طريقة أهل الكفر والعناد في معارضة الأنبياء وأتباعهم (7)
كتبه/ علاء الدين عبد الهادي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما رأيناه مما سبق كله ما هو إلا صور شتى من صور الصد والصدود عن سبيل الله، فأما الصدود فنفورهم عن سبيل الحق بكل ما أوتوا من عزم وتصميم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) (النساء:61)، وأما الصد فحرصهم على إقصاء الناس عن الحق وإقصائهم عنه بكل وسيلة ممكنة ظلمًا وعدوانًا: (ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ . الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ) (هود:18-19).
إذن فالعداوة المتجذرة في القلوب، وحرصهم على الصد والصدود عن سبيل الله إنما حملهم عليها ذلك الكفر المتغلغل في أعماقهم، والمتأصل في وجدانهم، كفر بالله -سبحانه- القاهر فوق عباده؛ إذ لو آمنوا به لخشعت قلوبهم للحق، وللهجت ألسنتهم بذكره، ولوجدوا في قلوبهم حلاوة الإيمان وبرد اليقين فنصروا الله بطاعته، والرسول بمتابعته؛ فأيدهم الله في الدارين، ووفقهم لمزيد من الهدى والإيمان: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران:174)، ولكنهم كفروا بالله فصدوا عن سبيله.
ولو آمنوا برسل الله لعلموا أن الخير على أيديهم جار، وأن النصر في ركبهم مقرون، ولمَا خالفوهم وحاربوهم، وآذنوا بحرب من الله ورسله لا طاقة لهم بها: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ) (الأنبياء:105)، ولكنهم كفروا بهؤلاء الأنبياء الأصفياء فصدوا عن سبيل الله الذي كانوا ينادون عليه.
ولو آمنوا باليوم الآخر وأن مردهم إلى الله فسائلهم عما فعلوا في دنياهم؛ لعملوا من الصالحات أعمالاً، ولأعدوا للسؤال جوابًا، ولكنهم أشربوا حب الدنيا وعبادتها وكراهية الموت، والآخرة، بل إنكار البعث والجزاء، وقالوا: (إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (المؤمنون:37)، ففسدت عقيدتهم، وساءت أعمالهم، وحاربوا الله ورسله؛ إذ أمروهم بأوامر لم ترقهم، ونهوهم عن نواهي لهم فيها غرض وشهوة؛ فحادوا الله وصدوا الخلق عن متابعة سبيل الأنبياء: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف:37).
فتراهم يمعنون في هذا الصد بإصرار عجيب، ويتربصون بالمؤمنين كل سبيل حتى قال لهم أحد أنبيائهم: (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف:86)، إلا أن هؤلاء المفسدين لا يتبعون غير هذا السبيل، ولا يحرصون إلا عليه، وما أقبح فعلهم الذي فاق كل مخالفة: (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217).
ولئن اختلف أهل الباطل فيما بينهم إلا أنهم تتوحد هممهم على المؤمنين في هذا المضمار، ويتجمع شتاتهم عليهم؛ صدًا لهم عن سبيل الله الذي أمرهم بلزومه، فها هم أهل الكتاب من يهود ونصارى على اختلاف بينهم يتفقون على بغض أهل الإيمان إلا أن يدخلوا في دينهم: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120)، وهم يريدون أن يحرفوا المؤمنين عن عقيدتهم -لا سيما الداخلين حديثًا في دين الله الراغبين فيما عنده سبحانه- فيقول فيهم الله -تعالى-: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (آل عمران:99).
وللمرء أن يعجب كيف يصرون على هذا الصد وهم يعلمون الحق واضحًا جليًا -لا سيما كبراؤهم-: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة:146).
وكم تفنن الرهبان والأحبار في الصد عن سبيل الله؛ إما تشويهًا للحق الذي مع المؤمنين أو تزيينًا للباطل الذي معهم، وتلبيسًا على أذنابهم وأتباعهم من الأميين الذين: (لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ) (البقرة:78)، وهم ما زالوا على هذا الحال منذ القدم لا يرعوي هؤلاء عن الإغواء والإضلال، ولا يستنكف هؤلاء عن التبعية العمياء حتى أفسدوا عليهم دينهم وآخرتهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (التوبة:34).
وقد استأثر اليهود بنصيب وافر من ذلك فعاقبهم الله في الدنيا، وقال: (فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) (النساء:160)، وعاقبهم كذلك في الآخرة، وقال: (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة:79).
ولم تقتصر محاولات الصد عن سبيل الله على أهل الكتاب بطبيعة الحال، بل تجدها مِن عموم مَن كفر، فهم يضيقون ذرعًا بالإيمان والمؤمنين، ويريدون إضلالهم بعد ما ضلوا هم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) (النساء:167)، بل الكثرة الكاثرة من أهل الأرض -إلا من أكرمه الله بالإيمان- ليسوا على الحق فضلاً عن نصرته، بل ودوا أن يلحق بهم المؤمنون في ضلالهم: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ . إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (الأنعام:116-117)، ويا لهذه الأهواء التي أردت أصحابها: (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) (الأنعام:119).
تعرف ذلك من حالهم وأقوالهم وأفعالهم، وذلك حينما تراهم يعرضون عن الحق، ويتفننون في كل ما يلهي الناس عن ذكر الله والرجوع إليه: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ . وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (لقمان:6-7)، وحينما تراهم يبعدون عن هذا الحق ويأمرون الناس بالبعد عنه كذلك: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (الأنعام:26).
