كتبه/ أحمد الفيشاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتتنوع عبارات "العلمانيين" المناوئين لأحكام الإسلام في التشغيب والتبرير لرفضهم لأحكامه التفصيلية، فتارة تكون عبارتهم صريحة في رفض الدين، أو رفض الإسلام نفسه، وتارة تكون عبارتهم مزخرفة يدارون بها عامة الناس، ويدلسون عليهم فيقولون: إنما نرفض الفهم الخاطئ للإسلام، أو الممارسات السيئة المتعنتة، وأنهم إنما يقبلون المبادئ العامة للإسلام وروح الشريعة، وهم يعنون بالمبادئ العامة -بمفهوم المخالفة-: رفضهم التقيد بالأحكام الشرعية التفصيلية، وربما صرح بعضهم بذلك، ولا يكتفي بالمفهوم، ولكن من هؤلاء من يتجمل ويحاول أن يفسر رفضه ذلك تفسيرًا إسلاميًّا.
ولعل هذا الصنف الأخير هو أخطرهم على الإطلاق، فإن المصرحون برفضهم أو عداوتهم للمشروع الإسلامي -سواء كان رفضًا كليًّا أو جزئيًّا في بعض جوانب الشريعة- قد بان للناس أنهم في الجانب المضاد للدين، وأكثر الناس إلى الآن -بفضل الله تعالى- لا يقبلون إلا أن تحكم فيهم شريعة الإسلام.
أما هؤلاء الذين يحاولون التلبيس على الناس بأن رفض الإسلام نابع مِن الإسلام نفسه فأكثر ما يدندنون حوله هو: ظنية النصوص، واحتمالها لأكثر من معنى، وأنه لا يكاد يوجد أحكام شرعية يقينية أو متفق عليها، ولذلك؛ فإنه يمكننا أن نفسر النصوص في ضوء ما نراه نحن مصلحة؛ لأنه -في الحقيقة -حسب زعمهم- لا يوجد نظرة شرعية محددة للمصلحة، بل ذلك متروك لكل مجتمع يحدد لنفسه مصالحه التي تبنى عليها تشريعاته،
وربما ردد هؤلاء قول حق يريدون به باطلاً، ألا وهو: قول بعض علماء الأصول: "حيثما وجدت المصلحة؛ فثم شرع الله"، وهو قول حق بمعنى: أن شرع الله إن طبق كما بيَّنه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ تحققت مصالح الناس، وهو الذي يصرح به علماء الأصول في شرحهم لهذه الكلمة، لا بمعنى أن شرع الله: أن لا يكون هناك شرع لله، أو أن نحرف النصوص؛ لتتفق مع ما يراه بعض الناس مصلحة، فإن هذا تقويض للشرع باسم الشرع، واعتداء على الدين باسم الدين.
ودعوى ظنية النصوص وتحملها لأكثر من معنى، وحاجتها إلى التأويل أو التفويض دعوى قديمة، تذرع بها كثير مِن أعداء الكتاب والسنة؛ لتقرير باطلهم تارة في العقائد والأخبار، وتارة في الشرائع والأحكام، وإن كان الأشهر عند السابقين من هؤلاء معارضة العقائد والأخبار؛ فإن العلمانيين المعاصرين اختلسوا منهم قواعدهم وأصولهم؛ لمعارضة الشرائع والأحكام.
وهم كلهم -قديمهم وحديثهم- بنوا كلامهم على أصل فاسد، ألا وهو: أن آراءهم وأقوالهم التي اخترعوها أو تبنوها هي أقوال صحيحة محكمة بينة، وما عارضها من كلام الله ورسوله كلام مظنون مجمل محتمل، لا يستفاد منه علم ولا حقيقة، ولا بيان، أو كما يقول شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله- عنهم: "فيجعلون المتشابه مِن أقوالهم هو المحكم، وكلام الله ورسوله هو المتشابه، على خلاف طريقة أهل العلم والإيمان، الذين يجعلون كلام الله ورسوله هو الأصل المحكم البين الذي يعتمدون عليه، ويرجع الناس إليه عند التنازع والاختلاف" اهـ بتصرف.
فالشر إنما دخل على هؤلاء مِن وجهين:
أولهما: ظنهم أن الشريعة قد تخالف العقل الصريح، أو المصلحة المعتبرة.
