كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا نَزَالُ -عزيزيَ القارئَ- في مَعِيَّةِ التَّذَوُّقِ الذي يَحُضُّنَا عليه عبدُ القاهرِ الجرجانيُّ فَرْدًا فَرْدًا؛ لأنَّها خَاصِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بك أنت، وسِرٌّ مِن أسرارِ اللهِ فيك، ولا يَستطِيعُ عبدُ القاهرِ أو غَيْرُهُ أن يُوجِدَهُ فيك، ولكن هو يُعطِيكَ مَفاتِحَه، ويَتْرُكُ لك التَّأمُّلَ واستخراجَ الكُنُوزِ والأسرار.
ومِن الذين نَجَحُوا في استِخْراجِ هذه الكُنُوزِ والأسرارِ العُقَابُ محمود شاكر، بعد رحلةٍ طويلةٍ مع عبدِ القاهرِ وغَيْرِه، استطاع أن يَتَعَلَّمَ فيها صَنْعَةَ التَّذَوُّقِ، بل اهتدى إلى طريقِ الوُصُولِ إلى الدَّرَجةِ العُليا، وهو كيفيَّةُ صِنَاعَةِ هذه الصَّنْعَة.
فقد ذَكَرْنَا قَوْلَهُ في "دلائل الإعجاز" (1/ 163) (القول في الحذف / القول في حذف المفعول به): (وليس لِنَتائجِ هذا الحَذْفِ -أَعْنِي حَذْفَ المَفعُولِ- نهايةٌ، فإنّه طَرِيقٌ إلى ضُرُوبٍ مِن الصَّنْعَةِ، وإلى لَطَائِفَ لا تُحصَى)، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَهَا (1/ 163، 164): (نَوْعٌ آخَر، وهو: الإضمارُ على شَريطةِ التَّفسير... وهذا نَوْعٌ منه آخَر: اعْلَمْ أنّ ههنا بابًا مِن الإضمارِ والحذفِ يُسمَّى "الإضمار على شريطةِ التَّفسير...
فمِن لَطِيفِ ذلك ونَادِرِهِ قَوْلُ البُحتُريّ:
لَوْ شِئْتَ لَمْ تُفْسِدْ سَمَاحَةَ حَاتِمٍ كـَرَمـًا وَلَـمْ تَـهْـدِمْ مَـآثِـرَ خَـالِدِ
الأصلُ لا محالةَ: لو شِئْتَ أن لا تُفْسِدَ سماحةَ حاتمٍ لَم تُفْسِدْها، ثُمَّ حُذِفَ ذلك مِن الأوَّلِ استِغناءً بدلالتِه في الثّاني عليه، ثُمَّ هو على ما تَرَاهُ وتَعْلَمُه مِن الحُسْنِ والغَرَابَةِ، وهو على ما ذَكَرْتُ لك مِن أنّ الواجبَ في حُكْمِ البلاغةِ أن لا يُنْطَقَ بالمَحذُوفِ ولا يظهرَ إلى اللَّفظِ.
فليس يَخفَى أنّك لو رَجَعْتَ فيه إلى ما هو أَصْلُهُ فقُلْتَ: "لو شِئتَ أن لا تُفْسِدَ سماحةَ حاتمٍ لَم تُفْسِدْها"، صِرْتَ إلى كلامٍ غَثٍّ، وإلى شيءٍ يَمُجُّهُ السَّمْعُ، وتَعَافُهُ النَّفْسُ.
وذلك أنّ في البَيانِ إذا وَرَدَ بعد الإبهامِ وبعد التَّحريكِ له أبدًا لُطْفًا ونُبْلًا لا يَكُونُ إذا لَم يَتَقَدَّمْ ما يُحَرّكُ.
وأنت إذا قُلْتَ: "لو شِئتَ"، عَلِمَ السَّامِعُ أنّك قد عَلَّقْتَ هذه المَشِيئةَ في المَعْنَى بشيءٍ، فهو يَضَعُ في نَفْسِهِ أنّ ههنا شيئًا تَقْتَضِي مَشِيئتُه له أن يَكُونَ أو أن لا يَكُونَ؛ فإذا قُلْتَ: "لَم تُفْسِدْ سماحةَ حاتمٍ"، عَرَفَ ذلك الشَّيءَ.
ومَجِيءُ "المَشِيئةِ" بعد "لو" وبعد حُرُوفِ الجَزاءِ هكذا موقوفةً غَيْرَ مُعَدَّاةٍ إلى شيءٍ، كثيرٌ شائعٌ، كقولِه -تعالى-: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (النحل: ?)، والتَّقْدِيرُ في ذلك كُلِّهِ على ما ذَكَرْتُ.
فَالْأَصْلُ: لو شاء اللهُ أن يَجْمَعَهُمْ على الهُدَى ولو شاء أن يَهْدِيَكُمْ أجمعينَ لَهَدَاكُمْ، إلّا أنّ البلاغةَ في أن يُجَاءَ به كذلك مَحْذُوفًا) (انتهى).
وكأنّ عبدَ القاهرِ يَقُولُ لنا في هذا البابِ: إنّ هناك فارقًا كبيرًا بين معرفةِ المعرفةِ وتَذَوُّقِ المعرفةِ؛ فأمّا معرفةُ المعرفةِ فهي المعرفةُ الظَّاهِرَةُ، والتي تَحْصُلُ بقراءةِ كلامِ أهلِ البيانِ الذي كَتَبُوه، وأمّا تَذَوُّقُ المعرفةِ فهو المعرفةُ البَاطِنَةُ، وهذا شأنٌ آخَر، لأنّه لا يُكْتَسَبُ إلا بمعرفةِ كلامِ أهلِ البيانِ المُضْمَرِ (المَحْذُوف)، وفَهْمِهِ، وتَدَبُّرِهِ، ومعرفةِ عِلَّةِ حَذْفِه.
واللهُ المُستَعان.