الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الجمعة 13 ديسمبر 2024 - 12 جمادى الثانية 1446هـ

سوريا بين فرحة سقوط بشار وغَمِّ استطالة نتنياهو.. والمهوسون بالثورة يدعون لثورة في مصر!

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

أولًا: إطلالة على الواقع السوري:

أخيرًا سقط بشار... فـلله الحمد والمِنَّة. 

إن بشار قد جَمَع بين أشد صور الإفساد العقدي بالانتماء إلى دين باطني منتسبٍ للإسلام زورًا: كالعلوية، وبين أشد صور الإفساد في الحكم بين الناس باستباحة الدماء، وتمكين أعداء الأمة من أرضها ومقدَّراتها. 

ومن ثم عمت الفرحة بعد زوال حكمه. 

ولكن حال سوريا كحال المريض الذي قد أثقلت جسمه الأورام السرطانية الخبيثة، وقد تخلَّص من أحدها، وهذا أمر مفرح بلا شك، ولكن لا ينبغي أن يُغفل عن باقي الأورام.

وفي الجسم السوري الآن: 

1- القواعد العسكرية السوفيتية:

وقد كانت من أبرز جرائم "حافظ - وبشار الأسد" إعطاء روسيا قواعد عسكرية (ومعلوم أنها وَفْق التفاهمات الأمريكية الروسية، لا يمكن أن تُستعمل ضد إسرائيل تحت أي ظرف؛ فلم يكن السماح بها إلا استقواءً بها على شعبه). 

الآن رحل بشار، وحصل على اللجوء الإنساني في روسيا ثمنًا لما قدَّمه لروسيا، وبقيت القواعد الروسية، ولا تكاد تُذكر في كلام الجولاني إلا عرضًا دون أي خطاب موجَّه للروس أنفسهم. 

2- التواجد الأمريكي:

وهو يمثِّل احتلالًا صريحًا لبقعة من سوريا. وأمريكا تصرِّح بأنها لن ترحل خشية أن تعود التهديدات الداعشية. 

ونحن نعلم أن داعش وغيرها لا تملك سلاح طيران، ولا سلاح دفاع جوي، أي: متى أرادت أمريكا أن تقضي على داعش فلن يكلفها ذلك إلا طلعات جوية أشبه بالتنزه، ولكن أمريكا تريد أن توظف داعش لبثِّ الرعب في الدول الإسلامية، كما كنتُ قد كتبتُ هذا في مقال في بداية ظهور داعش بعنوان: "أمريكا وإعادة تسكين الجهاديين في العالم الإسلامي".

3- وجود جزء تحت سيطرة داعش:

رسمت أمريكا بطيرانها حدوده حينما أجبرت داعش عليه، وتوقفت عن قصفها طالما كانت داخله، فتكون أمريكا قد أعطت داعش جزءًا من سوريا، وأخذت الجزء الذي بجواره؛ لكي تعطي لوجودها في سوريا مبررا وكأن وجودها لمنع خطر داعش. 

4- قوات قسد: 

وما يُقال عن داعش يُقال أيضًا عن قوات قسد التي أعطت لها أمريكا جزءًا من الكعكة السورية، وتقوم طائراتها بمنع تغوُّل الجولاني -أو غيره- داخل الجزء الذي خصصته لها؛ أما إذا خرجت قسد عن الحدود المرسومة لها أمريكيًّا فتترك أمريكا المواجهة بينها وبين الجولاني على ما تنتهي إليه. 

5- تمدد إسرائيل في سوريا:

بعد سقوط بشار، جاء نتنياهو يتمختر في مشيته، وقواته تسير أينما تريد في سوريا، تتابع كل المعدات والأسلحة والذخائر فتدمرها بلا أي مقاومة، ولا حتى استنكار من أحد؛ لا الجولاني -وهو أشبه ما يكون بحاكم سوريا الآن-، ولا الأمريكان الذين يقومون -رغمًا عن الجميع- بدور شرطي العالم عمومًا، وشرطي سوريا خصوصًا. 

