نحن أولى بعيسى منهم تعليق على فيلم "شفرة دافنشي"
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة ـرضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ. قَالُوا كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلاَّتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ فَلَيْسَ بَيْنَنَا نَبي)، وفي رواية: (لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِي)، وهذا الحديث يبين قضيتين هامتين في أصل الإيمان بالأنبياء الذي هو أحد أركان الإيمان الستة.
القضية الأولى عامة وهي أن الأنبياء يشبهون فيما اشتركوا فيه وما اختلفوا فيه الإخوة لعلات -(الضرائر)- أي الإخوة لأب الذين اتحدوا في الأب واختلفت أمهاتهم، إشارة إلى اتحاد أصل دينهم (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ)(النحل:36).
وأما الشرائع فاختلفت حسب حاجة كل أمة (لِكُلٍ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)(المائدة:48)، ومما يدخل في أصل الدين المشترك بين الأنبياء أصول العبادات، وأمهات المحرمات كما قال -تعالى-: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)(الأنبياء:73).
وأما القضية الأخرى فهي قضية خاصة بعيسى -عليه السلام-، وأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- أولى به في الدنيا والآخرة.
وقد ورد مثل هذا أيضاً في حق موسى -عليه السلام- حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ) رواه البخاري، وورد هذا أيضاً في حق أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(آل عمران:68)، ومن هنا نعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه أولى الناس بجميع الأنبياء بصفة عامة، ثم قد يكون لبعض هؤلاء الأنبياء شأن ليس للآخر، فإبراهيم -عليه السلام- هو جد النبي -صلى الله عليه وسلم- وإليه تنسب ملته. أننا أولى بعيسى منهم، فالواجب علينا أن ننصر رسل الله ومنهم المسيح -عليه السلام-، وأن نذب عن عرضه وندافع عن سيرته |
وشريعة موسى -عليه السلام- أتم شريعة قبل شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأما عيسى -عليه السلام- فله عدة خصائص مع هذه الأمة منها ما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث من أنه ليس بينه وبين نبينا -صلى الله عليه وسلم- نبي، ومنها أنه -عليه السلام- ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- باسمه كما أخبر الله عنه -عليه السلام- أنه قال: (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)(الصف:6).
ومن العجيب أن هذه البشارة ظلت موجودة وأفلتت من يد التحريف إلى عصرنا الحاضر حيث ذكروا في كتبهم أن عيسى -عليه السلام- ذكر أن الله -عز وجل- يرسل بعده "الفارقليط" وهي كلمة يونانية ترجمتها الدقيقة أحمد، وهو عين ما ذكره القرآن عن عيسى -عليه السلام-.
ولم ينتبه أهل الكتاب إلى ذلك أول الأمر فلما تنبه المسلمون إلى ذلك واحتجوا به عليهم حذفوا هذه الكلمة وترجموها ترجمة باطلة إلى "المعزي".
ومن شأن عيسى -عليه السلام- مع هذه الأمة أنه هو الذي يرشد الخلائق إلى المقام المحمود لمحمد -صلى الله عليه وسلم- فهو الذي يرشد الخلائق إلى الاستشفاع بمحمد -صلى الله عليه وسلم- في تعجيل الفصل بين العباد، ثم يعود ويرشدهم إلى الاستشفاع به -صلى الله عليه وسلم- في فتح باب الجنة.
ومن شأنه أنه -عليه السلام- ينزل في آخر الزمان كأحد أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن أعجب ما ذكره العلماء في حكمة ذلك أن عيسى -عليه السلام- لما وصف له ربه حال الأمة المحمدية: (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ)(الفتح:29)، تمنى -عليه السلام- أن يدرك هذه الأمة الخيرة حباً منه في الخير، ولما كانت بعثته -عليه السلام- في زمن اشتد فيه عناد بني إسرائيل فلم يؤمن له إلا فئة قليلة من الناس، سأل -عليه السلام- ربه بأن يلحقه بهذه الأمة فاستجاب له ربه، وجعل نزوله في زمن من أكثر أزمان الأمة المحمدية خيرية ـزمن الإمام المهدي وزمن قتل الدجال-.
عيسى -عليه السلام- أحبَّ هذه الأمة قبل أن يراها، فهل يسعنا إلا أن نبادله حباً بحب؟ وقبل هذا أحبه ربنا أفلا نحبه؟!
أرأيتم كيف أثنى الله على المسيح عيسى -عليه السلام-، لما جاء وفد نصارى نجران يجادلون النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن ما ادعوه من ألوهية عيسى -عليه السلام- فأنزل الله بضعاً و ثمانين آية من صدر سورة آل عمران يبين فيها أنه كان عند الله وجيهاً، ولكنه يظل عبداً لله ورسولاً، وقبل أن يثني عليه ربه -عز وجل- أثنى على جده وجدته لأمه، وعلى أمه، وعلى خالته وعلى زوج خالته زكريا -عليه السلام-، وابن خالته يحيى -عليه السلام- حباً من الله لعبده ورسوله عيسى -عليه السلام-، أبعد كل هذا الحب من الله للمسيح أفلا يحبه الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟!
لقد أحبه رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حتى جعل نفسه أولى الناس به في الدنيا والآخرة، ونحن نحبه -عليه السلام- لكل هذه الأسباب، ونحبه -عليه السلام- باعتبارين:
الأول: أنه رسول من أولي العزم من الرسل.
الثاني: أنه صحابي؛ لأنه لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج ولقياه للنبي -صلى الله عليه وسلم- تختلف عن لقيا غيره من الأنبياء؛ لأنه ما زال في حياته الدنيا، وليس في حياة برزخية كسائر الأنبياء، والمسيح -عليه السلام- وإن كان مستغنياً عن رتبة الصحبة برتبة الرسالة إلا أننا كأمة نتشرف بانتسابه إلينا، وهو كعبد محب للخير أحب أن يكون من هذه الأمة الخيرة، ومتى عددنا المسيح -عليه السلام- في الصحابة فلا شك أنه سيكون أفضل من أفضلهم أبي بكر -رضي الله عنه-، ولذلك ألغز فيه التاج ابن السبكي بقوله: مبدأ التمثيل كذب وزور، وتمثيل الأنبياء خاصة أشد ظلاماً وإظلاماً |