كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قوله -تعالى-: (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)(النحل:127)، يدل على ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الشفقة على الخلق والحرص على هدايتهم؛ حتى الأعداء الذين يمكرون بالإسلام، وقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة؛ قال الله -تعالى-: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)(الكهف:6)، أي: مُهلك نفسك أو قاتل نفسك من الحزن عليهم.
وقال -تعالى-: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(الشعراء:3)، وقال -تعالى-: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)(فاطر:8)، وهكذا ينبغي أن يكون الداعي إلى الله حريصًا على هداية الخلق واستجابتهم لدعوة الحق، وإن كان الواقع أن الدعوة إلى الله تصطدم كثيرًا بعقبات وعوائق لا يتحقق بسببها ما يرجوه الداعي من ظهورها وانتصارها واستجابة الخلق لها، وهذا يسبب له الحزن، وعلى قدر همته وحرصه على تحقق أهداف الدعوة يكون حزنه، حتى يصل إلى درجة عظيمة حتى كاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تذهب نفسه حسرات.
وهذا الحزن يكون عائقًا في طريق الداعي ومثبطًا لعزيمته، وفاتًّا في عضده، ومضعفًا من رجائه وعزيمته وصبره؛ ولذا نهى الله عنه رغم أنه يقع في القلب ابتداء بمقتضى البشرية، لكن لا يجوز أن يستمر حتى لا يعرقل مسيرة الدعوة، قال -تعالى-: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)(الأنعام:33).
وقال -تعالى- في هذه الآية: (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)، وقال -تعالى-: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا)(آل عمران:139)، فالمؤمن إذا نظر في أن عدم إيمان الناس هو بقدر الله -تعالى- وحكمته، وأن من وراء ذلك من المصالح الباهرة ما لا تحيط به العقول، وأنه في قدرة الله أن يجعل الناس جميعًا يؤمنون (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً)(هود:118)، وقال -تعالى-: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا)(يونس:99)، وأن عليه أن يعبد الله على جميع الأحوال وكافة الظروف، وأنه إنما ابتُلي بالأحوال المختلفة لتظهر عبوديته لله بأنواعها المختلفة؛ فعند ذلك يزول حزنه، ويحل محله الرضا والتسليم، بل الاستمتاع بالحياة على ما فيها من المحن والآلام، ويحصل للمؤمن الاستبشار بفضل الله، فتبدد أنوار الرجاء ظلمات الحزن واليأس، فيستمر المؤمن في طريقه لا يبالي بالعقبات، ولا تضعف العوائق عزيمته، ويحصل له التوكل على الله في أهم المقاصد، وهي نصرة الدين وظهور الحق.
وقوله -تعالى-: (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)
تتنازع نفس الداعي إلى الله مشاعر مختلفة، فكما يحزن على من لم يقبل الهدى ودعوة الحق فهو كذلك يضيق صدره بمكر الأعداء بما يقولون ويفعلون في الصد عن سبيل الله وهو يراهم يمكرون بالليل والنهار، ويأمرون الناس بالكفر: (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا)(سبأ:33)، وهو كذلك ينظر -وهو في مرحلة الاستضعاف خاصة- إلى أن الأسباب المادية قد جعلها الله في أيديهم، وعندهم من أنواع القوة، والجاه، والمال، والسلطان ما لا يوجد عند الداعي شيء منه؛ مما يؤدي إلى صرف الناس عن الحق رغم أنه واضح كالشمس، ولكن ينصرف الناس عنه؛ لأنه ضعيف وفقير وغير مـُمَكـَّن، ويستجيبون للباطل ذي الجاه والسلطان وزخرف الدنيا، فيحصل له الضيق من مكر هؤلاء، وقد وقع ذلك للأنبياء؛ قال -تعالى-: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ . وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(الحجر:97-99)، وقال -تعالى-: (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)(النمل:70).
والله -سبحانه- ما أنزل القرآن على نبيه ليشقى ولا ليشقى من اتبعه وآمن به، بل ليسعدوا في الدنيا والآخرة، فلذا كان الحزن والضيق منافيًا لهذه السعادة، فلابد وأن يزول، وإن وقع في القلب ابتداء بمقتضى الطبيعة الإنسانية ولحكم جليلة عظيمة ومنافع جمة للمؤمن؛ منها:
أن هذا الضيق يدفعه للعبادة امتثالاً لأمر الله بالتسبيح، والحمد، والصلاة، والعبادة حتى الممات؛ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ . وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، فيفتح الله بهذا الضيق أبوابًا من الخير والراحة والطمأنينة التي تحصل بذكر الله وعبادته ما لم يكن ممكنًا أن يحصل له بدون هذا الضيق أولاً.