هذا الشرطي الأمريكي يُذكرنا بالشرطي البريطاني حينما كانت بريطانيا تفرض الحماية على فلسطين بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وكانت آنذاك لا ترى ولا تسمع عن جرائم عصابات: جولدا مائير، وبيجن، ورابين، ولكن لما كان يأتي الرد من عزِّ الدِّين القَسَّام والمجاهدين في فلسطين، كنا نجد من بريطانيا الآذان الصاغية، والعيون المحدقة، والتصرف الفوري!

فكذلك حال الشرطي الأمريكي في سوريا؛ لا يرى ولا يسمع شيئًا عن البلطجة الإسرائيلية في الأراضي السورية. 

6- الجولاني:

وهو يمثل الآن بسلوكه الحالي لغزًا! 

فقد بايع القاعدة في وقت من الأوقات، والقاعدة نسبت إلى نفسها أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي استثمرتها أمريكا لغزو العالم الإسلامي من جديد. 

الآن هو يتحدث كثيرًا عن أنه لم يدعُ إلى شن حرب على أمريكا انطلاقًا من سوريا، وأنه حتى ساعة انضمامه للقاعدة كان لا يوافق على هذا، مع أن القاعدة اسمها ودستورها وموضوعها الرئيس هو قاعدة جهاد أمريكا والصليبيين. 

حتى تحالف مع داعش، وقال مؤخرًا في لقاء صحفي: إنه تحالف معهم أولًا، ولما خرجوا عن الخط واستهدفوا قتل الناس قاتلهم (وفي الواقع، داعش لم تكن يومًا ما منضبطة بأي ضوابط). 

وهل ما يدعيه معارضون له أنه مع مخالفيه في الصف الإسلامي ما زال على طريقته الدموية صحيح؟ 

نشر أبو حمزة الكردي تغريدة قال فيها: (دمرت أعتى سجون النصيرية وخرج المعتقلون.. ولا زالت سجون إدلب موصدة على خيرة مجاهدي الشام ومهاجريها.. فحسبنا الله ونعم الوكيل).

بث أحدهم فيديو من المسجد الأموي بعد صلاة الجولاني فيه يطالبه بإطلاق سراح المجاهدين المعتقلين عنده.

وبالتأكيد نحن نرحب باعتدال الجولاني على أن يكون اعتدالًا حقيقيًّا مبنيًّا على أدلة شرعية، وأن يُطبَّق مع الجميع، ولكن هل من هذا الاعتدال السكوت عن استمرار وجود القواعد العسكرية في روسيا؟ 

إن قال قائل: يسكت؛ لأنه غير قادر على المواجهة!

فنحتاج أن نعرف: هل استقر أمر الجولاني على ضرورة مراعاة حساب المصالح والمفاسد، والمآلات في قضيتي: الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم لا؟ وهل هذا هو موقف من يعتبرون الموقف الحالي بكل تعقيداته انتصارًا للثورة؟

والأخطر من هذا: هل يجمع هؤلاء بين الإقرار بلزوم النظر إلى المآلات ومراعاة المصالح والمفاسد، وبين دعوة بلاد الربيع العربي الأخرى أن تعود للمسار الثوري، بل العسكري، ويخصون من هذه البلاد مصر -كما سنعود لمناقشة هذا بإذن الله-.  فهل يستقيم هذا في شرع أو في عقل؟

نفس الأمر يُقَال -وبصورة أوضح- عن موقفه من التواجد الأمريكي في سوريا، لا سيما مع الكلام على المفاوضات التي تُجرى بين الطرفين، وسعي أمريكا لحذف هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب، وأحاديثه الصحفية التي كرَّر فيها مناشدة تلك الأنظمة أن تعدل وصفها لهم بالإرهاب. 

والعجيب: أنه في حوار مع الـCNN أجاب بإجابة شديدة النعومة: أنه يتوقع عندما يسقط النظام أن ترحل كل القوات الأجنبية. 

والأخطر أنه قال: إنه لو وجد أن مصلحة سوريا في وجود هذه القوات فسوف يتم تقنينه. 

والأشد عجبًا هو الموقف من البلطجة الإسرائيلية في الأراضي السورية، فوفق المعايير الإسلامية والوطنية والإنسانية يجب الإنكار -على الأقل- بأشد العبارات إن عجز عن الفعل، أما بالمعايير التي نظَّرها أصحاب ما يسمَّى بالفكر الجهادي، فالأمر أشد من هذا بكثير.

