كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ففي التحاق الأستاذ محمود محمد شاكر بكُلِّيَّةِ الآدابِ قِصَّةٌ، مِن الجميل أنْ نَذكُرَها، وهي: أنّ الأستاذَ محمود شاكر عندما طلب الالتحاقَ بكُلِّيَّةِ الآدابِ رفض هذا الأمرَ مُدِيرُ الجامعةِ الأستاذُ أحمد لطفي السيِّد (1872 - 1963)؛ لأنّ الكُلِّيَّةَ لا تقبل إلا مَن تَخرَّج مِن القِسْمِ الأدبيِّ مِن البكالوريا.
فتَوسَّط له الدُّكتور طه حسين، وكان هناك اختبارٌ باللُّغةِ الفرنسيّة، فقال له الدُّكتور طه: هل تُحسِنُ اللُّغةَ الفرنسيّةَ -يا محمود-؟ فقال له: أُحسِنُها كتابةً ولا أُحسِنُها كلامًا، ولكن أُتْقِنُ اللُّغةَ الإنجليزيّةَ كتابةً وكلامًا؛ فقال له: هذا لا يَنفَع -يا محمود-، ولكنْ إنْ سألوك بالفرنسيّةِ: هل تَستطِيعُ أنْ تُجِيبَ بالإنجليزيّة؟ فقال له: نعم؛ فأنا أعلم ما سيَقُولُونَه لي بالفرنسيّة، وأستطيعُ أنْ أُجِيبَهم بالإنجليزيّة، ولكن لا أستطيعُ أنْ أُجَارِيَهم في الفرنسيّة.
فامتحن الأستاذُ محمود، ونجح في الامتحان، وتَحَقَّقَتْ رغبتُه في الالتحاقِ بكُلِّيَّةِ الآداب.
وكما كان مُتَوقَّعًا فقد فَاقَ الأستاذُ محمود أقرانَه في الكُلِّيَّة، وكان مستواه يَتقدَّم عليهم بمراحل، بسبب الثَّروةِ الأدبيّةِ الثَّقافيّةِ التي كان يملكها قبل التحاقِه بالجامعة.
فقد كان يَقُولُ عن نَفْسِه: (لا أُحِبُّ أنْ أُثْنِيَ على نَفْسِي، ولكن في الحقيقةِ أنا كنتُ أُحِسُّ أنَّنِي فَضْلَةٌ في الجامعة).
وكيف لا يَمْلِكُ مِثْلَ هذه الثَّروةِ وهو الذي قرأ مع "لسان العرب" كتابَ "الأغاني" لِأَبِي الفَرَجِ الأَصْفَهَانِيّ -ت ???-، وقد جاوز كتابُ "الأغاني" العِشْرينَ مُجلَّدًا كما هو معروف، هذا لِوَحْدِهِ وهو في الثَّانيةَ عشرةَ مِن عُمْرِه؟!
فقد قال الأديبُ الدُّكتور عبدُ القُدُّوس أبو صالح (1932 - 2022) -رحمه الله-: (رأيتُ عند الأستاذِ محمود شاكر بعضَ العلاماتِ في كتابِ "لسان العرب"، فقلتُ له: ما هذه العلاماتُ -يا أستاذَنا-؟ قال: رحمةُ اللهِ على أخي أحمد، فقد كان يُعَلِّمُ لي علاماتٍ، ويقول لي: تُسَمِّعُ لي ما عند هذه العلاماتِ بعد ذلك، وتَقرأُها عليّ).
فهذا شابٌّ نَشَأتْ بَرَاعِمُهُ في بيئةٍ أتَاحَتْ له أنْ يَكُونَ واعيًا بقضايا أُمَّتِه، وفي واحةٍ غَمَرَهُ نَسِيمُها بمعرفةِ اللُّغةِ والأدبِ والثَّقافة.
وكان قَبْلَ دخوله الجامعةِ مباشرةً (في سنة 1925) قد أعطاه أستاذُه الأديبُ أحمد تيمور باشا (1871 - 1931) عددًا مِن مجلَّةِ الجمعيَّةِ الآسيويَّةِ الملكيَّة، وقال له: (يا محمود؛ خُذْ هذه المجلَّة، فيها مقالٌ لِمرجليوث عن الشِّعر الجاهليّ؛ فانْظُرْ فيها)، ثُمَّ راجَعَه بعدها وقال له: ماذا وجدتَ -يا محمود-؟ فقال الأستاذُ محمود: (وجدتُ أعجميًّا غَثًّا باردًا صَفِيقَ الوجهِ، يُشكِّكُ في نسبةِ الشِّعر الجاهليِّ إلى أهلِه، ويَدَّعِي أنّ أَكْثَرَهُ مَنْحُولٌ!).