وحينما يؤثرون على الحق الغالي النفيس الدنيا وما يستحقر من متاعها؛ ليمنعوا المؤمنين من الإيمان: (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (التوبة:9)، وحينما يمنعون الناس من المساجد بيوت الله ويريدون خرابها: (وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الأنفال:34)، وحينما يضيقون ذرعًا من المؤمنين ومظهرهم وعقائدهم وعفتهم حتى قالوا: (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (الأعراف:82).
بل تعرف ذلك في كل ما ذكرناه -اختصارًا- في هذه السلسة من أفعالهم القبيحة كالتسفيه للمؤمنين، والمعاداة لهم والموالاة لأعدائهم، كما يدخل فيه ما سطرناه من حروب التلبيس والتخييل، ومحاولات الإضلال والمكر والخداع، ويدخل فيه الإيذاء بالقول والفعل، والحرب الإعلامية والنكال الذي يتوعدون به المؤمنين، وغير ذلك مما ذكرنا وبصرنا الله -تعالى- به، فهل فعلوا ذلك إلا كراهة للحق واتباعه وصدًا للناس عن اللحاق بسبيل الله القويم وصراطه المستقيم؟
ولكن أبشر أيها الموحد.. فكما بصَّرك الله بعداوتهم وصدهم عن الحق إلا أنه -سبحانه- أخبرك -ومن أصدق من الله قيلاً- ببوار مكرهم وخسران سعيهم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) (محمد:32)، فأعمالهم حابطة بعكس المؤمنين الذين يهديهم الله، ويرزقهم السكينة والتوفيق: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) (محمد:1-3)، كما بشرك الله أن كيدهم سيرد إلى نحورهم، وسينقلبوا أذلاء مدحورين: (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ) (الأعراف:118-119).
ومن بطلان عملهم وصغارهم ما يلحقهم من الحسرة وهزيمة الكيد في الدنيا، وسوء المنقلب في الآخرة: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ . لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال:36-37).
فكما وعد الله المؤمنين في الدنيا بالنصر والتمكين في الدنيا وعدهم الجنة والنعيم في الآخرة؛ ففازوا بأعظم الحسنيين أو كليهما، وعلى النقيض: فالكافرون الظالمون الصادون عن سبيل الله، لهم اللعن والخزي والخسران في الدنيا، ولا تلحقهم مغفرة حيث ماتوا على ذلك: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (محمد:34)، ولهم كذلك العذاب الشديد في الآخرة: (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ . الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (إبراهيم:2-3).
ولا يتبدل هذا العذاب بنعيم، بل يزاد لهم العذاب: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) (النحل:88)، وهذا العذاب وهذه الزيادة إنما هي جزاء أعمالهم حيث إنهم ضلوا وأضلوا خلقًا كثيرًا؛ فاستحقوا أن يحملوا آثامًا أخرى: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (العنكبوت:13). فنسأل الله السلامة.
خاتمة.. بل فاتحة:
وبعد.. فهذا الصراع وهذه أسبابه، وهذا الطريق وهذه ضريبته، وهؤلاء هم الكافرون وتلك طريقتهم، وأولئك هم المؤمنون وذلك ثباتهم، كل قد بيَّن لنا ربنا وصفه وشيمته، وكل قد وصف لنا في القرآن طريقه ومسلكه: (ثم جعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية:18).
وهكذا أيها القارئ الكريم ربما تكون قد انتهت إشاراتنا العابرة، ولكننا لم نستوعب كل أفعال القوم وعلاماتهم المبينة في القرآن، ولكن فيما ذكرناه غنية في هذا المقام وذكرى: (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق:37)، فلتأخذ مما أورد دليلاً على ما أضمر، ولتتأمل هذه الآيات البينات تكن لك هداية لما وراءها.
فهكذا نرى كيف بيَّن لنا ربنا برحمته طبيعة الطريق الموصلة إليه، وجعل عليها علامات تعرف بها وتميز، وأعلمنا أن سلعة الله الجنة، وأنها غالية؛ فلا يدخلها إلا من اجتاز المكاره والعقبات التي قدَّر الله وقوعها من أجل تمحيص الصف المؤمن، وإعلاء لمنزلة المؤمنين عند الله: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:141)، كما بيَّن لنا تفصيلاً وإجمالاً في كتابه الكريم صفات أعداء الدين وأفعالهم وعلاماتهم التي يعرفون بها ويتميزون: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال:42)، فلا يلتبس حق بباطل.
وبيَّن الله -تعالى- كذلك كيف واجه الأنبياء والمؤمنون معهم ومَن بعدهم هذه المكائد، وهذا الصد والنفور حتى نسلك طريقهم الذي ساروا عليه فأنجحوا وأفلحوا، ونتبع السبيل الذي دعانا -سبحانه- لسلوكه؛ صراط الذين أنعم الله عليهم بنعمة الهداية ونور البصيرة، وبيَّن لنا -سبحانه- أيضًا مآل الفريقين وعاقبة السبيلين: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ . وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران:56-57).
فلما وقف المؤمنون على هذا كله استبشروا بوعد الله لهم، وقالوا: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ . رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (آل عمران:8-9)، وسعدوا بالهداية والتوفيق لما يحب ربنا ويرضى ونادوا الكافرين: (أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً) (الأعراف:44)، ويوشك أن يسمعوهم يوم القيامة وهم يقولون: (نعم فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ . الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ) (الأعراف:44-45).
فحقًا قال ربنا في كتابه الكريم -وعز من قائل-: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:89).
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:147).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.