ثانيهما -وهو كالمخرج لهم مِن الأولى في ظنهم- وهو: أن الشريعة دلالتها إما محتملة لمعانٍ كثيرة، والشارع لم يعيِّن لنا أحد تلك المعاني، وإنما أحالنا في فهم هذه النصوص إلى عقولنا وآرائنا، وما نراه نحن حق ومصلحة، وهم الذين يسميهم شيخ الإسلام بأهل التأويل، وإما أن الشارع لم يرد منا تجاه هذه النصوص سوى قراءتها والتبرك بها! ولم يرد منا أن نفهم منها شيئا؛ لأن معناها لا يعلمه أحد سوى الله، وهم الذين يسميهم شيخ الإسلام بأهل التفويض، وكلاهما يشترك في رمي النصوص بعدم البيان، فمعاني النصوص عندهم ملغزة مجهولة، لم يبينها الله ورسوله.
ولما كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من أبرز من رد على هؤلاء في كتابه الفذ "درء تعارض العقل والنقل"؛ فننقل هنا طرفًا من أقواله في الرد عليهم بتصرف بما يناسب الرد على هؤلاء :
ماذا يفعل المؤمن إذا نازعه عقله بعض ما أمر أو أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
"إذا علم الإنسان بعقله أن هذا رسول الله، وعلم أنه أخبر أو أمر بشيء، ووجد في عقله ما ينازع خبره أو أمره؛ كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه، وأن لا يقدم رأيه على قوله، ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه، وأنه أعلم بالله وبدينه منه، وأن التفاوت الذي بينهما في العلم أعظم بكثير من التفاوت الذي بين العامة وأهل الطب.
فإذا كان العقل يوجب أن ينقاد للطبيب فيما يخبره من مقدرات الأغذية والأشربة و الأضمدة والمسهلات واستعمالها على وجه مخصوص، مع ما في ذلك من الكلفة والألم؛ لظنه أن هذا أعلم بهذا مني، وأني إذا صدقته واتبعته؛ كان ذلك أقرب لحصول الشفاء لي، مع العلم أن الطبيب يخطئ كثيرًا، وأن كثيرًا من الناس لا يشفى بما يصفه له الطبيب، بل قد يكون استعماله لما يصفه له سببًا لعطبه وهلاكه، ومع هذا فهو يقبل قوله ويقلده وإن كان ظنه واجتهاده يخالف ما وصفه له، فكيف بحال الخلق مع الرسل الذين لا يخطئون قط، وكلامهم وبيانهم من أصدق الكلام وأبينه؟!".
دعوى ظنية النصوص معارضة لنص القرآن الكريم:
"قوله تعالى: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً) (الأنعام:114) يبين أن الحكم بين الناس هو الله -تعالى- بما أنزله من الكتاب المفصل، وقوله: (مُفَصَّلاً) يبين أن الكتاب الحاكم مفصل مبين، لا كما يزعمه من يعارضه برأيه وعقله، ويقول: إنه لا يفهم معناه، أو لا يدل على مواقع النزاع، فيجعله إما مجملاً لا ظاهر له، وإما مؤولاً لا يعلم عين معناه، ولهذا كان المعرضون عن النصوص المعارضون لها كالمتفقين على أنه لا يعلم عين المراد من النصوص، وإنما غايتهم أن يذكروا احتمالات كثيرة دون جزم بأحد تلك المعاني، ولهذا أمسك بعضهم عن التأويل وفوض المعنى، وزعم أنها لا تدل على شيء، وأنه لا يعرف المراد منها، فعلى التقديرين لا يكون عندهم الكتاب الحاكم مفصلاً به، بل مجملاً ملتبسًا، أو مؤولاً تأويلاً لا دليل عليه".
التأويل والتفويض فيهما تعطيل للنصوص، وتحريف لدلالتها:
"غاية ما ينتهي إليه المعارضون لكلام الله ورسوله بآرائهم من المشهورين بانتسابهم إلى الإسلام هو: التفويض أو التأويل، وكلاهما فيه إبطال للشرع،
أما التفويض فمعلوم أن الله -تعالى- أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضنا على عقله وفهمه قال تعالى (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (النساء:82)، ونحو ذلك في القرآن كثير، فكيف يجوز -مع ذلك- أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟!
وأيضًا إذا كان الشرع دال على نقيض ما يسمونه: معقولاً؛ فتفويضه: إعراض عن دلالته، وتعطيل لها، وذلك إبطال للشرع، والمقدم لما يسميه معقولاً؛ لا بد أن يقول أن الشرع له دلالة تخالف العقل؛ وإلا لو لم يكن للشرع دلالة مطلقًا، فلا معارضة حينئذ".