فكان المُستَشرِقُ دي?يد صمويل مرجليوث (1858 - 1940) يَدَّعِي أنّ الشِّعرَ الجاهليَّ حديثُ الولادةِ، وأنّ الذي أنشأه هم قومٌ مُسلِمون، وأنّهم كانوا يُحاكُونَ القُرآنَ بهذا!
وأراد مرجليوث بهذا الادِّعاءِ الخبيثِ هَدْمَ فِكْرَةِ إعجازِ القرآنِ الكريم.
فاختبأ ما قرأه الأستاذُ محمود شاكر في هذه المجلّة في ذاكرتِه، وفي السَّنةِ الثَّانيةِ مِن الجامعةِ (سنة 1926) وَجَدَ صدى ادِّعاءِ مرجليوث على لسان أستاذِه طه حسين، ولكن طه حسين كان يَدَّعِي نَفْسَ ادِّعاءِ مرجليوث مِن التَّشْكِيكِ في نسبةِ الشِّعرِ الجاهليِّ إلى أهلِه، دون أنْ يَنْسِبَ هذا الادِّعاءَ إلى قائلِه مرجليوث، بل يَنسِبُه لِنَفْسِه!
وهنا تَبيَّن لِلأستاذِ محمود شاكر أنّ أستاذَه طه حسين سطا على مقالةِ مرجليوث، فثارتْ نَفْسُه، وحَزَنَ حُزْنًا شديدًا، لكن؛ لَم يكن الأستاذُ محمود يُصرِّح بهذا في العلانيةِ أمام أستاذِه طه حسين وزملائِه في الكُلِّيَّة، تَأدُّبًا مع أستاذِه طه حسين، الذي كان له الفَضْلُ عليه بعد فَضْلِ اللهِ -عزّ وجلّ- في دُخُولِه كُلِّيَّةِ الآدابِ مِن القِسْمِ العِلْمِيِّ في البكالوريا -كما ذَكَرْنا-، وهذا لا يَمنَعُ مِن أنّ الأستاذَ محمود شاكر كان يَحكِي في هذا الموضوعِ مع بعضِ زملائِه، وكان كلامُه يَصِلُ إلى أستاذِه طه حسين، فكان يَسْكُتُ عنه أحيانًا، ويُعَنِّفُه أحيانًا، ويَحتَضِنُه أحيانًا، لكن لا يتراجع عن نسبةِ هذا الادِّعاءِ لِنَفْسِه لا لِقائلِه مرجليوث.
وكان الدُّكتور طه حسين يَستَدعِي تلميذَه الأستاذَ محمود شاكر بعد المُحاضَراتِ إلى مَكتَبِه، وكان يَتهرَّبُ مِن فِكْرَةِ أنّ كلامَه هذا قد أخذه عن المُستَشْرِقِ مرجليوث، وكان يَعِدُ الأستاذَ محمود شاكر بأنْ تَمُرَّ السَّنةُ في الكُلِّيَّةِ دون امتحانات، ومَكانةُ الدُّكتور طه حسين في الجامعةِ كانت تُتِيحُ له أنْ يَفْعَلَ ذلك، ولكن الأستاذ محمود شاكر كان مُصِرًّا على أنْ يُعلِنَ الدُّكتور طه ويُصرِّحَ أمام الجميعِ بأنّ كلامَه عن الشِّعْرِ الجاهليِّ قد أخذه عن المُستَشْرِقِ مرجليوث، والدُّكتور طه كان يَرفُضُ هذا بالطَّبْع، بل كان يَنْفِي هذا مِن الأساس.
فوجد الأستاذُ محمود شاكر نَفْسَهُ أمام قضيَّةِ سرقةٍ أدبيةٍ، وأنّ الجامعةَ تَعتَمِدُ في تدريسِها على مناهجِ المُستَشْرِقِينَ الفاسدةِ، فاتَّخَذَ قرارًا غريبًا، نَذْكُرُهُ في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-.
والحمدُ للهِ ربِّ العالَمِين.