الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 22 يناير 2025 - 22 رجب 1446هـ

مكارم الأخلاق (14) الصبر (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

مقدمة:

- الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

- من مكارم الأخلاق المنشودة "الصبر": قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ) (متفق عليه).

- في أيام الفتن والشدائد والمحن تزداد حاجة المسلم إلى الصبر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ) قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (بَلْ مِنْكُمْ) (رواه أبو داود والترمذي، وقال الألباني: "صحيح لغيره").

- الذي لا يصبر لا يصل إلى مراده ومحبوبه؛ فالصبر ضروري لكل إنسان: (انظر إلى الطالب كيف يصبر على المذاكرة، ويكف نفسه عن لذة الراحة، وذلك ليصل إلى مراده، وهو النجاح في الامتحانات - وانظر إلى التاجر كيف يصبر على الأسفار، وسوء أخلاق الرجال، ويكف نفسه عن لذة الراحة، وذلك ليصل إلى مراده، وهو الأرباح وعدم الخسارة - وانظر إلى الغريب، وكيف يصبر على شدة العيش في أيام الغربة؛ لأن له غاية وهدفًا، وهو أن يعود إلى بلده، وقد حقق مراده). وهكذا كل صاحب هدف، ولو كان باطلًا، فإنه يصبر على ذلك ليصل إلى مراده؛ قال الله -تعالى- عن صبر الكفار: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) (ص:6)؛ فكيف بأهمية الصبر في حقك أنت، يا صاحب أعظم هدف، وهو الفوز بالجنة، والنجاة مِن النار؟!

(1) أنواع الصبر:

- هي ثلاثة: (الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة).

النوع الأول: الصبر على طاعة الله:

- وهو المواصلة والمجاهدة في طاعة الله حتى تلقاه، وعدم الالتفات إلى داعي الراحة والكسل، وتحمل المصاعب والمشاق في ذلك: قال الله -تعالى-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99).

- مثاله من السير والتاريخ (مسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة): قال -صلى الله عليه وسلم- بعد مسيرة الطاعة والجهاد: "اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد". وقال -تعالى- عن الصحابة وأمثالهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) (الأحزاب: 23). وقال -تعالى- عن تصبير موسى -عليه السلام- قومه: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف:128).

- أمثلة واقعية لبعض الطاعات التي لا يصبر عليها كثير من الناس: (صلاة الصبح في جماعة - حفظ القرآن - تعلم العلم الشرعي - الدعوة الى الله وتحمل الأذى في النفس والمال - إلخ).

النوع الثاني: الصبر عن معصية الله:

- وهو المواصلة والمجاهدة في ترك معصية الله حتى تلقاه، وعدم الالتفات إلى داعي الشهوات واللذات، وتحمل المصاعب والمشاق في ذلك.

- مثاله من السير والتاريخ (صبر يوسف -عليه السلام- على مغريات امرأة العزيز): (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف:23).

- أمثلة واقعية لبعض المعاصي التي لا يصبر عليها كثير من الناس: (شرب الدخان - مشاهدة الأفلام - سماع الأغاني - الصبر عن العمل في وظيفة محرمة لأجل الراتب - إلخ).

النوع الثالث: (وهو أكثر ما ينصرف إليه أكثر الناس عند ذكر الصبر): الصبر على أقدار الله المؤلمة.

- وهو التسليم لقضاء الله وقدره، والرضا بما قدَّره الله مما يشق على النفوس (المرض - فقد الولد - ضياع المال - الظلم والقهر - المصائب عمومًا): قال -تعالى-: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:155، 156).

- مثاله من السير والتاريخ (صبر أيوب عليه السلام - صبر يعقوب عليه السلام - صبر آل ياسر رضي الله عنهم): قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَيُّوبَ نَبِيَّ اللهِ -عليه السلام- لَبِثَ بِهِ بَلاؤُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، ‌فَرَفَضَهُ ‌الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ...) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني). (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف: 18)، (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) (يوسف: 86)، (صَبْرًا ‌آلَ ‌يَاسِرٍ، ‌فَإِنَّ ‌مَوْعِدَكُمُ ‌الْجَنَّةُ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني)(1).

(2) فضل الصبر في الدنيا والآخرة:

- الصبر سبب معية الله وحفظه ومحبته: قال الله -تعالى-: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:46).

