتُ طريقيَ إلى تَذَوُّقِ الكلامِ المكتوبِ، منظومِه ومنثورِه، كان مِن أوائلِ الكتبِ التي عكَفتُ على تذَوُّقِهَا كتابُ "دلائل الإعجاز"، لِلشَّيخِ الإمامِ "أبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانيّ"، الأديبِ النَّحْويّ، والفقيهِ الشَّافعيّ...) (انتهى).

ومِن هُنَا نَتَبيَّنُ مدى أهمِّيَّةِ كتابِ "دلائل الإعجاز" في صناعةِ خَيَالِ محمود شاكر، وبناءِ فِكْرِهِ في منهجِ التَّذَوُّقِ، الذي قرأ به منظومَ الكلامِ ومنثورَه، ونستطيعُ بذلك أنْ نَكتشِفَ مَاهِيَّةَ الأدواتِ التي استَعمَلَها العُقابُ وهو يَقرأُ الشِّعْرَ في فترةِ العُزْلَة.

ومِن هذا البيانِ السَّاحرِ الذي استعان به عبدُ القاهرِ في صناعةِ الذَّوْقِ: قولُ الشَّاعرِ -واسْمُه غيرُ معروفٍ-: قَدْ أَغْتَدِي والطَّيْرُ لَمْ تَكَلَّمِ! وقد ذكره لِيستَشهِدَ به في مَواضِعِ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِير.

وإنْ كان عبدُ القاهرِ استَشْهدَ به في بابِ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، لِبيانِ أَثَرِهِ في صناعةِ الذَّوْقِ، وهو ما سيأتي بيانُه في أَوَانِه -إن شاء الله-، فإنّه لا يَجُوزُ لِصاحبِ الذَّوْقِ العالِي أيضًا أن يَغُضَّ الطَّرْفَ عن كلماتِ هذا الشَّاعرِ، المجهولِ العينِ، المعروفِ الحالِ، إذْ إنَّ بيانَه يُنْبِئُكَ حالَه، ولا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ؛ ومَعناهُ: أَنَّنِي كَثِيرًا ما أَخْرُجُ عند تَباشِيرِ الصَّباحِ والطَّيْرُ لا تَزالُ في أَوْكَارِهَا أو أَعْشَاشِهَا، فلَم تَتَكلَّمْ بَعْدُ؛ فكيف لِهذا الشَّاعرِ البارعِ أن يَجعلَ شَقْشَقَةَ العَصَافِيرِ في الصَّباحِ ككلامِ الإنسانِ؟! حقًّا إنَّه قِمَّةُ التَّذَوُّق.

وكأنَّ قولَ الشَّاعرِ هذا مَأْخُوذٌ مِن قولِ امرئِ القيسِ في مُعَلَّقَتِه، وهو يَصِفُ فَرَسَهُ الذي يَرْكَبُهُ لِلصَّيدِ في البُكُورِ:

وَقَـــدْ أَغْتَدِي والطَّـيْـرُ فِي وُكُـنَاتِهَا           بِـمُـنْـجـَرِدٍ قـَيـْـدِ الأَوَابِــدِ هَـــيْـكــَلِ

مـِـكـــَرٍّ مـِفـَرٍّ مـُقـْبـِـلٍ مـُدْبــِرٍ مَـعـًا            كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

فَالشَّاهِدُ هُنَا قَوْلُهُ: وَقَدْ أغْتَدِي والطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا؛ ومَعناهُ: أَنَّنِي كَثِيرًا ما أَخْرُجُ إلى الصَّيْدِ في البُكُورِ والطَّيْرُ لا تَزالُ في أَوْكَارِهَا.

فما أَجْمَلَ بيانَ امرئِ القيسِ لمّا قال: والطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا! فقد بَلَغَ بِالذَّوْقِ مَدَاه.

فقد أعطيتُك المِفْتاحَ، فَهَيَّا.. إِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ؛ فَالأدَبُ -نَظْمُهُ ونَثْرُهُ- كما يَتَمَيَّزُ بالخُصُوصِيَّةِ في الفِكْرَةِ والعِبَارَةِ، فإنَّه يَحتاجُ أيضًا إلى خُصُوصِيَّةٍ في الاسْتِعْدَادِ والاسْتِقْبَالِ.

ولَا تـَقُـلْ قــَدْ ذَهَـبـَــتْ أَرْبَـابـُهُ                كُلُّ مَنْ سَارَ عَلَى الدَّرْبِ وَصَلْ

واللهُ المُوَفِّقُ؛ لا إلهَ غَيْرُه، ولا رَبَّ سِوَاه.