"أما التأويل فلا يقبل منه إلا ما دل على مراد المتكلم، والتأويلات التي يذكرونها لا يعلم أن الرسول أرادها، بل يعلم بالاضطرار في عامة النصوص أن المراد منها نقيض ما يقوله هؤلاء، وحينئذ؛ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم؛ كان تأويله للألفاظ بما يمكن أن تحتمله اللغة من باب التحريف والإلحاد، لا من باب التفسير وبيان المراد، فكيف بما لا تحتمله لغة المتكلم أصلاً؟!".
دعوى ظنية النصوص وحاجتها للتأويل أو التفويض تتضمن تنقص الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-:
"أخبر الله -تعالى- أنه أرسل رسوله بالهدى والبيان؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، كما في قوله -تعالى-: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:15-16)، وقال -تعالى-: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89)، وقال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) (التوبة:33)، ونحو ذلك في القرآن كثير.
وإذا كان الأمر كذلك؛ فيقال: أمر الشريعة وما يحتاجه الناس من الأحكام إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على الحق، أو تكلم بما يدل على الباطل، أو لم يتكلم فيه بما يدل على حق ولا باطل.
وإذا قدر أن شخصًا لم يتكلم في هذه الأمور بحق ولا بباطل، ولا هدى، ولا ضلال، بل سكت عن ذلك لم يكن قد هدى الناس، ولا أخرجهم من الظلمات إلى النور، ولا بيَّن لهم ما يحتاجون إليه، ولا كان معه ما يستضيء به السالك المستدل، فكيف لو تكلم هذا الشخص بما يفهم منه خلاف الحق، وكان مدلول كلامه معلوم الفساد بالعقل؟!، فإن هذا الشخص يكون شرًّا من الساكت؛ إذ كان أضل بكلامه وما هدى، وكان مخرجًا لمن اتبعه من النور إلى الظلمات، وهذا هو حال الطاغوت، لا حال الرسول، كما قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) (البقرة:257).
"ومن وصف الأمر على خلاف حقيقته؛ فإما أن يكون قد أصيب من جهة علمه أو قصده أو قدرته، فإنه قد يكون جاهلاً بالحق، وقد يكون عالمًا ولكن ليس مراده تعليم المخاطبين وهداهم، بل قد يكون يقصد إضلالهم كما هو حال أهل الكيد والخداع والنفاق، وقد يكون علمه تامًّا، وقصده البيان، لكنه يعجز عن البيان والإفصاح، فإذا كان المتكلم عالمًا بالحق، قاصدًا هدى الخلق، قادرًا على ذلك؛ وجب وجود مطلوبه.
ومحمد -صلى الله عليه وسلم- كان أعلم الخلق بالله ودينه وشرعه، وهو أحرص الناس على تعليم الناس وهدايتهم، كما قال -تعالى-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 128)، وأمره ربه -تعالى- بالبلاغ المبين، فقال: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (النور: 54)، ونحو ذلك كثير في القرآن.
وكان -صلى الله عليه وسلم- من أفصح الناس وأحسنهم بيانًا كما قال -تعالى- عنه: (إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الأعراف:184)، وقال: (بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) (الزخرف:29)، ونحو ذلك في القرآن كثير.
واللغة التي خاطب الناس بها هي من أتم اللغات بيانًا، وقد امتن الله عليه بذلك، فقال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء: 193-195)، فكيف يكون مع هذا لم يبين الحق، بل بينه من قامت الأدلة الكثيرة على جهله، ونقص علمه وعقله؟!
"وكل عاقل يعلم -بالضرورة- أن من خاطب الناس في أمر الطب أو الحساب أو نحو ذلك من العلوم بكلام عظم به قدره، وكبر أمره، وذكر أنه بين لهم به، وعلم، وهدى، وأفهم؛ ولم يكن في كلامه ما ادعاه، بل كان كلامه أدل على خلاف الحق، كان هذا إما مفرطًا في الجهل والضلالة أو الكذب والشيطنة والنذالة، فكيف إذا كان قد تكلم في أمر الإلهية والحقائق الربانية بكلام زعم أنه أفضل الكلام، ونسبه إلى خالق الأنام، وجعل من خالفه شبيهًا بالأنعام؟! مع أن ذلك الكلام لم يدل على ما ادعاه من الحق، بل دلالته ظاهرة على خلاف العلم والعقل، فهل يكون مثل هذا المتكلم إلا في غاية الجهل والضلال، أو غاية الإفك والبهتان والإضلال؟! فهذا حقيقة قول هؤلاء في الرسول -صلى الله عليه وسلم-".