- الصبر طريق الإمامة والتمكين للدين: قال الله -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).

- الصبر طريق الفلاح والنجاح والتوفيق والسداد: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ) (متفق عليه).

- الصبر أعظم ما يعين على الثبات عند مواجهة مكر الأعداء: قال الله -تعالى-: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) (آل عمران:120).

- الصبر عاقبته خير للعبد في الدنيا والآخرة: قال الله -تعالى-: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل:126)، وقال الله -تعالى-: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) (المؤمنون:111)، وقال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة:155-157)، وقال: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر:10).

- وبالجملة.. الصبر عاقبته الجنة (بلاد الراحة والأفراح): قال -تعالى-: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا) (الفرقان:75).

قال السعدي -رحمه الله-: "أي: المنازل الرفيعة والمساكن الأنيقة الجامعة لكل ما يشتهى وتلذه الأعين؛ وذلك بسبب صبرهم نالوا ما نالوا، كما قال -تعالى-: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ. سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد:23- 24)" .

(3) أسباب معينة على الصبر:

1- تدبر ما سبق مِن الآيات والأحاديث في فضل الصبر، ولا سيما الداعية إليه عند اشتداد الأذى.

2- دراسة سير الأنبياء والمرسلين؛ لا سيما الفترة المكية في حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.

3- العلم بأن القدر سبق بذلك، وأن كل شيء قدَّره الله له فيه حكمة؛ فهو العليم الحكيم، قال الله -تعالى-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ثم قال: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) (الحديد:22، 23).

4- أن يعلم العبد أن عواقب الأمور تتشابه في الغيوب، فرب محبوب في مكروه، ومكروه في محبوب؛ قال الله -تعالى-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216).

5- من ذلك أن المصائب تفتح على العبد أبوابًا مِن العبادات: كالدعاء، والإنابة، كما قال الله -تعالى-: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) (الروم:33).

6- أن يعلم أن العاقبة والنصر للمؤمنين، ولكنها مراحل يقدرها الله لحكم كثيرة، ومنها أن يرى منك الصبر: قال الله -تعالى-: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ . أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) (آل عمران:140-142).

فاللهم اجعلنا مِن الصابرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ       

(1) فوائد حول أنواع الصبر:

- من هذه الفوائد: (1- الصبر منه اختياري واضطراري. 2- أيهما أكمل وأفضل؟ 3- أفضل أنواع الصبر. 4- الصبر فطري أم كسبي).

أولًا: الصبر منه اختياري واضطراري:

الصبر على الطاعة وعن المعصية يكون اختياريًّا، وأما الصبر على الأقدار المؤلمة فيكون اضطراريًّا، وهذه أمثلة على ذلك: فمن الأول: صلاة الصبح في جماعة، فيها كسب من العبد واختيار، حيث يجاهد نفسه في فعل الطاعة، فصبره اختياريًّا.

ومن الثاني: عدم شرب الدخان أو مشاهدة الأفلام، فيها كسب من العبد واختيار، حيث يجاهد نفسه في صبره عن فعل المعصية.

ومن الثالث: فقد ولد الإنسان، دون كسب منه ولا اختيار، وصبره اضطراري؛ لأنه إن لم يصبر فلن يغير شيئًا.

ثانيًا: أيهما أكمل وأفضل؟

الجواب: الصبر الاختياري أفضل وأكمل من الصبر الاضطراري:

ومن أمثلته: صبر يوسف -عليه السلام- عن مطاوعة امرأة العزيز كان أكمل من صبره على إلقائه في البئر والسجن. وصبر إبراهيم -عليه السلام- على ذبح ولده، كان أكمل من صبر يعقوب -عليه السلام- على فقد ولده. وصبر الأنبياء الذين حملوا الرسالات وعاشوا يعلمون الناس ويتحملون الأذى، أكمل من صبر أيوب -عليه السلام- على تحمل المرض.

ثالثًا: أفضل أنواع الصبر:

- اختلفوا في ذلك ورجح شيخ الإسلام الصبر على الطاعة، ورجح غيره الصبر عن المعصية، وتوسط ابن القيم حيث رأى الأفضلية على حسب الوقت والحال من باب "واجب الوقت".

رابعًا: الصبر فطري أم كسبي؟

- هو فطري وكسبي: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ) (متفق عليه).