كتبه/ أحمد جميل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإخواننا في هذه الأيام قد عقدوا الإحرام وقصدوا البيت الحرام، وملئوا الفضاء بالتكبير والتهليل والتسبيح والإعظام، استجابة لنداء إبراهيم -عليه السلام-: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحـج:27)، ويا لها من أيام عظيمة ولحظات مهيبة تلك التي نحياها في هذه الساعات، ولنا معها وقفات روحانية، وتأملات إيمانية، فحديث الحج لا ينقطع، إلا أنه للناس شأن وللمسلم شأن آخر، فهو لا تمر عليه الأحداث فيضيعها هباء ويتركها سدى، بل ينظر إليها بمنظار الشرع ويكيلها بميزان الكتاب والسنة.
وأثناء سيرنا إلى مكة -بقلوبنا أو بأبداننا- نجد لافتات على الطريق، فإليك -أخي الحبيب- بعضها، لك غنمها وعليّ غرمها، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
لافتة: من عبق التاريخ:
لنعود إلى الوراء قرونًا وننظر إلى هذه البقعة من الأرض -مكة- كيف كانت؟ وكيف أصبحت؟ صحراء جرداء لا زرع ولا ماء، ولا أنيس ولا جليس، إذ بها تصير مهجة القلوب وقِبلة الأبدان، تهبط بها الركبان وتؤمها الوفود من كل مكان، إنها دعوة الخليل إبراهيم: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37)، وذلك نتاج الاستجابة لأمر الله -تعالى-، فحقق دعوة إبراهيم وأعلى ذكره وحفظ أهله، وهي حكمة بالغة من لدن حكيم خبير؛ ليصطفي هذا المكان على سائر الأمكنة، وذلك البلد من دون البلدان، يفعل ما يشاء -سبحانه وتعالى-، ويحكم ما يريد.
لافتة: بالصبر واليقين.. تـُنال الإمامة في الدين:
ما زلنا مع الأسرة المباركة -أسرة إبراهيم عليه السلام-، الزوج يترجم الأمر الإلهي ترجمة عملية فورية، يذهب بزوجه ورضيعها إلى حيث أمره ربه -عز وجل-، دون تردد أو تفكير، والزوجة مطيعة لزوجها معه حيثما سار، وتحين لحظة الفراق فيتركهما إبراهيم في المكان المحدد والمقدر له أن يُختار بدقة، ومكة وقتها بالوصف الذي ذكرنا، تتساءل هاجر أم إسماعيل وبعفوية: "يا إبراهيم كيف تتركنا؟ ولماذا ترحل عنا؟" ثم تعقـّب: آلله أمرك بهذا؟ فيومئ برأسه أن نعم. فتقول: إذن لن يضيعنا!
أي إيمان هذا -من الزوجين معا-!
أي توكل ويقين وثقة بوعد الله!
ولله درك يا أمنا هاجر، إي والله من استقام على أمر الله؛ لا يضيعه الله، ومن وثق بموعوده؛ كفاه.
لافتة: الحصاد الحلو:
هذا هو الأب وتلك هي الأم فما عساه يكون الولد، ازرع تمرًا؛ تجن ثمرًا حلوًا، ومن يزرع حنظلاً فماذا ينتظر؟
إذا علمت المقدمة من حال الأبوين فلا يكون الولد إلا إسماعيل -عليه السلام- (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا) (مريم:54)، سارع بلسان الحال والمقال: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) فكان الجزاء وفديناه بذبح عظيم، رد الفضل لأهله وتجرد من حوله وقوته فقال: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات:102)، ولم يقل: إني من الصابرين.
هذا هو الفرع إسماعيل، أما الأصل إبراهيم فاختاره الله خليلاً له، شرع الأب بذبح ابنه بيده، ابنه بكره ووحيده، وقد رُزقه على كبر، بل ومتى يؤمر بذبحه؟ حينما يبدأ الولد في بلوغ مبلغ القوة ووقتها ينتظر كل والد من ولده أن يكون عونًا له على مشاق الحياة ونوائب الدهر، وهنا تتعارض محبتان: محبة فطرية جبلية لفلذة الكبد، ومحبة امتلأ بها قلب أبي الأنبياء لله -عز وجل- ولأمر الله وشرعه، كل أب ربما سيفكر ويتردد ويتراجع أمام أمر جلل كهذا إلا إبراهيم -عليه السلام- فالأمر محسوم سلفا عنده، وهو العبد الرباني الذي لم يكن هذا هو الاختبار الأول الذي يجتازه بجدارة.
واسمع لقول الله -تعالى- في غير موضع من كتابه العزيز: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124)، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا) (مريم:41)، (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:120)، (سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الصافات:109)، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ) (الزخرف:26)، (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم:37)، (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4).
فلما ذبح إبراهيم هوى نفسه في قلبه بسكين المحبة لله؛ كانت الجائزة أن اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وهنا لا فائدة من ذبح الغلام بعد ما تحقق بحق صدق إيمان الأسرة المسلمة فكان الفداء (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (الحـج:37).
لافتة: مشهد العبودية:
إن أحد معاني الإسلام: الاستسلام لأمر الله -تعالى- فالمؤمن الصادق يرى نفسه عبدًا لربه -عز وجل-، لا يملك إلا أن يصدر عن أمر سيده ينتظر التكليف "افعل أو لا تفعل" ظهرت الحكمة له من وراء ذلك أم لم تظهر (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا) (الأحزاب:36)، (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162).
والمتأمل في مناسك الحج وأفعاله يظهر له بوضوح مشهد العبودية، فالحاج هنا يحرم، وهنا يصلي، وهنا يطوف، يقوم في هذا المقام وينزل بذلك، ويبيت بتلك البقعة، حجر يطوف به "وهو الكعبة"، وآخر يقبله "وهو الحجر الأسود"، وثالث يرميه "وهي الجمرات"، عبودية واستسلام لأمر الملك العلاّم، وأشرف مقام يقومه الإنسان مقام العبودية (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الإسراء:1)، فلم يُزكى نبينا في هذا الموضع بأفضل من وصفه بالعبد لله -تعالى-.
ومــما زادني شــرفا وتيـهـا وكدت بأخمصي أطأ الثُريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
لافتة أخيرة: رسالة إلى من لم يحج هذا العام:
انو، اخلص، اعزم، ثق بربك وتوكل عليه، وكن على يقين برحمة ربك، تؤجر بإذن الله -تعالى-.
قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) (متفق عليه)، وقال أيضًا -عليه الصلاة والسلام-: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلاَّ كَانُوا مَعَكُمْ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: (وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ) (رواه البخاري).
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقــمنا عـلى عـذر وقد رحتم ومن أقـام علـى عـذر كمـن راحــا
ثم دونك العشر الأول من ذي الحجة لا تمل من الاجتهاد فيها بطاعة الله؛ عسى الله أن يكتبنا جميعا من المقبولين.
والحمد لله رب العالمين.