كتبه/ ياسر عبد التواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد مرَّ بنا أن هناك أحوالاً للحاكم في التعامل مع الأمة، وبحسبها تكون معاملة الأمة معه، وقد مر بنا ثلاثة أصناف مِن الحكام.
الصنف الأول: هو الحاكم العادل المخلص القوي الأمين، وهنا ينطبق عليه كل النصوص الآمرة بالطاعة والمحرمة للخروج.
والصنف الثاني: لا يزال في إطار غلبة المصلحة، وإن كانت بعض قراراته خاطئة أو بها أثرة علينا، لكننا لا نزال نصبر وإن جلد ظهورنا، أو أخذ مِن مالنا.
والصنف الثالث: وهو من قد يأمر ببعض المعاصي فلا نجيبه إليها، لكننا لا نخرج ـ أيضًا ـ عليه، فلعل المنافع مِن الصبر أكبر مِن المفاسد في الخروج.. ودعنا نستكمل الحديث، فنقول:
رابعًا: عزلهم؛ إن غلب فسادهم؛ لأنهم أجراء عند الأمة، وذلك بالطرق السلمية، وهذه حالتنا التي نحن بصددها، وهنا موضع تفصيل.. والآن فلنفصل في النقطة الرابعة التي تجيز خلع الحاكم الجائر بالطرق السلمية حتى وإن كان مسلمًا، وهنا نلفت النظر إلى أن الحاكم يعمل لدى الأمة، وليس العكس؛ فإن كان الأمر كذلك؛ جاز فسخ العقد عند اللزوم.
ودعنا نمهد بقول أبي بكر -رضي الله عنه- خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس، إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت؛ فأعينوني، وإن أسأت؛ فقوموني.. أطيعوني؛ ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله؛ فلا طاعة لي عليكم" (البداية والنهاية)، إذن للأمة الحق في محاسبة الحاكم، وإقالته إن لزم الأمر.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى في بيان هذا الموضوع: "السلطان يؤاخذ على ما يفعله مِن العدوان، وما يفرط فيه مِن الحقوق مع التمكن" (مجموع الفتاوى).
ويقول في موضع آخر: "وهذا ـ أيضًا ـ هو الذي دفع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى عزل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- عن الكوفة عندما اشتكى أهلها منه، فعزله؛ نزولاً عند رغبتهم؛ لأنه وكيل عن الأمة، حتى قال ـ وهو على فراش الموت ـ: إني لم أعزله من عجز ولا خيانة، مما يؤكد أنه إنما عزله؛ نزولاً عند رغبة الأصيل، وهم أهل الكوفة الذين هم جزء مِن الأمة، ولهذا؛ كان عمر لا يتردد في عزل كل أمير يشتكي منه أهل بلده حتى لو كان الحق مع أميرهم؛ لوضوح هذا المبدأ، وهو أن الإمام وكيل عن الأمة، ولهذا قال: هان شيء أصلح به قومًا أن أبدلهم أميرًا مكان أمير" (منهاج السنة).
وقد نص الفقهاء على كون الإمام وكيلاً عن الأمة، فقد جاء في "كشاف القناع عن متن الإقناع" في فقه الحنابلة: "وتصرفه –أي: الإمام- على الناس بطريق الوكالة لهم".
كل ذلك يؤكد أن عقد الإمامة كغيره من العقود، وهو أشبه بعقد الوكالة ينوب فيه الإمام عن الأمة، وحتى معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- الذي حكم مِن سنة ٤١ هـ - ٦٠ هـ، لم يصبح خليفة وإمامًا للأمة إلا في عام الجماعة، بعد أن اجتمعت الأمة عليه، وبايعه الجميع بعد أن بايعه الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، وقد دخل عليه أبو مسلم الخولاني فسلم عليه، فقال: "السلام عليك أيها الأجير"! فقيل له: قل الأمير! فقال: بل أنت أجير!" (الحرية أو الطوفان - حاكم المطيري ص:20).
وبناءً على أن الأمير أجير؛ فإن أي عهد مِن الحاكم لغيره لا يتم إلا بإقرار الناس له، فولاية العهد ترشيح يتوقف على عقد الأمة له بعد ذلك مع إمكانية فسخ العقد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "لا يكون إمامًا إلا بعقد البيعة له مِن الأمة".
وبناءً على ذلك ومادام الحاكم هو أجير لدى الأمة؛ فإن للأمة عزله بسبب كثرة ظلمه حتى ولو لم يكن كافرًا، بل إن أساء إساءات بالغة؛ فلا حرج مِن عزله.
وقد قال ابن الجوزي -رحمه الله- ردًا على مَن يرى أن الحسين -رضي الله عنه- أخطأ في خروجه على يزيد: "لو نظروا في السير؛ لعلموا كيف عقدت له البيعة، وألزم الناس بها، ثم لو قدرنا صحة خلافته؛ فقد بدرت منه بوادر، وكلها توجب فسخ العقد" (مآثر الإنافة في معالم الخلافة).