مرة أخرى: نتمنى أن يعتدل الجولاني، ونتمنى أن يقرر اعتداله بأدلة شرعية وكتابات موثقة، ونتمنى أن يكون اعتدالًا، وليس العدول عن التطرف بالتطرف المضاد إلى الليبروإسلام والعالمانية الناعمة وغيرها من أطروحات العالمانية المتأسلمة. 

ثانيًا: المهوسون بالثورة يدعون لثورة في مصر:

تهلل الكثير في أنحاء العالم الإسلامي بالفرح والسرور لسقوط بشار، والحمد لله رب العالمين. 

ولكن قد صَاحَب هذا حملة عجيبة لا تريد لأحدٍ أن يحذر أو يحزن، أو يذكر بأي وسيلة المخاطر الموجودة في سوريا حاليًا. 

والأخطر أنهم يرفعون شعار: أن الثورة السورية قد انتصرت أخيرًا.

ولا يقتصر الأمر عند هذا، بل يتخطى الأمر إلى إعلان أن الربيع العربي قد يبعث من جديد، ثم توجه كثير من المغرضين أو المهوسين إلى النداء بأنهم يتمنون أن يحدث في مصر ما حدث في سوريا! وبدأ بعضهم بالفعل يدعو إلى ثورة في مصر. 

وسنناقش هؤلاء في عدة محاور: 

1- الواقع في سوريا:

سوريا لا تُصنف أنها ثورة سلمية، ولا حتى غير سلمية، بل تُصنف ضمن المواجهة الشعبية المسلحة مع النظام القائم، وهو: أمر كان قد تراجع عنه كل من ينادي به؛ سواء القاعدة التي كانت غيرت توجهها إلى المقاومة العالمية، وجماعة الجهاد المصرية التي أعلنت إيقاف عملياتها في مصر. 

نعم، بدأ الأمر في سوريا كثورة، ولكنه تحول إلى صراع مسلح لأسبابٍ؛ من أهمها: 

- أن الحاكم من الطائفة العلوية: وهي وإن انتسبت إلى الإسلام، فحقيقة ما تربي أتباعها عليه أنها دين آخر، وكذلك ينظر علماء الإسلام إليها أنها دين آخر، وليست فرقة إسلامية منحرفة -شأنهم في ذلك شأن البهائية والقاديانية-. 

- أن بشار قد ورث عن أبيه أن مقاومة الثورات لا تكون حتى بالأدوات التي تُواجِه بها الدول المظاهرات، مِن: خراطيم المياه، والقنابل المسيلة للدموع، وغيرها، وهذه أمور الأصل فيها ألا تقتل، وإذا نتج عنها قتل؛ فإنه فيكون محدودًا جدًّا، ولكن حُكْم حافظ الأسد وبشار كان يواجه المظاهرات بالجيش الذي يستخدم الذخيرة الحية، والكيماوي، والقصف الجوي! 

ومع وجود اضطرابات في العراق، ومع رغبة أمريكا في منافسة الوجود الروسي والإيراني في سوريا، جاءت الجماعات المسلحة وجاءت الأسلحة، وتحول الأمر إلى مواجهة مسلحة. 

وظلت المواجهة على الأرض بين النظام وبين جماعات مسلحة متعددة المشارب، من داعش إلى القاعدة إلى جبهات محلية؛ توالي هذه مرة، وتوالي هذا مرة (ومنهم الجولاني). ولا تكاد تجد فيهم مَن ينضبط بأحكام القتال في الإسلام إلا القليل، بل كان الجميع يجتمع ضدهم -للأسف الشديد-. 

واستمر القتال على الأرض بينما الطائرات الأمريكية والروسية تحددان مساراته في كثيرٍ من الأحيان، وسارت التفاهمات إلى بقاء الأسد، فكانت الفتنة في استمراره وفي الزج بكثير من الشعب السوري في السجون بتهمة تأييد الثورة. 

إلى أن كانت الحملة الأمريكية الإسرائيلية الأخيرة على أذرع إيران، فتغيرت مصالح اللاعبين الكبار، وتحرك الجولاني ضد النظام، والطيران الأمريكي يحدد ألا يخرج أحد عن المسارات التي تريدها أمريكا. 