"وحقيقة قول هؤلاء أن المخاطب لنا -وهو الرسول صلى الله عليه وسلم- لم يبين الحق، ولا أوضحه، بل كلمنا بكلام دل ظاهره على الباطل، وأراد منا أن لا نفهم منه شيئًا، أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه في كلام المتكلم أصلاًَ، وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه، وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد".
"الرسول قد أمره ربه -تعالى- بالبلاغ المبين، ومع البلاغ المبين لا يكون بيانه ملتبسًا مدلسًا، وكل ما في القرآن والحديث من لفظ يقال له: إنه يحتاج إلى التأويل الاصطلاحي الذي هو: صرف اللفظ عن ظاهره المعهود؛ فلا بد أن يكون الرسول قد بين مراده بذلك اللفظ بخطاب آخر، لا يجوز عليه أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل ويسكت عن بيان المراد الحق، ولا يجوز أن يريد من الناس أن يفهموا من كلامه ما لم يبينه ويدلهم عليه؛ لإمكان أن يعرفوا ذلك بعقولهم، فإن هذا قدح في الرسول".
"ولهذا آل الأمر بمن سلك هذه الطريق إلى أنهم لا يستفيدون من جهة الرسول شيئًا من الأمور، فصار وجود الرسول عندهم وعدمه سواء، بل وجوده -على قولهم- أضر من عدمه؛ لأنهم لم يستفيدوا من جهته شيئًا، واحتاجوا إلى أن يدفعوا ما جاء به بالتأويل وبغيره".
"فإنه إذا جاز أن يكون في كلام الله ورسوله شيء يعارض العقل، ويجب تقديمه من غير بيان من الله ورسوله للحق الذي يطابق العقل؛ لم يأمن الإنسان أن يكون كل ما يسمعه من كلام الله ورسوله من هذا الباب، بل غايته أن يقول: ليس عندي من العقليات ما يناقضها، أو: لم أسمع، أو: لم أجد، أو: لم يصلني، ونحو ذلك، وهذا كله لا ينفي أن يكون في نفس الأمر قضايا عقلية لم تصل إليه."
"ومن لم يقر بما تكلم به الرسول إلا أن يعلم ذلك بدليل منفصل غير كلام الرسول -كما هو لازم قول هؤلاء-؛ لم يكن مؤمنًا به، بل كان مع الرسول كالفقهاء بعضهم مع بعض، وهذا في الحقيقة عزل للرسول عن موجب رسالته، وجعل له كأبي حنيفة مع الشافعي، وكأحمد بن حنبل مع مالك، إن قام دليل على قوله؛ وافقه؛ وإلا لم يوافقه".
"ولهذا كان الذين صرحوا بتقديم العقل على السمع ليس فيهم من يستفيد من الأنبياء علمًا أو هدى؛ إذ لم يكونوا مؤمنين بأن الرسول بلغ البلاغ المبين المعصوم، بل إيمانهم بالنبوة فيه ريب وحيرة، فلا تجد أحدًا منهم إلا وفي قلبه مرض في إيمانه بالرسول، فهذا يحتاج -أولاً- إلى أن يعلم أن محمدًا رسول الله الصادق المصدوق الذي لا يقول على الله إلا الحق، وأنه بلغ البلاغ المبين، وأنه معصوم عن أن يقره الله على خطأ فيما بلغه عنه".
المعارضون للشريعة ينزلون أنفسهم منزلة فوق منزلة الأنبياء:
"لازم هذه المقالة وحقيقتها ومضمونها: أن الرسول لا يكون فيما أخبر به عن الله -تعالى- ودينه وشرعه لا علم ولا هدى ولا كتاب منير، ولا يكون قد بلغ البلاغ المبين، ولا أخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولا هداهم إلى ما يعرفون به الحق من الباطل، وأن كلام الله ورسوله لم يدل على المقصود، بل يرجع في معرفة المقصود إلى آراء هؤلاء وأقوالهم، وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام".
"ولازم هذا القول أن يكون ما أتى به هؤلاء من العلم والهدى والمعرفة أفضل وأشرف مما أتى به النبي، وأن يكون هؤلاء أفضل وأكمل من النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن سائر الأنبياء كما قد صرح به طائفة من المتفلسفة وغلاة الصوفية، ومن لم يقر منهم بتفضيل أئمته وشيوخه؛ لزمه ذلك لزامًا لا محيد عنه؛ إذ جعل العلم والهدى والبيان إنما يستفاد من كلام هؤلاء، لا من كلام الأنبياء".