ومنها: أنه إذا استشعر غربته ووحدته في الطريق، وقلة من استجاب للحق، وكثرة من أعرض عنه، ولم يجد من يؤنسه في وحشته؛ استحضر معية الله -سبحانه-، وطلب أسبابها (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(النحل:128)، فيتقي المحارم، ويحسن في عبادة ربه؛ فيعبد الله كأنه يراه، كما يحسن إلى الناس في معاملته لهم: (وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ) رواه الترمذي، وحسنه الألباني، فيعاملهم بالعفو والصفح، وعدم الانتقام للنفس، وهذا مرده إلى حصول الغنى بالله -عز وجل-، وهو لا يحصل إلا بالتفرغ لعبادته، فإذا استغني بالله صغرت الدنيا في عينه فلا يراها إلا كما هي عند الله لا تساوي جناح بعوضة، فعلامَ يحزن على ما يفوته منها؟! وعلامَ يخاصم الناس فيها ولو كان ما يخاصمونه حقًّا له، كرجل غني جدًّا -مليونير باصطلاح المعاصرين- لو وقع منه شيء تافه -ربع جنيه مثلاً- فتصارع الناس عليه؛ أكان يدخل في صراع معهم أم يستحي أن يقول لهم: هذا حقي؟
قطعًا سوف يتركه لهم، ولو كان حقًّا له، وهو يبتسم من نهمهم وشرههم على هذا الشيء الحقير التافه، فكيف إذا كان هذا الشيء أدنى من ذلك -جزء من جزء من جناح بعوضة- وهي لم تحصل لإنسان قط مجتمعة، بل نصيبه منها كذرة صغيرة على قدر عمره ورزقه، فأنَّى يضيق المؤمن بذهاب شيء منها؟!
ولذا كان الإحسان مع الله في عبادته ومع الناس في معاملتهم من أعظم أسباب شرح الصدر وذهاب الضيق والهم والحزن؛ لأنه يجعل العبد مع الله فيرتفع بروحه وقلبه عن الدنيا فيراها حقيرة صغيرة، ولا يحصل له الإحسان في عبادة الله إلا بترك المحارم وأداء الفرائض؛ ولذا بدأ -عز وجل- في الآية الكريمة بالتقوى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)، فبالتقوى تصل إلى الإحسان، وبترك المعاصي تـُوفـَّق للقيام بالليل، وبالتوبة من الذنوب التي هي سبب البلايا والمحن تُوفق للذكر والعبادة مع شرح الصدر، (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ . وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ . الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ . وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ . فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)(الشرح).
فإذا كانت أوزار النبي المعصوم -صلى الله عليه وسلم- وهي من باب النسيان وترك الأولى، أو الخطأ في الاجتهاد تنتقض ظهره؛ فكيف بذنوبنا؟! وقد قال -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)(الشورى:30)، فكان شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر مقدمة لحصول اليسر، ومع العسر دائمًا يسران وبعده يسر آخر: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)(الطلاق:7).
والسبيل إلى ذلك التفرغ للعبادة، وتعظيم الرغبة إليه -سبحانه وتعالى-، فالنظر في عواقب الأمور ومآلاتها وما يعلمه المؤمن من قرب نصر الله -تعالى- وفرجه يذهب الضيق من مكر الماكرين؛ فهو يعلم أن مكرهم قد أحاط الله به علمًا، وهو من ورائهم محيط، والدين دينه وهو ناصره ومظهره وهو القوي العزيز، وهو نعم المولى ونعم النصير، وكفى به هاديًا ونصيرًا، فأنى يبقى الضيق بعد هذا؟!
والمعية المذكورة في الآية هي معية خاصة للمؤمنين كما ذكر ابن كثير -رحمه الله-، وهي معية نصرة وتأييد وحفظ، واستحضارها مذهب للحزن والضيق؛ قال -تعالى- عن نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(التوبة:40).
فتأمل كيف بدأ الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ)، (وَجَادِلْهُمْ)، (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)، ثم ختمت الآية بصيغة الجمع: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)؛ إيذانًا بأن معية الله ليست للنبي -صلى الله عليه وسلم- وحده، بل له منها أعظم نصيب، ثمَّ هي حاصلة لكل متقٍ محسن بقدر تقواه وإحسانه، وبقدر عبادته لله ورغبته فيما عنده، وزهده في الدنيا، وتسامحه وعفوه، وتسبيحه لربه وحمده وذكره، وسجوده وعبادته، نسأل الله أن يجعلنا من المتقين المحسنين.