ومن ثم كان تغيير الخطاب السياسي للجولاني، ونكرِّر مرة أخرى: نتمنى أن يعتدل الجولاني، ونتمنى أن يقرر اعتداله بأدلة شرعية وكتابات موثقة، ونتمنى أن يكون اعتدالًا وليس العدول عن التطرف بالتطرف المضاد إلى الليبروإسلام والعالمانية الناعمة، وغيرها من أطروحات العالمانية المتأسلمة.   

نخلص -مما سبق- أن الواقع في سوريا يتضمن عدة خصائص: 

1- حاكم من طائفة لا ترى نفسها مسلمة في الحقيقة، ولا يراها المسلمون كذلك. 

2- مواجهة مسلحة واضحة، وليست ثورة. 

3- نتج عنها كثيرٌ من الحروب البينية بين الجماعات، ومن بينها حروب مستمرة إلى الآن تأذى منها السوريون كثيرًا. 

4- لعبت القوى الدولية الدور الأبرز في تحديد مَن يصل إليه السلاح، ومن يسيطر على أي بقعة، وبعد سنوات اجتمعت هذه القوى على إبقاء بشار، فكانت سوريا لعبة للقوى العالمية. 

5- وبعد أن استقر، أراد الله أن يريح العباد من شرِّه، فقدَّر حدوث درجة انزعاج صهيوني كبير من الأذرع الإيرانية (حتى لا تفاجئها بشيء مثل 7 أكتوبر التي فاجأت بها حماس)، فقادت السياسة الأمريكية إلى قطع هذه الأذرع، فكان هذا من الأسباب الرئيسية للتحول الأخير. 

6- العجب كل العجب ممَّن يستبعد أثر هذا الدور الأمريكي في الأحداث، وهو قائم مشاهد معلن (لا أتحدث هنا عن اتفاقات سرية فقط، القدر المعلن يكفي). 

ثم العجب الأكبر في تبرير سكوت "الجولاني" عن وجود القوات الروسية والأمريكية، بل قوله: إنه مستعد لتقنينها، ثم سكوته عن الاجتياح الإسرائيلي لسوريا وتدميره لكل مخزون السلاح، والاعتذار السمج بأنه "سلاح بشار!"، مع أن بشار تركه؛ إذًا فلا بد من الدفاع عنه إن وجدنا إلى ذلك أي سبيل.

وهذا ما يضطر إليه كثير منهم، وهو أن يعملوا قاعدة المصالح والمفاسد التي طالما سخروا منها، وطالما قرَّر بعض مَن ينتسبون إلى العلم منهم -كالدَّدو وغيره-، أنه في جهاد الدفع لا مجال لإعمال تلك القاعدة، مع أن إعمالها هنا يبدو إعمالًا قد بالغ في إعمالها إلى درجة السكوت عن أمور تتفق البشرية كلها على أنها عدوان، وأن يكون هذا السكوت بعد ما صار الجولاني في موقع السلطة بصورة أو بأخرى، أي: أنه هو المنوط به هذا الدفاع عن هذا الحق ولو قوليًّا مؤقتًا. 

ولكن طالما أنهم قرَّروا هذا المبدأ، فنرجو أن يثبتوا عليه وهم يفتون (مع أن معظمهم شديد الضحالة في العلم الشرعي)، وهم من أماكن إقامتهم (وبعضهم يقيم في بريطانيا صاحبة كل مشاريع الاحتلال). نريد أن نطالبهم بأن يثبتوا على إعمال هذا المبدأ. 

وبعد أن أوضحنا حال بشار الأسد، وبعد أن استعرضنا ما هو معلوم للخاصة والعامة من دور الدول الكبرى في الأحداث، لا سيما دور أمريكا، وبعد أن رأينا أن أمريكا لها أهدافًا إستراتيجية من السيطرة الفكرية والسياسية على المنطقة، بينما إسرائيل تركز أكثر على عدم وجود جيوش في المنطقة، وأنها متى وجد أي فراغ في أي بلد لها معها حدود فستدخل لتدمِّر أي سلاح، فهل تتمنى هذه الأبواق أن تصل داعش إلى مصر مرة أخرى وتحارب جيشها وحكومتها وشعبها، أو ينشأ من أبناء مصر (حاشاهم) من يكرر تلك التجارب؟ 

وليكون المشهد الختامي -(والعياذ بالله أن يحصل)- تدمير الجيش المصري. 