شبهة إعمال العقل والرد عليها:
"وكثير من هؤلاء الذين يقولون أن الرسول لم يبين لنا مراده يقول أن فائدة إنزال هذه النصوص التي يسمونها: مشكلة أو متشابهة، أو محتملة، أو نحو ذلك، فائدتها عندهم: أن يجتهد المجتهدون في صرفها عن معناها ومقتضاها بالأدلة العقلية المعارضة؛ حتى تنال النفوس كدَّ الاجتهاد، وتنهض إلى التفكر والاستدلال، فيثابوا على ذلك.
فحقيقة الأمر عند هؤلاء: أن الرسول خاطب الخلق بما لا يبين الحق، ولا يدل على العلم، ولا يفهم منه هدى، بل يدل على الباطل، ويفهم منه الضلال؛ ليكون انتفاع الناس بخطاب الرسول: اجتهادهم في رد ما أظهره وأفهمه للناس، وأنهم بسبب ذلك ينظرون نظرًا يؤديهم إلى معرفة الحق من غير أن ينصب لهم الرسول على الحق دلالة ولا يبينه بخطاب أصلاً.
"فمثال ذلك عندهم مثل من أرسل مع الحجيج أدلاء يدلونهم على طريق مكة، وأوصى الأدلاء بأن يخاطبوهم بخطاب يدلهم على غير الطريق؛ ليكون ذلك الخطاب سببًا لنظرهم واستدلالهم حتى يعرفوا طريق مكة بنظرهم، لا بأولئك الأدلاء، وحينئذ يردون ما فهموه من كلام الأدلاء، ويجتهدون في نفي دلالته، وإبطال مفهومه ومقتضاه، وصار خلق كثير يزعمون أنهم أعلم بالطريق من هؤلاء الأدلاء وصار كل منهم يستدل بنظره واجتهاده؛ فاختلفوا في الطريق، وتشتتوا وسلكوا طرقًا أخرى غير طريق مكة؛ فأفضت بهم إلى أودية مهلكة، ومفاوز متلفة، وأرض متشعبة؛ فأهلكتهم.
وطائفة أخرى شكوا وحاروا، فلا مع الأدلاء ذهبوا، ولا لطرق المخالفين المختلفين ركبوا، بل وقفوا مواقف التائهين الحائرين حتى هلكوا -أيضًا- في أمكنتهم جوعًا وعطشًا، كما هلك أرباب الطرق المتشعبة، فلم يظفروا بالمطلوب، ولا نالوا المحبوب، بل هلكوا هلاك الخاسر الحائر.
وآخرون اختصموا فيما بينهم؛ فصار بعضهم يقول: الصواب فيما ذكره الأدلاء، وآخرون يقولون: بل الصواب مع هؤلاء الذين يقولون: إنهم أخبر وأحذق، وكلامهم في الدلالة أبين وأصدق، وآخرون حاروا مع من الصواب، ووقفوا موقف الارتياب، فاقتتل هؤلاء وهؤلاء، وخذل الحائرون الواقفون لهؤلاء، وفاتت باختلافهم مصالح دينهم ودنياهم، فهلك الحجيج، وكثر الضجيج، وعظم النشيج، واضطربت السيوف، وعظمت الحتوف، وتزاحفت الصفوف، وحصل من الفتنة والشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد.
فهل من فعل هذا بالحجيج يكون قد هداهم السبيل، وأرشدهم إلى اتباع الدليل؟! أم يكون مفسدًا عليهم دينهم ودنياهم، فاعلاً بهم ما لا يفعله إلا أشد عداهم؟!
وإذا قال: إنما قصدت بذلك أن يجتهد الحجاج في أن يعرفوا الطريق بعقولهم، ولا يستدلوا بكلام الأدلاء الذين أرسلتهم لتعريفهم؛ لينالوا بذلك أجر المجاهدين، وتنبعث هممهم إلى طريق المجالدين، هل يصدقه في ذلك عاقل؟ أو يقبل عذره من عنده حاصل؟
فهذا مثال ما يقوله هؤلاء في الرسول الذي أرسله الله -تعالى- إلى الخلق؛ ليعلمهم، ويهديهم السبيل، ويدعوهم إلى الله -تعالى-.