وأن يأتي زعيم داعش أو القاعدة أو أي تنظيم ليصل للحكم، وساعتها سوف يكتشف أن معاهدة السلام التي يكفِّرون الجيش المصري من أجلها (ضرورة)، وإلا فالجولاني يقول: إنه ممكن يعمل اتفاقية بقاء القوات الأمريكية في سوريا، وهي -بلا شك- أعظم خطرًا بكثير من اتفاقية سلام، بل وحتى الكثير من الأحكام التطبيقية والقضائية، فلا حماس طبقتها في غزة، ولا الجولاني قال إنه سيطبقها في سوريا، ولا طبقها الإسلاميون ككل في مصر في 2012. 

ولا يعني هذا الاستهانة بها، ولا قبول القول بسقوطها والسكوت عن الطاعنين فيها، ولا حتى القبول بمبدأ أنها مؤجلة إلى أجل غير مسمى، وإنما الدعوة المستمرة لكل المؤثرين في المجتمع والدولة إلى عدم سن قوانين جديدة مخالفة، وإلى العمل على تنقية القوانين السابقة. 

وفوق ذلك، ربما حينما يصلون بعد دماء وأشلاء يرخصون بما يكفّرون به غيرهم؛ فتمام المشهد السوري لمن يغتبطون به ويريدون تصديره لمصر: كان تدمير قدرات الجيش السوري، ولو كان هذا التدمير قد تم وهو في أيدي جيش بشار لهان الخطب، ولكن الأكثر إيلاما أنه تم بعد أن تركه جيش بشار، وكان من المفترض أن يكون هذا سلاحا لجيش سوري حقيقي.

والذي نقف عنده هنا أننا لو عزينا أنفسنا أن هذا جيش بشار والعلويين، فهل يمكن أن يسعى ساعٍ لكي يكون هذا هو مصير الجيش المصري؟ 

فهل يمكن لعاقل أن يرى أن من المصلحة تدمير قدرة الجيش المصري (وهو الآن الجيش العربي الوحيد حرفيًّا القادر على مواجهة إسرائيل)؟

ثالثًا: شبهة تغير موقف الدعوة السلفية من المظاهرات والثورات:

كثيرًا ما نُواجه بأن موقفنا قد تغيَّر في قضية ما، ولا يُكلِّف من يُردِّد هذا الاتهام نفسه أن يُعيد قراءة المواقف التي يتَّهمنا فيها بالتناقض. وما نرفضه اليوم من دعوات التثوير سبق أن رفضناه في عام 2011، والجميع يذكر هذا. 

وقد يقول قائل: "ولكنكم غيَّرتم موقفكم بعد أن نجحت الثورة"، وهذا غير صحيح. 

- نحن نؤمن بوجوب مراعاة المآلات، وحساب المصالح والمفاسد في كل خطوة؛ لا سيما إذا كانت تؤثر على المجتمع كله. 

- إذا حذرنا من شيء وقام غيرنا بفعله وحدثت المفسدة، نتعامل مع الواقع الجديد بمحاولة تقليل تلك المفسدة، كما نصحنا الإخوان في عام 2013 بعدم استعداء أجهزة الدولة واستيعاب المعارضة، وقُمنا بخطوات في ذلك.

وفي النهاية: حذَّرنا بشدة من التلويح بخطاب التكفير والعنف، ثم كان ما كان، فعملنا على تخفيف مفاسد وقوع ثورة على حكم الإخوان وما حاول البعض أن يجعله ثورة على مظاهر التدين ككل. يُدرك هذا من يُدركه، ولا يُدركه من لا يُدركه، ويتعامى عنه من يتعامى، ولكن هذا هو الذي نشهد ربنا عليه. 

- في عام 2011 أنكرنا المشاركة في المظاهرات، ولما حدثت وحدث فراغ أمني قمنا بتكوين لجان شعبية، فكان دائمًا التصرف وَفْق المستجدات ولتحقيق المصالح الشرعية. 

- وفي أوج التغني بثورة يناير، ومحاولة كل طرف أن ينسب لنفسه قيادتها أو السبق فيها، كان حرصنا شديدًا على تأكيد متى وكيف كانت مشاركتنا، وأننا لم نُغيِّر شيئًا من هذه القواعد. 

وقد كتبت في ذلك مقال: "السلفيون وكشف حساب الأزمة". 

- قد يقول قائل: "ألا تُعدُّ أن بعض سقوط بشار مصلحة قد حصلت من مظاهرات، بل من مواجهة مسلحة؟".

فأقول: قاعدة مراعاة المصالح والمفاسد معتبرة دائمًا، ولكن عندما يكون الحاكم كافرًا كقوى الاحتلال أو من فرقة باطنية لا تعتقد الإسلام فعليًّا، تكون مفسدة وجوده كبيرة جدًّا، وبالتالي قد يتحمَّل في سبيلها تضحيات أعلى، لو كانت في النهاية يغلب على الظن إمكانها متى قُدِّمت هذه التضحيات. 

فوجود بشار يجعل الحالة السورية غير قابلة للقياس عليها؛ فضلًا عن أن الدراسة الحقيقية لمسار سوريا تؤكد ما قرَّرناه: أن الوجود الأمريكي الروسي هو الذي رسم المسار.

وبالتالي: فلو كان هذا متوقعًا من البداية لما كان لأحدٍ أن يُقدِّم كل هذه التضحيات لمجرد أن يُسقِط شخصًا ينتسِب إلى الإسلام في الجملة، بينما يُدمَّر جيش وقدرات هي في الأصل مملوكة للمسلمين. 

وعلى الأقل فهذا مما لا ينبغي أن يُقبل بأي درجة احتمال له في البلاد التي لم تُبتلَ بمثل بشار. 

- قد يقول قائل: "وثورة يناير 2011، ألم يترتب عليها مصالح؟"؟

فالجواب أيضًا: أن الأمور النادرة لا يُقاس عليها.

فالتحولات العجيبة التي تمت من مظاهرات سلمية إلى مواجهات بين الشرطة والمتظاهرين وسقوط ضحايا ومسارعة مبارك باستدعاء الجيش؛ الذي سارع بالفصل بين الجميع وسارت الأمور في ذلك المسار.

ولو أن المحاولات التي تكررت من جهات غير معلومة بإعادة تثوير الشباب ودفعهم مرة أمام مقر وزارة الداخلية ومرة أمام مقر وزراة الدفاع، ولكن بفضل الله تم احتواء كل هذه المحاولات بعدما كادت أن تنزلق أكثر من مرة إلى ما لا يحمد عقباه. 

والحاصل: أننا حذرنا في 2011، ولما نَفَّذ غيرنا ووُجِد واقع جديد، تعاملنا مع الواقع الجديد؛ لجان شعبية، ثم حدث تحرش بالمادة الثانية من الدستور، فتحركنا بعمل سياسي، ثم حدث استقطاب في انتخابات الرئاسة، فحاولنا التوسط أولًا. ثم لما استقرت انتخابات الإعادة بين الفريق شفيق والدكتور مرسي اخترنا الدكتور مرسي، ثم حاولنا أن نساعده في تجنب الصدامات. ثم لما حدثت، نأينا بأنفسنا عن الصدام، وحذرنا كل الأطراف من شبح الاحتراب الداخلي، وهكذا. 

فنحن الآن -وبالأخص بعد البلطجة الإسرائيلية- نحذِّر وبكلِّ ما أوتينا من قوة من المساس بمصر واستقرارها، أو تهديد قوة جيشها. 

وندعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، كما قال -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)

ونستحضر ذلك المثال العظيم الذي ضربه النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن يعيشون في مجتمع واحد، بمن يُبحرون في سفينة واحدة؛ سفينة واحدة نسعى لإصلاح ما بها من خلل، وألا نخرق فيها أي خرق، ولو خرق غيرنا خرقًا، نسعى قدر الإمكان إلى سده. 

نسأل الله أن يجعلنا من الصالحين المصلحين، وأن يحفظ بلادنا مصر وسائر بلاد المسلمين، وأن يجعل جيش مصر شوكة لأمتنا العربية والإسلامية، إنه سميع قريب مجيب الدعوات.